المادة -124-
المادة 124 – المشكلة الاقتصادية هي توزيع الأموال والمنافع على جميع أفراد الرعية وتمكينهم من الانتفاع بها بتمكينهم من حيازتها ومن السعي لها.
بيّنت هذه المادة أن المشكلة الاقتصادية ذات شقين: أحدهما فقر الأفراد، أي ضمان أن تصل ثروة البلاد إلى كل فرد من أفراد الرعية بحيث لا يحرم منها أي فرد، والثاني تمكين كل فرد في الرعية من حيازة الثروة والانتفاع بها. أما الشق الأول فدليله الآيات والأحاديث التي جاءت بشأن الفقير، وبشأن المسكين، وبشأن ابن السبيل. وهذه الأدلة جاءت من الكثرة والتنويع بحيث تلفت النظر إلى أهمية هذه المشـكلة، أما الآيات فقال تعالى: ((وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) [الحج] وقال: ((وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ * لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ)) [البقرة 272-273] وقال: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [التوبة 60] وقـال: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [الحشر 7] إلى أن يقــول: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ)) [الحشر 8] وقـــال: ((إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ)) [البقرة 271] وقـــال: ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ)) [البقرة 184] وقــــــال: ((فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً)) [المجادلة 4] وقال: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً)) [الإنسان] وقال: ((أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ)) [البلد 14-16] وقــــال: ((قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [البقرة 215] وقــال: ((وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ)) [البقرة 177] وقال: ((كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ)) [المائدة 95] وقـال: ((فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ)) [المائدة 89] وقــال: ((وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)) [الذاريات 19] وقال: ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ)) [المعارج 24-25] وأما الأحاديث فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» أخرجه أحمد عن ابن عمر وصححه أحمد شاكر وقال صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ وَجَارُهُ جَائِعٌ وَهُوَ يَعْلَمُ» أخرجه البزار عن أنس بإسناد حسنه الهيثمي والمنذري. فهذه الآيات والأحاديث، وجميع الآيات التي وردت بالإنفاق، وأحكام الصدقات، وأحكام الزكاة، وتكرار الحث على إعالة الفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين أي من تحقق فيهم صفة الفقر، كل ذلك يدل دلالة واضحة على أن المشكلة الاقتصادية هي فقر الأفراد، أي هي سوء توزيع الثروة على الأفراد بحيث ينتج عن هذا التوزيع فقر الأفراد، فتكون المشكلة هي توزيع الثروة على كل فرد من الرعية، فيجب أن يعالج هذا التوزيع، بحيث تصل هذه الثروة لكل فرد. فالأدلة جاءت على أن هذا التوزيع يجب أن يصيب كل فرد، ولأجل أن يصيب كل فرد يجب أن يعالج من حرم منه، أي أن يعالج الفقراء والمساكين وابن السبيل والسائلين، أي من تحقق فيهم صفة الفقر. وهذه هي أدلة الشق الأول من المادة.
أما الشق الثاني من المادة فإن الدليل عليه أن الله تعالى قد أباح الملكية إباحة عامة في كل سبب أباح التملك به، فقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ أَحَاطَ حَائِطًا عَلَى أَرْضٍ فَهِيَ لَهُ» أخرجه أحمد وأبو داود بإسناد صححه ابن الجارود والزين، وقــال تعـالى: ((أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ)) [المائدة 96] وهكذا فإباحة الملكية وعموم هذه الإباحة، لكل فرد من أفراد الرعية المسـلم والذمي سواء، يدل على تمكينه من حيازة الملكية ومن السعي لها، وكذلك جاءت أدلة الانتفاع بالأكـل واللبس والسـكنى والتمتع عامة، قـال تعالى: ((فَكُلُوا مِنْهَا)) وقـال عليه الصــلاة والسـلام: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخـرجه البخـاري من طريق المقدام. وقال تعالى: ((كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ)) [الأنعام 142] وقال تعالى: ((وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالاً طَيِّباً)) [المائدة 88] وقـــال تعـــالى: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) [البقرة 172] وقال تعالى: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)) [الأعراف 32] وغير ذلك من الأدلة. وكلها جاءت عامة، وعموم هذه الإباحة تشمل بالانتفاع كل فرد من أفراد الرعية مسلماً كان أو ذمياً، وهذا كله يعني أن الشريعة قد مكنت كل فرد من الرعية من حيازة المال، ومن الانتفاع به.
وعلى هذا تكون الأدلة الشرعية قد جاءت وبينت المشكلة الأساسية ما هي ببيان علاجها، فبينتها أنها فقر الأفراد، وعدم تمكين كل فرد منهم من حيازة المال والانتفاع به، حين جاءت فصبت علاجها على فقر الأفراد، وأباحت حيازة المال والانتفاع به إباحة عامة، وجعلت هذه الإباحة الأساس في شؤون الاقتصاد. هذه هي المشكلة الأساسية، أو بتعبير آخر المشكلة الأساسية هي توزيع الثروة، وليس إنتاج الثروة، إذ هي فقر الأفراد، وعدم تمكينهم من حيازة الثروة ومن الانتفاع بها، وليس فقر البلاد وحاجتها للثروة، فتكون المشكلة هي التوزيع وليس الإنتاج.
والدليل على أن المشكلة الأساسية هي التوزيع وليس الإنتاج، هو الأدلة الشرعية التي جاءت لمعالجة الفقر، وإباحة الملكية، وإباحة الانتفاع بها، وكذلك واقع الحياة الاقتصادية. أما بالنسبة للأدلة الشرعية فإن هناك أدلة جاءت لمعالجة فقر الأفراد، وإباحة الملكية، وإباحة الانتفاع، أي أدلة جاءت منصبة على التوزيع، وهناك أدلة جاءت لمعالجة فقر البلاد، أي جاءت للإنتاج. وبالتدقيق في أدلة كل من الأمرين يتبين أن أدلة فقر الأفراد، وإباحة الملكية، والانتفاع، جاءت من الكثرة والتنويع إلى حد يلفت النظر، مما يدل على بالغ الاهتمام، وجاءت تعالج أصلاً وليس أمراً فرعياً. فالآيات والأحاديث المتعلقة بالفقر، أي بسوء التوزيع ومعالجته، بلغت حد الاستفاضة، والأدلة التي جاءت لإباحة الملكية بلغت كذلك حد الاستفاضة بإباحة الملكية وإباحة الانتفاع. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الذي عالجته وهو الحيازة للثروة أصل في الاقتصاد ليس وراءه أصل، وعنه تتفرع جميع مشاكل الاقتصاد، فهو إذن المشكلة الأساسية. ومن هنا جاء أن المشكلة الأساسية هي التوزيع، أي أن كون أدلة الفقر وأدلة إباحة الملكية والانتفاع مستفيضة، وكونها تعالج أصلاً ما بعده أصل، وعنه تتفرع جميع مشاكل الاقتصاد، دليل على أن المشكلة الأساسية في الاقتصاد هي التوزيع. وهذا بخلاف أدلة فقر البلاد، أو بعبارة أخرى أدلة الإنتاج، فإنها جاءت محدودة معدودة، وجاءت تعالج ما يقتضي الإنتاج، لا الإنتاج مباشرة. وما جاء منها دليلاً على الإنتاج مباشرة لا يكاد يذكر. فقد جاءت أحكام شرعية تقتضي إيجاد الثروة في البلاد، أي تقتضي علاج الإنتاج. فقوله تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ)) [الأنفال 60] يقتضي وجود الثروة في البلاد ويوجب العمل لإيجادها. وتوفير الأمن للرعية والقيام بمصالحها وما يلزم لها من شق طرقات وإيجاد المياه وبناء المدارس والمساجد وتوفير التطبيب والتعليم ومعالجة الحوادث الطارئة كالزلازل والطوفان والنهوض بأعباء الرعية من كل ما يلزم كل هذا وما شابهه يقتضي وجود الثروة ويوجب العمل لإيجادها. وكذلك معالجة فقر الأفراد الذي هو المشكلة الأساسية لا يتأتى إلا بوجود الثروة فهو يحتم العمل لإيجـادها. فهذه الأحكـام تعالج ما يقتضي الإنتاج، وليس الإنتاج نفسه. ولكنها تدل على وجوب الإنتاج من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. وأما الأحكام الصريحة التي جاءت في الحث على إيجاد الثروة فإنها وإن كانت موجودة ولكنها محدودة معدودة، فقد قال الله تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) [الجمعة 10] وقال تعالى: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) [الملك 15] وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» أخرجه البخاري من طريق المقدام. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ طَلَبَ الدُّنْيَا حَلاَلاً، اسْتِعْفَافاً عَنِ المَسْأَلَةِ، وَسَعْياً عَلَى أَهْلِهِ، وَتَعَطُّفاً عَلَى جَارِهِ، جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجْهُهُ كَالقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» أخرجه البيهقي في الشعب عن مكحول مرسلاً. وقال صلى الله عليه وسلم: «طَلَبُ الحَلالِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» أخرجه الطبراني في الأوسط من طريق أنس بإسناد حسنه الهيثمي والمنذري. فهذه أدلة مباشرة في الحث على طلب الرزق، أي في الحث على الإنتاج، أو بتعبير آخر بمعالجة فقر البلاد، ولكن يبدو منها أيضاً أن المخاطب بها الأفراد، وأن الحث على الإنتاج إنما هو لمعالجة حاجتهم الفردية، إما بسد العوز، أو بزيادة ملكيتهم، أي إباحة الانتفاع، هذا من جهة. ومن جهة أخرى فإن الذي عالجته هذه الأدلة مباشرة أو مما يقتضيه إنما هو العمل للملكية، وليس العمل فقط. أي هو الإنتاج للحيازة، وليس الإنتاج فقط. مما يدل على أن العمل ناتج عن الحيازة، وهو يدل على أنه فرعي وليس أصلياً. فهو فرع عن الحيازة وليس أصلاً لها. ولذلك جاءت الأحكام التي تقتضي الإنتاج بالحيازة وكان الإنتاج مما تقتضيه، وجاءت الأحكام المباشرة في أدلتها تبين الإنتاج للانتفاع، فجعلت السعي من أجل الأكل في الآية، وجعلت الأكل من السعي في الحديث الأول، وعبرت عن السعي بطلب الدنيا وطلب الحلال في الحديثين الثاني والثالث، وكل هذه الأحكام بأدلتها تعني حيازة المال. وهذا كله يدل على أن الإنتاج ليس المشكلة الأساسية، بل هو مشكلة من مشاكل الاقتصاد، ويدل كذلك على أن المشكلة الأساسية هي الملكية، أو بعبارة أخرى هي الحيازة، وهذا يعني أنها التوزيع.
هذا كله بالنسبة للأدلة الشرعية، أما بالنسبة لواقع الحياة الاقتصادية فإن الذي لا ينكره أحد أن كل بلد يعاني اضطراباً اقتصادياً إنما يعانيه من جراء سوء التوزيع، وليس من جراء قلة الإنتاج. فالنظام الاشتراكي ومنه الشيوعي ما ظهر إلا نتيجة للظلم الذي عاناه المجتمع من النظام الرأسمالي، أي نتيجة لسوء التوزيع. والترقيعات التي يحاول الرأسماليون إدخالها على نظامهم كلها تتعلق بالتوزيع. والاجتهادات الاشتراكية إنما تتناول مسألة التوزيع، والأقطار التي يسمونها أقطاراً متخلفة إنما تخلفها كان من جراء سوء التوزيع، وليس من فقر البلاد. ولذلك فإن واقع المشكلة الأساسية في الاقتصاد إنما هي سوء التوزيع، وليس قلة الإنتاج. وهذا شيء ملموس يلمسه كل إنسان، سواء أكان مسلماً أم رأسمالياً أم اشتراكياً. فإن العالم كله فيه من الإنتاج ما يزيد على حاجات الناس، ولكن سوء توزيعه جعل بعض الناس أغنياء غنىً فاحشاً، وبعض الناس فقراء فقراً مدقعاً. حتى البلدان التي تشكو قلة الإنتاج فإن المشكلة الأساسية التي تعانيها هي سوء التوزيع في الدرجة الأولى، ثم تأتي قلة الإنتاج. وعلى هذا فإن واقع الحياة الاقتصادية يدل على أن المشكلة الأساسية في الاقتصاد هي التوزيع، وليس الإنتاج.