المادة -125-
المادة 125 – يجب أن يُضْمَنَ إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فرداً إشباعاً كلياً. وأن يُضْمَنَ تمكين كل فرد منهم من إشباع الحاجات الكمالية على أرفع مستوى مستطاع.
هذه المادة ذات شقين: أحدهما: ضمان إشباع الحاجات الأساسية، والثاني: التمكين من إشباع الحاجات الكمالية. أما الشق الأول فإن له عدة أدلة، فإن الشارع حث على الكسب وعلى طلب الزرق وعلى السعي، وجعل السعي لكسب الرزق فرضاً على القادر المحتاج لسد الحاجات الأساسية له ولمن يعول، قال تعالى: ((فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ)) [الملك 15] وقال تعالى: ((فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ)) [الجمعة 10] وقال صلى الله عليه وسلم: «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْماً أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ» أخرجه أبو داود بإسناد صححه النووي من طريق عبد الله بن عمرو بن العاص، وهذا هو الأصل في ضمان إشباع الإنسان جميع حاجاته الأساسية من كسبه. فالله قد فرض العمل على القادر المحتاج من الذكور ليقوم بإشباع حاجاته. وهذا يعني أن العمل إجباري على هذا القادر، فإن لم يقم به يعاقب شأن كل فرض. وأما الإناث والعاجزون من الذكور فقد فرض لهم النفقة وجعلها حقاً لازماً وألزم الدولة بتحصيلها على وجهها الشرعي. ففرض النفقة للزوجة على الزوج، قال صلى الله عليه وسلم: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ»، وفرض النفقة على الأب لأولاده، قال تعالى: ((وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة 233] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لهند لما شكت له أن أبا سفيان رجل شحيح: «خُذِيْ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»، وفرض النفقة للأقارب الورثة قال تعالى: ((وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ)) [البقرة 233] بعد قوله: ((وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة 233]، فأوجب الشرع النفقة للأنثى مطلقاً، إذ إنه لم يفرض عليها الكسب، وأوجب النفقة للعاجزين من الذكور على الوارث إذا كان هؤلاء فقراء. وفي حال عدم وجود أحد ممن تجب عليه النفقة، أو وجد ولكن لا يستطيع الإنفاق، أوجب الشرع هذه النفقة على بيت المال أي على الدولة. عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلِوَرَثَتِهِ، وَمَنْ تَرَكَ كَلاًّ فَإِلَيْنَا» متفق عليه من طريق أبي هريرة، والكلُّ هو الضعيف الذي لا ولد له ولا والد، وفي رواية أخرى: «مَنْ تَرَكَ مَالاً فَلأِهْلِهِ وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» رواه مسلم من طريق جابر، وضياعاً أي عيالاً قال في القاموس المحيط: “والضَّياعُ أيضاً: العِيالُ، أو ضُيَّعُهُم”، فالفقير إن كان أنثى ضمن الشرع له إشباع جميع حاجاته الأساسية بهذه الأدلة، وإن كان ذكراً عاجزاً عن الكسب، أو كان كسبه لا يكفيه، ضمن له الشرع كذلك إشباع جميع حاجاته الأساسية بهذه الأدلة. والعاجز شرعاً: إما عاجز حقيقة وهو من لا يقدر على العمل، وإما عاجز حكماً وهو من لا يجد عملاً يكسب منه، فكل منهما عاجز. وقد ضمن الشرع لهم بهذه الأدلة جميع حاجاتهم الأساسية بإيجاب النفقة للأنثى مطلقاً وللعاجز حقيقة أو حكماً من الذكور، على الزوج وعلى الوارث. ثم إن لم يجدوا أو عجزوا فعلى بيت المال أي على الدولة.
ولكي يضمن الشرع قيام بيت المال بهذه النفقة عني بالواردات المخصـصـة لها عناية خـاصـة، فجـعل في بيت المال جهة كالزكاة للفقراء: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ)) [التوبة 60] إلى أن يقول: ((وَابْنِ السَّبِيلِ))، فإن لم تفِ الزكاة كانت النفقة على واردات بيت المال الأخرى، لقوله عليه الصلاة والسلام: «وَمَنْ تَرَكَ دَيْنًا أَوْ ضَيَاعًا فَإِلَيَّ وَعَلَيَّ» أخرجه مسلم من طريق جابر، أي على الدولة، ولقوله عليه الصلاة والسلام: «الإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» رواه البخاري من طريق عبد الله بن عمر، ومن أهم المسؤوليات عن الرعية ضمان إشباع الحاجات الأساسية لهم، فتكون نفقاتهم من واردات بيت المال، فإن من مسؤولية الدولة توفير النفقة للفقير، فإن لم تكفِ واردات بيت المال الثابتة للنفقات فُرضت على أغنياء المسلمين ضرائب بمقدار كافٍ لهذه النفقات، وفق الأحكام الشرعية التي جعلت للخليفة فرض الضرائب في مثل هذه الحالة؛ لأن توفير النفقة للفقراء إن لم تكفها واردات الزكاة ولم تف بها واردات بيت المال الثابتة يُصبح فرضاً على جميع المسلمين، قال صلى الله عليه وسلم: «وَأَيُّمَا أَهْلُ عَرْصَةٍ أَصْبَحَ فِيهِمْ امْرُؤٌ جَائِعٌ فَقَدْ بَرِئَتْ مِنْهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ تَعَالَى» أخرجه أحمد من طريق ابن عمر وصححه أحمد شاكر، وهو إخبار مفهومه يفيد طلب إطعام الجائع، ومقرون بالذم إن لم يُطعموا، فكان طلباً جازماً، فدل على أنه فرض عليهم، فيفرضه الخليفة ضرائب على القادرين منهم، وينفذ كتنفيذ أي فرض. فهذا كله دليل على أن الشرع يوجب ضمان إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع الأفراد فرداً فرداً، ويعين الواردات التي تضمن القيام بهذا الإشباع. ويضمن قيامها به واستمرار ذلك.
هذا من ناحية ضمان الإشباع لجميع الأفراد فرداً فرداً، أما من ناحية أن يكون الإشباع لجميع الحاجات الأساسية فإن واقع الحياة للفرد أن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، والأدلة الشرعية جاءت تضمن النفقة، والنفقة هي المأكل والملبس والمسكن، علاوة على أن هناك أدلة تدل على أن هذه الثلاث المأكل والملبس والمسكن هي الحاجات الأساسية، وما عداها فضل وزيادة.
أما الأدلة على أن النفقة هي المأكل والملبس والمسكن فالله تعالى يقول: ((وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة 233 ] ويقول: ((أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ)) [الطلاق 6]، ويقول: ((مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ)) [المائدة 89]. فبين الله أن الطعام والكسوة والمسـكن هي النفقة. وقال صلى الله عليه وسلم عن النساء أي الزوجات: «أَلا وَحَقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَنْ تُحْسِنُوا إِلَيْهِنَّ فِي كِسْوَتِهِنَّ وَطَعَامِهِنَّ» أخرجه الترمذي من طريق عمرو بن الأحـوص وصححه. وقال عليه الصـلاة والسـلام في حديث آخر: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» أخرجه مسلم من طريق جابر. وهذه أدلة على أن النفقة هي المأكل والملبس والمسكن، وهذه هي الحاجات الأساسية.
وأما الأدلة على أن المأكل والملبس والمسكن هي الحاجات الأساسية للأفراد، وما عداها زيادة، فقد أخرج أحمد بإسناد صححه أحمد شاكر من طريق عثمان بن عفان رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ شَيْءٍ سِوَى ظِلِّ بَيْتٍ، وَجِلْفِ الْخُبْزِ، وَثَوْبٍ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَالْمَاءِ، فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ». وقد ورد الحديث بلفظ آخر «لَيْسَ لابْنِ آدَمَ حَقٌّ فِي سِوَى هَذِهِ الْخِصَالِ: بَيْتٌ يَسْكُنُهُ، وَثَوْبٌ يُوَارِي عَوْرَتَهُ، وَجِلْفُ الْخُبْزِ وَالْمَاءِ» أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح. فإنه يدل على أن ما ذكر في لفظي الحديث وهو المأكل والملبس والمسكن: «ظِلُّ بَيْتٍ» «بَيْتٌ يَسْكُنُهُ» «ثَوْبٌ يُوارِي عَوْرَتَهُ» «جِلَفُ الخُبْزِ وَالْمَاءِ» كافٍ، وفيه الكفاية، وقوله في الحديث: «فَمَا فَضَلَ عَنْ هَذَا فَلَيْسَ لابْنِ آدَمَ فِيهِ حَقٌّ» فيه منتهى الصراحة بأن هذه الحاجات الثلاث هي الحاجات الأساسية، فالحديثان نصٌ في أن الحاجات الأساسية هي المأكل والملبس والمسكن، وما زاد عليها فليس بأساسي، وبإشباعها تكون قد أشبعت الحاجات الأساسية للأفراد.
أما الدليل على أن هذا الإشباع يجب أن يكون إشباعاً كلياً فهو ما ورد بالأدلة من أن يكون هذا الإشباع بالمعروف، وأن يكون قدر الكفاية. فالله تعالى يقول: ((بِالْمَعْرُوفِ)) في قوله ((وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)) [البقرة 233] والرسول صلى الله عليه وسلم يقول «بِالْمَعْرُوفِ» في قوله: «وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ» ومعنى بالمعـروف أي بما هو معروف عند الناس. وقال صلى الله عليه وسلم لهنـد: «مَا يَكْفِيكِ» وقـال: « بالمعروف» في قـوله لهند: «خُذِي مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ» متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها، فنص على قدر الكفاية. فهذا يدل على أن الإشباع يكون إشباعاً كلياً، أي لجميع الحاجات الأساسية بما يكفيه حسب ما هو معروف بين الناس. فاشـترط الكفاية، أي حتى يشـبع من الطعام، ويستر من الكسوة، ويأوي إليه من المسكن، واشترط إلى جانب الكفاية أن تكون هذه الكفاية بالمعروف، أي ليس الكفاية بأقل ما يكفي من أدنى الأشياء، بل الكفاية بما هو معروف في ذلك البلد الذي يعيش فيه، والجماعة التي يعيش بينها. وبهذا يثبت أن الإشباع لا بد أن يكون إشباعاً كلياً، وهذه كلها أدلة الشق الأول من المادة.
ثم إن الأدلة الشرعية لم توجب سد الحاجات الأساسية للأفراد فرداً فرداً فحسب، بل كذلك أوجبت سد حاجات الأمة الأساسية بتوفير الأمن والطب والتعليم للرعية:
أما الأمن فهو من واجبات الدولة الرئيسة، فعليها أن توفر الأمن والأمان للرعية، حتى إن الدولة تفقد كينونتها إذا لم تستطع حفظ أمنها، ولذلك فإنه شرط في دار الإسلام أن تكون الدولة الإسلامية قادرة على حفظ أمنها بقواتها، ولهذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أخبر المسلمين بدار هجرتهم ذكر الأمن أول ما ذكر، فقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه في مكة فيما رواه ابن اسحق في سيرته: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ إِخْوَاناً وَدَاراً تَأْمَنُونَ بِهَا»، كما أن الأنصار عندما استقبلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبا بكر، قالوا لهما أول ما قالوا، كما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس «فَاسْتَقْبَلَهُمَا زُهَاءُ خَمْسِمائةٍ مِنَ الأَنْصَارِ حتى انْتَهَوْا إِلَيْهِمَا. فقالت الأنصارُ: انْطَلِقَا آمِنَيْنِ مُطَاعَيْنِ»، فتوفير الدولة الأمان للرعية هو من واجباتها الرئيسة.
أما الصحة والتطبيب فإنهما من الواجبات على الدولة بأن توفرهما للرعية، حيث إن العيادات والمستشفيات، مرافق يرتفق بها المسلمون في الاستشفاء والتداوي. فصار الطب من حيث هو من المصالح والمرافق. والمصالح والمرافق يجب على الدولة أن تقوم بها لأنها مما يجب عليها رعايته عملاً بقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الإِمَامُ رَاعٍ وَهُوَ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ» أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمر. وهذا نص عام على مسؤولية الدولة عن الصحة والتطبيب لدخولهما في الرعاية الواجبة على الدولة.
وهناك أدلة خاصة على الصحة والتطبيب: أخرج مسلم من طريق جابر قال: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ طَبِيبًا فَقَطَعَ مِنْهُ عِرْقًا ثُمَّ كَوَاهُ عَلَيْهِ». وأخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: «مَرِضْتُ فِي زَمَانِ عُمَرَ بِنَ الْخَطَّابِ مَرَضاً شَدِيداً فَدَعَا لِي عُمَرُ طَبِيباً فَحَمَانِي حَتَّى كُنْتُ أَمُصُّ النَّوَاةَ مِنْ شِدَّةِ الْحِمْيَةِ».
فالرسول صلى الله عليه وسلم بوصفه حاكماً بعث طبيباً إلى أبيّ، وعمر رضي الله عنه الخليفة الراشد الثاني دعا بطبيب إلى أسلم ليداويه، وهما دليلان على أن الصحة والتطبيب من الحاجات الأساسية للرعية التي يجب على الدولة توفيرها مجاناً لمن يحتاجها من الرعية.
وأما التعليم، فلأن الرسول صلى الله عليه وسلم جعل فداء الأسير من الكفّار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل فدائه من الغنائم، وهي ملك لجميع المسلمين… ولإجماع الصحابة على إعطاء رزق المعلمين قدراً معيناً من بيت المال أجراً لهم.
وعـليه فإنه يجـب على الدولة أن توفـر الأمـن والطـب والتعليم للرعية جميعهم، وأن يضـمنها بيت المـال، لا فـرق بين مسلم وذمي، ولا بين غني وفقير…
ولأهمية الحاجات الأساسية للفرد وللأمة فقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن توفير هذه الحاجات يكون كحيازة الدنيا بأكملها كناية عن أهمية هذه الحاجات، فقد أخرج الترمذي من طريق سَلَمَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ وكانت له صحبة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» قَالَ أَبُو عِيسَى هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ. وكذلك رواه ابن ماجه بإسناد حسن، وعند أبي نعيم في الحلية عن طريق أبي الدرداء نحوه، ولكن بزيادة بحذافيرها، أي «حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا»
وبهذا تكون هذه الأدلة كلها دالة على وجوب ضمان إشباع جميع الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية فرداً فرداً، من مأكلٍ وملبسٍ ومسكنٍ، وكذلك دالة على وجوب توفير الخدمات الأساسية للأمة، من أمنٍ وصحةٍ وتعليم.
وأما الشق الثاني من المادة وهو التمكين من إشباع الحاجات الكمالية فإن فرض العمل على القادر من الذكور يصلح كذلك دليلاً على التمكين لإشباع الحاجات الكمالية، كما صلح دليلاً على إشباع الحاجات الأساسية. لأنه أطلق الحث على الكسب ولم يقيده بحدود إشباع الحاجات الأساسية، فهذا الإطلاق دليل على أن الشرع مكنه من إشباع حاجاته الكمالية من كسبه. وأيضاً فإن إباحة التمتع بالطيبات دليل كذلك على التمكين من إشباع الحاجات الكمالية، قـــال تعــالى: ((كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)) [البقرة 57] وقال: ((قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ)) [الأعراف 32]، وقال: ((وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) [آل عمران 180]، وقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ)) [المائدة 87]، وقـــــــال: ((لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ)) [الطلاق 7] وقال: ((وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا)) [القصص 77]. فهذه كلها أدلة على أن الشرع أباح لكل فرد أن يشبع حاجاته الكمالية، فمكنه بهذه الإباحة من الإشباع، علاوة على ما ورد من النهي عن البخل، ومن تقريع من يمنع التمتع بالطيبات، مما يدل على التمكين بأجلى بيان. وهذه هي أدلة الشق الثاني من المادة.