المادة -135-
المادة 135 – يمنع تأجير الأرض للزراعة مطلقاً سواء أكانت خراجية أم عشرية، كما تمنع المزارعة، أما المساقاة فجائزة مطلقاً.
أدلتها كثيرة وكلها نص في منع إجارة الأرض، فقد روى رافع بن خديج قال: «كُنَّا نُخَابِرُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَذَكَرَ أَنَّ بَعْضَ عُمُومَتِهِ أَتَاهُ فَقَالَ: نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ أَمْرٍ كَانَ لَنَا نَافِعاً، وَطَوَاعِيَةُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَنْفَعُ لَنَا وَأَنْفَعُ. قَالَ: قُلْنَا: وَمَا ذَاكَ؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلا بِرُبُعٍ وَلا بِطَعَامٍ مُسَمًّى» أخرجه أبو داود. وعن ابن عمر قال: «مَا كُنَّا نَرَى بِالْمُزَارَعَةِ بَأْساً حَتَّى سَمِعْنَا رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ يَقُولُ: نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْهَا» أخرجه ابن قدامة في المغني ورواه مسلم والشافعي مع اختلاف يسير. وقال جابر: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ» رواه مسلم من طريق جابر، والمخابرة: المزارعة، وروى البخاري عن جابر قال: كانوا يزرعونها بالثلث والربع والنصف فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ»، وروى أبو داود عن زيد بن ثابت قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ، قُلْتُ: وَمَا الْمُخَابَرَةُ؟ قَالَ: أَنْ تَأْخُذَ الأَرْضَ بِنِصْفٍ أَوْ ثُلُثٍ أَوْ رُبْعٍ»، وروى رافع: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» متفق عليه. وروى ظهير بن رافع قال: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، أَوْ عَلَى الأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: لا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا» أخرجه البخاري ومسلم، وروى أبو سعيد الخدري قال: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ» أخرجه النسائي ومسلم، والمحاقلة: استكراء الأرض بالحنطة، وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ»، وفي صحيح مسلم من طريق جابر: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ»، وفي سنن النسائي عن أسيد بن ظهير: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا نُكْرِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَبِّ، قَالَ: لا، قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ، فَقَالَ: لا، وَكُنَّا نُكْرِيهَا عَلَى الرَّبِيعِ، قَالَ: لا، ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ»، والربيع: النهر الصغير، أي الوادي، أي كنا نكريها على زراعة القسم الذي على الربيع أي على جانب الماء. وروي أن عبد الله بن عمر لقي رافع بن خديج فسأله فقال: سمعت عَمَّيَّ وكانا قد شهدا بدراً يحدثان: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ» أخرجه مسلم وذكر الحديث وفيه أن ابن عمر ترك كراء الأرض.
فهذه الأحاديث صريحة في نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن تأجير الأرض. والنهي وإن كان يدل على مجرد طلب الترك غير أن القرينة هنا تدل على أن الطلب للجزم. أما بالنسبة لتحريم المزارعة، فقد أخرج أبو داود عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ لَمْ يَذَرْ الْمُخَابَرَةَ، فَلْيَأْذَنْ بِحَرْبٍ مِنْ اللهِ وَرَسُولِهِ» صححه ابن حبان والحاكم وسكت عنه المنذري. وأما بالنسبة لكراء الأرض مطلقاً فقد قالوا للرسول حين نهاهم عن كراء الأرض، نكريها بشيء من الحب، قال: لا، ثم قالوا له نكريها بالتبن فقال: لا، ثم قالوا: نكريها على الربيع فقال: لا، ثم أكد ذلك بقوله: ازرعها أو امنحها أخاك. وهذا واضح فيه الإصرار على النهي وهو للتأكيد. والحديث ظاهر فيه الجزم، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم نهاهم عن كراء الأرض على الإطلاق، فأرادوا أن يستثنوا من هذا الإطلاق حالات، فعرضوا أول حالة على الرسول ليبيحها لهم فقالوا: إذن نكريها بشيء من الحب، فأجابهم الرسول رافضاً ما طلبوا، فقال: لا. ثم عرضوا حالة ثانية غير الأولى ليبيحها لهم، فقالوا: نكريها بالتبن فأجابهم رافضاً ذلك أيضاً فقال: لا. ثم عرضوا له حالة ثالثة غير الحالتين الأوليين ليبيحها لهم فقالوا: كنا نكريها على الربيع فأجابهم للمرة الثالثة رافضاً ما طلبوا فقال: لا. ثم لم يكتف بذلك بل حصر كيفية التصرف بالأرض بواحدة من اثنتين فقال: «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ». فهذا التكرار في الرفض مع تنوع الحالات يدل وحده على أن النهي للجزم، ثم هذا الحصر وحده أيضاً يدل على الجزم، إذ إن قوله: «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ» للحصر، وحرف “أو” يأتي للإباحة إذا يمكن الجمع بين الاثنين مثل جالس الكُتّاب أو الشعراء، فهو هنا للإباحة وليس فيه حصر. وأما إذا كان بين شيئين لا يمكن الجمع بينهما فهو للتخيير بواحدة منهما وهو يفيد الحصر في هذه الحالة. ومعنى “أو” في قول الرسول صلى الله عليه وسلم «ازْرَعْهَا أَوِ امْنَحْهَا» هي للحصر لأن الجمع بين (ازرعها أو امنحها) غير ممكن، فلا تزرع وتمنح في الوقت نفسه، ولذلك فإن “أو” هي هنا للتخيير بين شيئين افعل هذا أو هذا، أي الحصر في واحدة منهما لا غير. وعليه فإن الحديث في التكرار الذي فيه، وفي كيفية التكرار، وفي الحصر الذي فيه، يدل على الجزم فهو قرينة على أن النهي الوارد في أحاديث النهي عن إجارة الأرض مطلقاً نهي جازم. ويؤيد أن النهي للتحريم ما ورد في رواية أبي داود عن رافع (وصححه الحاكم) قال: «أَنَّهُ زَرَعَ أَرْضًا فَمَرَّ بِهِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَسْقِيهَا، فَسَأَلَهُ: لِمَنْ الزَّرْعُ وَلِمَنْ الأَرْضُ؟ فَقَالَ: زَرْعِي بِبَذْرِي وَعَمَلِي، لِي الشَّطْرُ وَلِبَنِي فُلاَنٍ الشَّطْرُ، فَقَالَ: أَرْبَيْتُمَا، فَرُدَّ الأَرْضَ عَلَى أَهْلِهَا وَخُذْ نَفَقَتَكَ» فقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذه المعاملة بأنها ربا، والربا حرام بالنص القطعي، وأيضاً طلب الرسول من رافع أن يرد الأرض على صاحبها بما فيها من زرع ويأخذ نفقته، أي طلب منه فسخ المعاملة. فدل على أن النهي نهي جازم فهو حرام. فهذه الأحاديث الثلاثة: حديث جابر في الوعيد على المخابرة أي المزارعة، وحديث النسائي في التكرار والحصر، وحديث رافع في وصف إجارة الأرض بالربا وفسخ المعاملة، قرينة قاطعة على أن النهي للجزم، وهو يدل على تحريم إجارة الأرض مطلقاً.
فمن منطوق هذه الأحاديث ومفهومها لا توجد أدنى شبهة في حرمة تأجير الأرض مطلقاً. غير أنه وجد في الأئمة من يجيز إجارة الأرض، لذلك فإننا نبين الأدلة التي استند إليها بعض الأئمة في جواز إجارة الأرض لنقضها وليس لنقدها فحسب.
يقول من يجيز إجارة الأرض إن الأرضَ عينٌ يمكن استيفاء المنفعة المباحة منها مع بقائها، فجازت إجارتها بالأثمان ونحوها، كالدور. والحكم في العروض كالحكم في الأثمان. ونقض هذا القول في منتهى الظهور، فإن الأرض وإن كانت عيناً يمكن استيفاء المنفعة منها كالدور، ولكن النص جاء صريحاً في تحريم إجارة الأرض، فهي وإن انطبق عليها تعريف الإجارة ولكن النص جاء فحرمها، ولذلك كانت حراماً. فدليل الإجارة جاء عاماً يشمل كل إجارة، ولكن جاء دليل تحريم إجارة الأرض يخصصه في غير إجارة الأرض، فاستثنى من ذلك إجارة الأرض فحرمها. ولذلك كانت حراماً. ونظيره قوله تعالى: ((كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالاً طَيِّباً)) [البقرة 168] فهو عام يشمل كل شيء، فجاء قوله تعالى: ((حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ)) [المائدة 3] فخصصه في غيرها، فاستثنيت من العموم هذه الأشياء. وبهذا ينقض دليلهم على جواز إجارة الأرض.
ويقول من يجيز إجارة الأرض إن الدليل على ذلك هو ما روي عن حنظلة بن قيس عَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ: «حَدَّثَنِي عَمَّايَ أَنَّهُمْ كَانُوا يُكْرُونَ الأَرْضَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَا يَنْبُتُ عَلَى الأَرْبِعَاءِ أَوْ شَيْءٍ يَسْتَثْنِيهِ صَاحِبُ الأَرْضِ، فَنَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ، فَقُلْتُ لِرَافِعٍ: فَكَيْفَ هِيَ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ؟ فَقَالَ رَافِعٌ: لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ» أخرجه البخاري.
وواضح من حديث البخاري أن جملة: «لَيْسَ بِهَا بَأْسٌ بِالدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ» هي من قول رافع، ويؤكد هذا أيضاً رواية مسلم عن حنظلة بن قيس الأنصاري نفسه، قال: «سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلا هَذَا، فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلا بَأْسَ بِهِ»، فكله من قول رافع وليس من قول الرسول صلى الله عليه وسلم فهو رأي لرافع روي عنه في الحديث، وقول رافع ليس بدليل شرعي، ورأيه ليس بدليل شرعي. لا سيما حين يأتي النص صريحاً بخلافه. فرافع فهم من نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن كراء الأرض، وكانت تكرى ببعض ما يخرج منها، أنّ كراءها بالذهب والفضة فلا بأس، ويؤيد ذلك، أي كون هذا فهماً لرافع، ما في رواية البخاري أنّ حَنْظَلَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَنْصَارِيِّ سَمِعَ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ قَالَ: «كُنَّا أَكْثَرَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مُزْدَرَعًا، كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ بِالنَّاحِيَةِ مِنْهَا مُسَمًّى لِسَيِّدِ الأَرْضِ، قَالَ: فَمِمَّا يُصَابُ ذَلِكَ وَتَسْلَمُ الأَرْضُ، وَمِمَّا يُصَابُ الأَرْضُ وَيَسْلَمُ ذَلِكَ، فَنُهِينَا، وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» أخرجه البخاري، فرافع يقول في الحديث «وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ» وكذلك ما جاء في رواية مسلم السابقة «فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلا بَأْسَ بِهِ» فكله فهم لرافع، وفهمه لا يعتبر دليلاً شرعياً، وحين يأتي الدليل بخلافه يرد.
ويقول من يجيز إجارة الأرض إن الأدلة التي وردت في النهي عن إجارتها إنما هي عن الإجارة التي كانت حينئذ، وهي أن يستأجر الرجل الأرض بزراعته لصاحبها قسماً منها، بأن يزرع المستأجر لصاحب الأرض قسماً منها وهو القسم الذي على الوادي أجرة على زراعته هو لنفسه القسم الباقي من الأرض، أو بأن يستأجر الأرض بطعام مسمى، أو بجزء من غلتها. هذه هي الإجارة التي وردت الأحاديث في النهي عنها فتكون هذه هي الإجارة المحرمة للأرض وما عداها فيجوز؛ ولهذا تجوز إجارتها بالذهب والفضة. والجواب على ذلك هو أن أحاديث النهي لم تقتصر على ما كانوا يتعاملون به بل جاءت عامةً: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ فَلْيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلا بِرُبُعٍ وَلا بِطَعَامٍ مُسَمًّى» أخرجه أبو داود، «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُخَابَرَةِ» رواه مسلم من طريق جابر، «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أخرجه البخاري من طريق جابر، «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ» أخرجه مسلم من طريق جابر. فهذه الأحاديث عامة في النهي، حتى إنهم لما سألوا الرسول صلى الله عليه وسلم عن أنواع من المزارعة لم يقتصر جواب الرسول صلى الله عليه وسلم عليها ليكون خاصاً بها بل أضاف في الجواب حكماً عاماً، ففي سنن النسائي عن أسيد بن ظهير: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِذًا نُكْرِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْحَبِّ، قَالَ: لا، قَالَ: وَكُنَّا نُكْرِيهَا بِالتِّبْنِ، فَقَالَ: لا، وَكُنَّا نُكْرِيهَا عَلَى الرَّبِيعِ، قَالَ: لا، ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ»، وروى ظهير بن رافع قال: «دَعَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَا تَصْنَعُونَ بِمَحَاقِلِكُمْ؟ قُلْتُ: نُؤَاجِرُهَا عَلَى الرُّبُعِ، أو عَلَى الأَوْسُقِ مِنْ التَّمْرِ وَالشَّعِيرِ، قَالَ: لا تَفْعَلُوا، ازْرَعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا» أخرجه البخاري ومسلم. ومن الحديثين السابقين يتبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن نهاهم عما كانوا يتعاملون به ختم صلى الله عليه وسلم حديثيه بنص عام «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ»، «ازْرَعُوهَا أَوْ أَمْسِكُوهَا»، ولذلك تبقى الأحاديث عامةً وليست محصورةً في ما كانوا يتعاملون به، فلا تخصص بشيء مطلقاً، أي لا يخصصها ما كان عليه التعامل في إجارة الأرض عندما حصل النهي، بل يبقى النهي عاماً في كل إجارة للأرض، تماماً مثل نصوص الربا العامة التي نزلت وكان الناس يتعاملون بالربا أضعافاً مضاعفةً، فإن هذا التعامل لا يخصص نصوص الربا العامة بل تبقى على عمومها، ويحرم الربا كله وليس فقط ما كانوا يتعاملون به. وهكذا فإن إجارة الأرض حرام بكل شيء، بالذهب والفضة وبغيرهما. وبهذا ينقض استدلال من يستدل بتخصيص الأحاديث بأنواع الإجارة التي كان عليها تعامل الناس حين حصل النهي.
ويقول من يجيز إجارة الأرض إن الدليل على جواز إجارة الأرض:
ما أخرجه أبو داود والنسائي واللفظ للنسائي: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ الْمُحَاقَلَةِ وَالْمُزَابَنَةِ، وَقَالَ: إِنَّمَا يَزْرَعُ ثَلاثَةٌ: رَجُلٌ لَهُ أَرْضٌ فَهُوَ يَزْرَعُهَا، أَوْ رَجُلٌ مُنِحَ أَرْضًا فَهُوَ يَزْرَعُ مَا مُنِحَ، أَوْ رَجُلٌ اسْتَكْرَى أَرْضًا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ».
وكذلك ما عزاه الحافظ في الفتح خطأً إلى أبي داود وهو للنسائي، فقد قال: أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ سَعْدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ قَالَ حَدَّثَنِي عَمِّي قَالَ حَدَّثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِكْرِمَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْنِ لَبِيبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ: «كَانَ أَصْحَابُ الْمَزَارِعِ يُكْرُونَ فِي زَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَزَارِعَهُمْ بِمَا يَكُونُ عَلَى السَّاقِي مِنْ الزَّرْعِ، فَجَاءُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاخْتَصَمُوا فِي بَعْضِ ذَلِكَ، فَنَهَاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُكْرُوا بِذَلِكَ وَقَالَ: أَكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» وأضاف النسائي قال «وَقَدْ رَوَى هَذَا الْحَدِيثَ سُلَيْمَانُ عَنْ رَافِعٍ فَقَالَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ عُمُومَتِهِ».
واستندوا أيضاً إلى ما رواه أبو داود قال: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِكْرِمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي لَبِيبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عَنْ سَعْدٍ قَالَ: «كُنَّا نُكْرِي الأَرْضَ بِمَا عَلَى السَّوَاقِي مِنْ الزَّرْعِ وَمَا سَعِدَ بِالْمَاءِ مِنْهَا، فَنَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ وَأَمَرَنَا أَنْ نُكْرِيَهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ».
وقالوا إن هذه الأحاديث الثلاثة تدل على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة.
والجواب على ذلك أن هذه الأحاديث لا تصلح للاستدلال على جواز إجارة الأرض بالذهب والفضة، وذلك:
أما بالنسـبة للحديث الأول فلأن النسـائي راوي الحديث بيَّن بصراحة أن المرفوع من هذا الحديث هو النهي عن المحاقلة والمزابنة، وأن بقيته مدرج من كلام سعيد بن المسيب، فقد ورد في سنن النسائي في آخر الحديث ما يلي (مَيَّزَهُ إِسْرَائِيلُ عَنْ طَارِقٍ، فَأَرْسَلَ الْكَلاَمَ الأَوَّلَ وَجَعَلَ الأَخِيرَ مِنْ قَوْلِ سَعِيدٍ).
وأما بالنسبة للحديث الثاني والثالث فلا يصلحان للاستدلال، وذلك لأن مدارهما عند الجميع هو على محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة وقيل ابن أبي لبيبة، لم يوثقه إلا ابن حبان، وقال فيه ابن حجر نفسه في التقريب: ضعيف كثير الإرسال. وقال الذهبي في ميزان الاعتدال: «قال يحيى: ليس حديثه بشيء، وقال الدارقطني ضعيف، وقال آخر ليس بقوي»، وفي التذييل على التهذيب «قال ابن أبي حاتم: نا حماد نا بشر أي ابن عمر، قال: سألت مالكاً عن محمد بن عبد الرحمن الذي يروي عن سعيد بن المسيب، فقال ليس بثقة» وأما الذين حسنوه كالألباني، فإن تحسينهم له غير دقيق؛ لأنهم اعتمدوا التحسين للشواهد.
وهذا لا يتأتى إذا كان في المتن ما يخالف الصحيح، فإنه قد ورد في نهاية الحديثين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم أن يكروا بالذهب والفضة، وورد في البخاري عن رافع «وَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْوَرِقُ -أي الفضة- فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ»، أي لم تكن المعاملة بهما في كراء الأرض موجودة، مع أن الذهب والفضة قد كانا، وكان يتعامل بهما في غير كراء الأرض، فلو أمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم بكراء الأرض بهما لحصل التعامل، ولروي ذلك، ولكنه لم يرو، وفوق ذلك روي أنه لم يكن تعاملٌ بهما في كراء الأرض.
ولهذا فإن التحسين بالشواهد لا يصح بالنسبة لنهاية الحديثين «وَقَالَ أَكْرُوا بِالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ» «وَأَمَرَنَا أَنْ نُكْرِيَهَا بِذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ»، ويبقى هذا الجزء من الحديثين ضعيفاً لا يحتج به.
ويقول من يجيز إجارة الأرض إن الدليل على جواز إجارتها التعامل الذي كان عليه الناس، وإجماع الصحابة. أما التعامل فقد روي عن ابن عمر أنه كان يكري مزارعة على عهد رسول الله وأبي بكر وعمر وعثمان وصدراً من إمارة معاوية، وقد روى ابن العربي المالكي إجماع الصحابة على جواز كرائها، مما يدل على أن إجارة الأرض جائزة. والجواب على ذلك أن تعامل الناس على شيء ليس دليلاً شرعياً على جوازه، بل الدليل هو النص الشرعي من كتاب أو سنة، وفوق ذلك فإن روايتهم عن ابن عمر أنه كان يكري الأرض لا تصلح دليلاً لأن ابن عمر بعد أن سمع الحديث ترك ذلك. وهذا ثابت بروايتين عنه بأنه ترك إجارة الأرض للنهي عنها، ففي رواية عن رافع عن عميه جاء فيها: «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ تَرَكَ كِرَاءَ الأَرْضِ»، وفي رواية عن ابن عمر نفسه قال: «ما كنا نرى بالمزارعة بأساً حتى سمعنا رافع بن خديج يقول الحديث» ومفهومه أنه صار يرى بالمزارعة بأساً، والمزارعة إجارة الأرض. وعليه يرد الاستدلال بالتعامل، ويرد الاستشهاد بفعل ابن عمر. وأما إجماع الصحابة الذي يدَّعون أنهم أجمعوا على جوازها فإنما هو الإجماع على المساقاة بناء على تأجير رسول الله أرض خيبر لليهود، وليس هو الإجماع على إجارة الأرض. لأن ابن العربي أحد رواة هذا الإجماع قد ذكر هذا الإجماع في شرحه لحديث عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم عامل أهل خيبر فأجمع الصحابة على جواز هذه الإجارة، فهذا هو الإجماع الذي ينقلونه، وهذا إجماع على المساقاة وليس إجماعاً على إجارة الأرض، فلا يستدل به. وعليه لا يصلح دليلاً على جواز إجارة الأرض.
ويقول الذين يجيزون إجارة الأرض إن الدليل على جواز إجارتها بالذهب والفضة هو إجماع الصحابة على ذلك وقد نقله صاحب الفتح فقال: «وأطلق ابن المنذر أن الصحابة أجمعوا على جواز كراء الأرض بالذهب والفضة» فهذا الإجماع دليل على جواز الإجارة بالذهب والفضة. والجواب على ذلك أن الأحاديث الواردة في النهي عن إجارة الأرض تنص على المنع المطلق، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيُحْرِثْهَا أَخَاهُ، وَإِلاَّ فَلْيَدَعْهَا» أخرجه مسلم من طريق جابر، ويقول صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أخرجه مسلم من طريق أبي هريرة. فقوله: «وَإِلاَّ فَلْيَدَعْهَا» وقوله: «فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» دليل على عدم إجارة الأرض بالذهب والفضة. وكذلك فإن الأحاديث حصرت الحكم في اثنتين لا غير كما بيّنا سابقاً، فإن قول الرسول صلى الله عليه وسلم «ازْرَعْهَا أَوْ امْنَحْهَا أَخَاكَ» تخيير بين اثنين لا ثالث لهما، والإجماع المذكور يجيز ثالثاً (الذهب والفضة)، وهنا تعارض، فيُعمد إلى الترجيح، والأحاديث المذكورة أقوى سنداً من رواية الإجماع، هذا فضلاً عن أن الإجماع إنما يكون على شيء موجود يُجمعون على جوازه أو على منعه، أما الشيء الذي لم يوجد بعد فلا يتأتى إجماع عليه، وإجارة الأرض بالذهب والفضة لم تكن مما يتعامل به الناس. ففي البخاري عن رافع: «فَأَمَّا الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فَلَمْ يَكُنْ يَوْمَئِذٍ»، وعن حنظلة بن قيس قال: «سَأَلْتُ رَافِعَ بْنَ خَدِيجٍ عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ فَقَالَ: لا بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا كَانَ النَّاسُ يُؤَاجِرُونَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمَاذِيَانَاتِ وَأَقْبَالِ الْجَدَاوِلِ وَأَشْيَاءَ مِنْ الزَّرْعِ، فَيَهْلِكُ هَذَا وَيَسْلَمُ هَذَا، وَيَسْلَمُ هَذَا وَيَهْلِكُ هَذَا، فَلَمْ يَكُنْ لِلنَّاسِ كِرَاءٌ إِلاَّ هَذَا؛ فَلِذَلِكَ زُجِرَ عَنْهُ، فَأَمَّا شَيْءٌ مَعْلُومٌ مَضْمُونٌ فَلا بَأْسَ بِهِ» والماذيانات هي ما ينبت على حافة النهر، ومسايل الماء. وإقبال الجداول أوائل الأنهار الصغيرة. فهذان الحديثان يدلان على أنه لم تكن هنالك معاملة في تأجير الأرض بالذهب والفضة مما ينفي وجود الإجماع على شيء حاصل. وإجماع الصحابة إنما هو كشف عن دليل وليس رأياً لهم اجتمعوا وتناقشوا فيه واتفقوا عليه. فإجماعهم أن هذا الفعل حكمه كذا يعني أنهم سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا الحكم أو رأوه فعله أو سكت عنه فأخبروا بالحكم ولم يرووا الدليل. وهذا لا يكون إلا عن شيء حاصل؛ لأن الشريعة إنما شرعت تنـزلاً على أفعال حصلت وحوادث جرت وليست فروضاً نظرية، ومن هنا لا بد أن يكون إجماع الصحابة إجماعاً على شيء موجود. وما دام انتفى وجود معاملة تأجير الأرض بالذهب والفضة بنص الأحاديث الصحيحة فإنه يكون قد انتفى وجود إجماع للصحابة عليها. وكذلك قال عمر رضي الله عنه على المنبر على ملأ من المسلمين: «مَنْ أَحْيَا أَرْضاً مَيْتَةً فَهِيَ لَهُ وَلَيْسَ لِمُحْتَجِرٍ حَقٌّ بَعْدَ ثَلاثِ سِنِينَ» ذكره أبو يوسف في الخراج عن سالم بن عبد الله، فنفى أن يكون للمحتجر أي حق بعد ثلاث سنين لقوله: «حق» لأن النكرة في سياق النفي تعم فهي تشمل نفي كل حق. فلو كان يجوز له أن يؤجرها بالذهب والفضة لما أخذت منه بعد ثلاث سنين، وقد قاله عمر وعمل به على مرأى ومسمع من الصحابة، ولـم ينكروا عليه فكان إجماعاً.
ويقول الذين يجيزون إجارة الأرض أن الدليل على جوازها ما روي عن ابن عباس أنه قال: «إِنَّ اللهَ لَمْ يَنْهَ عَنِ المُزَارَعَةِ، وَلَكِنَّهُ قَالَ: أَنْ يَمْنَحَ أَحَدَكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ شَيْئاً مَعْلُوماً» متفق عليه، وقد ذكر الخبر ابن ماجه عن ابن عباس أنه لما سمع إكثار الناس في كراء الأرض قال: سبحان الله، إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَلا مَنَحَهَا أَحَدُكُمْ أَخَاهُ، وَلَمْ يَنْهَ عَنْ كِرَائِهَا» وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض بقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا، أَوْ لِيَمْنَحْهَا أَخَاهُ، فَإِنْ أَبَى فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ» أخرجه الترمذي من طريق ابن عباس وصححه. وكذلك ما روي عن ثابت: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ الْمُزَارَعَةِ، وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ، وَقَالَ: لا بَأْسَ بِهَا» أخرجه مسلم من طريق ثابت ابن الضحاك. فهذه الأحاديث تدل على جواز الإجارة، والجواب على ذلك أن حديث ابن عباس في رواياته كلها إخبار عن فهمه لقول الرسول، وليس رواية عن الرسول. وهي بيان لما فهمه من نهي الرسول عن كراء الأرض بأنه ليس للتحريم، فيقول: لم ينه… ولكن قال..الخ، ويقول: إنما قال… ولم ينه. وأصرح منه الرواية الثالثة إذ بين أنه يفهم هذا من قول الرسول إذ بين فهمه بذكر الحديث الذي فهمه حيث قال لم يحرم المزارعة ولكن أمر أن يرفق بعضهم ببعض بقوله ..الخ. وما دام هو فهم لابن عباس وليس حديثاً فلا يعتبر حجة، ولا يستدل به. أما حديث ثابت من قوله: «وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ» فإنه يعارض الحديث الآخر: «نَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ» أخرجه مسلم من طريق رافع، والحديث الآخر: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ» أخرجه مسلم من طريق جابر، فقوله صلى الله عليه وسلم: «وَأَمَرَ بِالْمُؤَاجَرَةِ» عام يشمل كل مؤاجرة، وقوله صلى الله عليه وسلم: «عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ»، «أَنْ يُؤْخَذَ أَجْرٌ» كلاهما عام، أي أن الأمر بالمؤاجرة عام والنهي عنها عام، ولا يمكن هنا الجمع، لأن كلاًّ منهما عام، فليس أحدهما عاماً والآخر خاصاً، أو أحدهما عاماً من وجه وخاصاً من وجه، والآخر عاماً من وجه آخر وخاصاً من وجه غير الحديث الآخر… حتى يمكن الجمع، بل إن عموم الأمر والنهي متساوٍ، ولذلك يُعمد إلى الترجيح، فيرجح حديث النهي ويُرد حديث الأمر لأن النصين إذا تعارضا يرجح النهي على الأمر لقوله عليه الصلاة السلام: «دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لا يَرِيبُكَ» أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح وبهذا يسقط استدلالهم بهذه الأحاديث.
ويقول من يجيز إجارة الأرض: إن الدليل على جواز إجارتها ما رواه أبو داود حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا بِشْرٌ الْمَعْنَى عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَقَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَمَّارٍ عَنْ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي الْوَلِيدِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: قَالَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ، أَنَا وَاللَّهِ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْهُ، إِنَّمَا أَتَاهُ رَجُلانِ قَالَ مُسَدَّدٌ مِنْ الأَنْصَارِ ثُمَّ اتَّفَقَا قَدْ اقْتَتَلا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ».
أي أنَّ “زيد بن ثابت” قال أنا أعلم بذلك (يعني إجارة الأرض)، من رافع، وإنما سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين قد اقتتلا فقال: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ فَلا تُكْرُوا الْمَزَارِعَ». وروى البخاري عن عمرو بن دينار قال قلت لطاووس: لو تركت المخابرة فإنهم يزعمون أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عنها، قال إن أعلمهم -يعني ابن عباس- أخبرني أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ينه عنها ولكن قال: «أَنْ يَمْنَحَ أَحَدُكُمْ أَخَاهُ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَأْخُذَ عَلَيْهَا خَرَاجاً مَعْلُوماً» والخراج في اللغة كراء الأرض، أي أخذ أجرة. فهذان الحديثان يدلان على جواز الإجارة.
والجواب على ذلك هو أن حديث زيد لا يدل على جوازها بل منطوقه يدل على منعها، وأما مفهوم الشرط في قوله صلى الله عليه وسلم: «إِنْ كَانَ هَذَا شَأْنَكُمْ» فهو معطَّل بالأحاديث التي تنهى عن كراء المزارع مطلقاً، وكذلك فهو معطَّل لخروجه مخرج الغالب، فإن الكراء على النحو الذي كانوا يتعاملون به كان يغلب عليه المشاجرة والاختلاف؛ لأن بعض الأرض تكون أخصب من الأخرى. وهذا مثل تعطيل مفهوم الشرط في قوله تعالى: ((وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً)) [النور 33] فإن هذا خرج مخرج الغالب، حيث كانوا في الغالب يكرهون فتياتهم على البغاء، فهذا المفهوم، أي مفهوم الشرط، معطَّل لأنه خرج مخرج الغالب، وكذلك معطَّل بنصوص تحريم الزنا العامة غير المخصصة.
وأما الحديث الثاني عن عمرو بن دينار فإنه لا يعني “جواز المنح وجواز أخذ الأجرة، ولكن المنح خير وأفضل”، ليس المعنى كذلك، بل هو يحرِّم أخذ الأجرة، وذلك لأن هذه الجملة (يمنح أخاه خير له من أن يأخذ خراجاً معلوماً…) هي جملة خبرية تفيد الطلب، أي كأنه قال: ففيها طلب للمنح أي الإعطاء دون مقابل، ونهي عن أخذ الخراج أي الأجرة، وتحتاج إلى قرينة لمعرفة نوع النهي “طلب الترك”، والقرائن من الأحاديث الأخرى تفيد أن طلب الترك جازم لأنها تمنع أخذ أجرة مطلقاً كقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيُزْرِعْهَا أَخَاهُ، وَلا يُكَارِيهَا بِثُلُثٍ وَلا بِرُبُعٍ وَلا بِطَعَامٍ مُسَمًّى» أخرجه أبو داود… وقوله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كَانَتْ لَهُ أَرْضٌ فَلْيَزْرَعْهَا أَوْ لِيَمْنَحْهَا، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فَلْيُمْسِكْ أَرْضَهُ»، … وروى رافع: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الْمَزَارِعِ» متفق عليه… وفي صحيح مسلم من طريق جابر: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤْخَذَ لِلأَرْضِ أَجْرٌ أَوْ حَظٌّ»…، وروي أن عبد الله بن عمر لقي رافع بن خديج فسأله فقال: سمعت عَمَّيَّ وكانا قد شهدا بدراً يحدثان: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نَهَى عَنْ كِرَاءِ الأَرْضِ» أخرجه مسلم.
ويقول من يجيز إجارة الأرض إن الدليل على جواز إجارتها ما روى الشيخان عن ابن عمر قال: «أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ»، وقال أبو جعفر: «عَامَلَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَهْلَ خَيْبَرَ بِالشَّطْرِ، ثُمَّ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ وَعُثْمَانَ وَعَلِيُّ، ثُمَّ أَهْلُوهُمْ، إِلَى اليَوْمِ يُعْطُونَ الثُّلُثَ وَالرُّبُعَ» ذكره ابن قدامة في المغني وقال صحيح مشهور. وروى البخاري عن ابن عمر: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِ «امنح أخاك ولا تأخذ خراجاً»يرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ، فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ؟ فَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتْ الأَرْضَ» فهذا الحديث يدل على جواز إجارة زرعها بجزء منها فيدل على جواز إجارتها مطلقاً.
والجواب على ذلك هو أن أرض خيبر كانت شجراً يسقى بالماء، وكان بين الشجر أرض ملساء أقل من مساحة الشجر، فكانت تزرع، ويؤيد هذا أنه قد جاء في لفظ بعض الأخبار: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنَ النَّخْلِ وَالشَّجَرِ» أخرجه الدارقطني من طريق ابن عمر. وجاء في حديث ابن عباس “أرضها ونخلها” وعلى هذا فإن واقع ما فعله الرسول في إجارة خيبر مساقاة وليست مزارعة، أي تأجير الأرض المشجرة وليس تأجير الأرض وحدها، بل تأجير الشجر ومعه الأرض، وهذا مساقاة، والمساقاة جائزة بلا خلاف. فالشجر يجوز أن يستأجر بجزء معلوم من ثمره ليقوم بسقيه وحرثه، وتستأجر تبعاً له الأرض التي هو فيها، على شرط أن يكون الذي فيه الشجر من الأرض أكثر من الخالي منه حتى يكون الاستئجار للشجر لا للأرض، فهذه المساقاة جائزة. والممنوع هو إجارة الأرض وليس المساقاة. وبإنعام النظر في حديث البخاري يتبيَّن أن الأرض كانت مشجرة، والشجر كان أكثر من الأرض الخالية، وكان فيها مياه لسقي الشجر؛ ولذلك كانت مساقاة، انظر قوله في الحديث: “فكان يعطي أزواجه مائة وسق، ثمانون وسقاً تمراً، وعشرون وسقاً شعيراً” وقوله: “أن يقطع لهن من الأرض والماء” مما يدل على أن واقع أرض خيبر أنها شجر، وأن إجارتها مساقاة، وليست مزارعة ولا إجارة أرض.
وبناءً عليه لا يستدل بالحديث على جواز إجارة الأرض ولذلك يسقط الاستدلال به.
وهكذا فإن تحريم الإجارة أمر من أظهر ما يكون. وبهذا يظهر دليل المادة بأبرز استدلال.
وأما المساقاة فهي تأجير الشجر على جزء من ثمره أو تأجير الشجر مع الأرض التابعة له على جزء من الثمر والزرع على أن يكون الشجر أكثر من الأرض. والدليل على أن هذا هو معنى المساقاة شرعاً وعلى جواز المساقاة الأحاديث الواردة في ذلك، فقد أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قَالَتْ الأَنْصَارُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: اقْسِمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ إِخْوَانِنَا النَّخِيلَ، قَالَ: لا، فَقَالُوا: تَكْفُونَا الْمَئُونَةَ وَنَشْرَكْكُمْ فِي الثَّمَرَةِ، قَالُوا: سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا»، وأخرج البخاري عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أخبره: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ، فَكَانَ يُعْطِي أَزْوَاجَهُ مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ، فَقَسَمَ عُمَرُ خَيْبَرَ فَخَيَّرَ أَزْوَاجَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُقْطِعَ لَهُنَّ مِنْ الْمَاءِ وَالأَرْضِ أَوْ يُمْضِيَ لَهُنَّ؟ فَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الأَرْضَ، وَمِنْهُنَّ مَنْ اخْتَارَ الْوَسْقَ، وَكَانَتْ عَائِشَةُ اخْتَارَتْ الأَرْضَ» وأخرج مسلم وأبو داود والنسائي: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ إِلَى يَهُودِ خَيْبَرَ نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا عَلَى أَنْ يَعْتَمِلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَلِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَطْرُ ثَمَرِهَا» وأخرج أحمد وابن ماجه عن ابن عباس: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دَفَعَ خَيْبَرَ أَرْضَهَا وَنَخْلَهَا مُقَاسَمَةً عَلَى النِّصْفِ» فهذه الأحاديث تدل على أن المساقاة تأجير الشجر وحده على جزء من ثمره كما هو ظاهر في حديث أبي هريرة من فعل الأنصار، وتدل على أنها أي المساقاة تأجير الشجر ومعه الأرض على جزء من ثمر الشجر وزرع الأرض كما هو ظاهر في حديث نافع عن عبد الله بن عمر: «عَامَلَ خَيْبَرَ بِشَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ» وكما هو ظاهر في حديث مسلم وأبي داود والنسائي «نَخْلَ خَيْبَرَ وَأَرْضَهَا» وفي حديث ابن عباس «أَرْضَهَا وَنَخْلَهَا» فتدل على أن التأجير إما للشجر وحده وإما للشجر والأرض معاً، وتدل كذلك على أن الأرض تكون أقل من الشجر كما هو ظاهر في حديث نافع عن ابن عمر: «مِائَةَ وَسْقٍ ثَمَانُونَ وَسْقَ تَمْرٍ وَعِشْرُونَ وَسْقَ شَعِيرٍ» فثبت بذلك واقع المساقاة ما هي بأنها تأجير الشجر بجزء من ثمره أو تأجير الشجر والأرض بجزء من الثمر وجزء من الزرع على أن يكون الشجر أكثر من الأرض، وأيضاً فإن هذه الأحاديث دليل على جواز هذه المساقاة.