المادة -143-
المادة 143 – تجبى الزكاة من المسلمين، وتؤخذ على الأموال التي عين الشرع الأخذ منها من نقد وعروض تجارة ومواش وحبوب. ولا تؤخذ من غير ما ورد الشرع به. وتؤخذ من كل مالك سواء أكان مكلفاً كالبالغ العاقل أم غير مكلف كالصبي والمجنون، وتوضع في باب خاص من بيت المال، ولا تصرف إلا لواحد أو أكثر من الأصناف الثمانية الذين ذكرهم القرآن الكريم.
هذه المادة تشمل خمسة أمور: أحدها: وجوب الزكاة على المسلمين، والثاني: كونها تؤخذ من الأموال التي عينها الشرع ولا تؤخذ من غيرها، والثالث: أخذها من كل مالك، والرابع: كونها توضع في باب خاص في بيت المال، والخامس: كونها لا تصرف إلا لأشخاص مخصوصين محددين بالصفة والعدد.
أما الأمر الأول وهو وجوب الزكاة فدليله القرآن الكريم من مثل قوله تعالى: ((وَآَتُوا الزَّكَاةَ)) [البقرة 43] وقوله تعالى: ((وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ)) [الأحزاب 33] وقوله تعالى: ((رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ)) [النور 37]. ودليله أيضاً السنة فقد بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وقال له: «أَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً، تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» متفق عليه من طريق ابن عباس وحديث: «بُنِيَ الإِسْلامُ عَلَى خَمْسٍ» متفق عليه من طريق ابن عمر قال فيه: «وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال دلني على عمل إذا عملته دخلت الجنة قال: «اللهَ لا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ» أخرجه البخاري. وعن قيس قال: قال جرير بن عبد الله: «بَايَعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى إِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» متفق عليه هذه أدلة وجوب الزكاة، وأما كونها لا تؤخذ إلا من المسلمين ولا تؤخذ من غيرهم فلقول الرسول في حديث معاذ «تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ» وأما كونها لا تعطى إلا للمسلمين ولا تعطى لغيرهم فكذلك لقول الرسول في حديث معاذ المذكور «وَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» أي المسلمين.
وأما الأمر الثاني وهو كونها لا تؤخذ إلا من الأموال التي عينها الشرع ولا تؤخذ من غيرها فدليله أن الشارع قد حدد الأنواع التي تؤخذ منها الزكاة بتحديده المقدار الذي يؤخذ من هذه الأنواع. فكل ما جعل الشرع له نصاباً، تؤخذ الزكاة منه إذا بلغ نصاباً، ولا تؤخذ منه إذا لم يبلغ النصاب لما روي عن جابر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ مِنْ الإِبِلِ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» أخرجه مسلم.
ولا تؤخذ الزكاة من مال لم يبين الشرع فيه نصاباً للزكاة. لأن الآية وإن كانت مجملة ولكن الحديث جاء وبينها. فأحاديث الزكاة مبينة للمجمل وليست مخصصة له، وهنالك فرق كبير بين البيان والتخصيص. فآية الصلاة جاءت مجملة: ((وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ)) [البقرة 43] وجاء الرسول وبينها، فما عدا ما بينه الرسول من الصلاة لا يجوز أن يؤتى به باعتباره صـلاة، لأننا مقيـدون بما بينه الرسـول، وكذلك آية الزكاة جاءت مجملة: ((وَآَتُوا الزَّكَاةَ)) [البقرة 43]، ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ)) [التوبة 103]، ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ)) [التوبة 60] وجاءت الأحاديث فبينت الأنواع التي تؤخذ منها الزكاة ببيان المقدار الذي يؤخذ من هذه الأنواع، وبيان النصاب فيها. وما عدا ذلك لا تؤخذ منه الزكاة، ويحرم أخذها بوصفها زكاة من غير ما جاء الشرع ناصاً على نصابه، وعلى المقدار الذي يؤخذ منه. وعليه لا زكاة على الدور، ولا على السيارات، ولا على الزيتون، لأن الشارع لم ينص على نصاب الزكاة فيها، ولا على المقدار الذي يؤخذ إذا بلغت النصاب، فلا زكاة عليها. فيقتصر في أخذ الزكاة على المال الذي ورد به النص الشرعي. فلا تؤخذ الزكاة إلا من الأشياء التي وردت فيها النصوص الصحيحة، وهي الإبل، والبقر، والغنم، والذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والزبيب.
أما الإبل والغنم، فدليلها ما روي عن الزهري عن سالم عن أبيه قال: «كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَدْ كَتَبَ الصَّدَقَةَ وَلَمْ يُخْرِجْهَا إِلَى عُمَّالِهِ حَتَّى تُوُفِّيَ، قَالَ: فَأَخْرَجَهَا أَبُو بَكْرٍ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا حَتَّى تُوُفِّيَ، ثُمَّ أَخْرَجَهَا عُمَرُ مِنْ بَعْدِهِ فَعَمِلَ بِهَا. قَالَ: فَلَقَدْ هَلَكَ عُمَرُ يَوْمَ هَلَكَ وَإِنَّ ذَلِكَ لَمَقْرُونٌ بِوَصِيَّتِهِ، قَالَ: فَكَانَ فِيهَا فِي الإِبِلِ فِي خَمْسِ شَاةٍ، حَتَى تَنْتَهِي إِلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ، فَإِذَا بَلَغَتْ إِلَى خَمْسٍ وَعِشْرينَ فَفِيهَا بِنْتُ مَخَاضٍ، إِلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ بِنْتُ مَخَاضٍ فَابْنُ لَبُونٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَلَى خَمْسٍ وَثَلاثِينَ فَفِيهَا بِنْتُ لَبُونٍ، إِلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا حُقَّةٌ، إِلَى سِتِّينَ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا جَذِعَةٌ، إِلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ابْنَتَا لَبُونٍ، إَلَى تِسْعِينَ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا حُقَّتَانِ، إِلَى عِشْرِينَ وَمَائَةٍ، فَإِذَا كَثُرَتْ الإِبِلُ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حُقَّةٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ. وَفِي الغَنَمِ مِنْ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةً، إِلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ شَاةٌ فَفِيهَا شَاتَانِ، إِلَى مِائَتَيْنِ، فَإِذَا زَادَتْ فَفِيهَا ثَلاثُ شِياهٍ، إِلَى ثَلاثُمَائَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ بَعْدُ فَلَيْسَ فِيهَا شَيْءٌ حَتَى تَبْلُغَ أَرْبَعُمَائَةٍ، فَإذَا كَثُرَتْ الْغَنَمُ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ» أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي. وعن أنس: «أَنَّ أَبَا بَكْرٍ كَتَبَ لَهُمْ: إِنَّ هَذهِ فَرَائِضُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّتِي أَمَرَ اللهُ بِهَا وَرَسُولُهُ» أخرجه البخاري ثم ذكر الإبل والغنم على النحو الذي ورد في حديث الزهري. وبنت المخاض بفتح الميم هي التي أتى عليها حول ودخلت في الثاني، وابن اللبون هو الذي دخل في الثالثة وصارت أمه لبوناً بوضع الحمل والأنثى منه بنت لبون، والحقة بكسر الحاء وتشديد القاف والجمع حقاق بالكسر، وهي التي أتى عليها ثلاث سنين ودخلت في الرابعة، والجذعة بفتح الجيم والذال هي التي أتى عليها أربع سنين ودخلت في الخامسة. وكون الحديث نص على بنت اللبون فيما زاد على خمس وثلاثين يدل على عدم جواز ابن اللبون في هذا ولذلك زاد البخاري “أنثى”.
وأما البقر فدليلها ما روي عن معاذ بن جبل قال: «بَعَثَنِي النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْيَمَنِ، فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاَثِينَ بَقَرَةً تَبِيعًا أَوْ تَبِيعَةً، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً…» أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي والترمذي وحسنه، وعَنْ يَحْيَى بْنِ الْحَكَمِ أَنَّ مُعَاذًا قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أُصَدِّقُ أَهْلَ الْيَمَنِ وَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ الْبَقَرِ مِنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعًا قَالَ هَارُونُ وَالتَّبِيعُ الْجَذَعُ أَوْ الْجَذَعَةُ، وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً قَالَ فَعَرَضُوا عَلَيَّ أَنْ آخُذَ مِنْ الأَرْبَعِينَ قَالَ هَارُونُ مَا بَيْنَ الأَرْبَعِينَ أَوْ الْخَمْسِينَ وَبَيْنَ السِّتِّينَ وَالسَّبْعِينَ وَمَا بَيْنَ الثَّمَانِينَ وَالتِّسْعِينَ فَأَبَيْتُ ذَاكَ وَقُلْتُ لَهُمْ حَتَّى أَسْأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَقَدِمْتُ فَأَخْبَرْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَأَمَرَنِي أَنْ آخُذَ مِنْ كُلِّ ثَلاثِينَ تَبِيعًا وَمِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةً وَمِنْ السِّتِّينَ تَبِيعَيْنِ… وَأَمَرَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لا آخُذَ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ…» أخرجه أحمد بإسناد حسنه الزين. وروى أحمد عن معاذ بن جبل قال: «لَمْ يَأْمُرْنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَوْقَاصِ الْبَقَرِ شَيْئًا». والأوقاص جمع وقص، وهو ما بين النصابين. والتبيع والتبيعة ما كان في أول سنة، والمسنة ما كانت في السنة الثانية.
وأما الذهب والفضة فدليلها ما روي عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، يَعْنِي فِي الذَّهَبِ، حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَاراً، فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ» رواه أبو داود وهو حسن. والدرهم ستة دوانيق، والدانق: قيراطان، والقيراط: طسوجان، والطسوج: حبتان، والحبة: سدس ثمن درهم، وهو جزء من ثمانية وأربعين جزءاً من درهم. هذا هو وزن الدرهم الشرعي المراد بالحديث، والدينار: مثقال، والمثقال: درهم وثلاثة أسباع الدرهم. هذا هو وزن الدينار الشرعي المراد بالحديث.
وأما الحنطة والشعير والتمر والزبيب فدليلها ما أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني من حديث أبي موسى ومعاذ حين بعثهما النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن يعلمان الناس أمر دينهم فقال: «لاَ تَأْخُذَا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هِذِهِ الأَرْبَعَةِ: الشَّعِيرُ وَالْحِنْطَةُ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ» صححه الحاكم وقال البيهقي رواته ثقات وهو متصل. وأخرج الدارقطني في سننه من طريق عبد الله بن عمرو قال: «إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فِي: الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ»، وحكي عن الشعبي أنه قال: كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن: «إِنَّمَا الصَّدَقَةُ فِي الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ» أخرجه البيهقي عن الشعبي مرسلاً.
وأما الأحاديث التي ذكرت الزكاة في الذرة فهي ضعيفة، فمثلاً: أخرج ابن ماجه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده «إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فِي: الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ والذُّرَةِ» قال الحافظ في التلخيص: إسنادهما، أي إسناد ابن ماجه والدارقطني، واهٍ ففيه العرزمي وهو متروك. وكذلك روى البيهقي من طريق الحسن قال: «لَمْ يَفْرِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلاَّ فِي عَشَرَةِ أَشْيَاءٍ: الإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ وَالذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ وَالْحِنْطَةُ وَالشَّعِيرُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ، قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ أَرَاهُ قَالَ وَالذُّرَةُ» قال الحافظ في التلخيص رواية الحسن مرسلة من طريق عمرو بن عبيد وهو ضعيف جداً، وقال أبو حاتم متروك الحديث. كما أن البيهقي نفسه ذكر في سننه الكبرى في رواية أخرى عن الحسن، وفيها عمرو بن عبيد كذلك، قال: «لَمْ يَجْعَلْ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الصَّدَقَةَ إِلاَّ فِي عَشَرَةٍ فَذَكَرَهُنَّ وَذَكَرَ فِيهِنَّ السُّلْتُ وَلَمْ يَذْكُرْ الذُّرَةُ» والسلت نوع من الشعير كما في القاموس. فالروايتان على ضعف إسنادهما مختلفتان. وهكذا فإن أحاديث زكاة الذرة ضعيفة.
وبالتالي فإن الأصناف التي تؤخذ منها الزكاة هي هذه الأربعة (الحنطة والشعير والتمر والزبيب)، ولا تؤخذ من غيرها مطلقاً. وأما ما روي عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فِيمَا سَقَتْ الأَنْهَارُ وَالْغَيْمُ الْعُشُورُ، وَفِيمَا سُقِيَ بِالسَّانِيَةِ نِصْفُ الْعُشْرِ» أخرجه مسلم. وما روي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ أَوْ كَانَ عَثَرِيًّا الْعُشْرُ، وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» أخرجه البخاري، والعثري هو الذي يشرب بعروقه من غير سقي، وما روي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» متفق عليه، فإن هذا كله نص مجمل في زكاة الزروع والثمار، وجاءت أحاديث أخرى فبينته، وحددت ما تؤخذ منه الزكاة، ولا سيما أن بيانها جاء بطريق الحصر، فما أخرجه الحاكم والبيهقي والطبراني جاء فيه: «لاَ تَأْخُذَا الصَّدَقَةَ إِلاَّ مِنْ هِذِهِ الأَرْبَعَةِ» صححه الحاكم وقال البيهقي رواته ثقات. وما رواه الدارقطني في سننه: «إنَّمَا سَنِّ رَسُولُ اللهِ الزَّكَاةَ فِي: الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ» ولا شك أن لفظ “لا” و”إلا” في الحديث الأول، و”إنما” في الحديث الثاني، كلها أدوات حصر. فهي تدل على حصر زكاة الزروع والثمار في هذه الأربعة، ولذلك فإن أحاديث “ما سقت السماء” و”ما سقت الأنهار” ..الخ غير واردة على أن الزكاة تؤخذ من كل ما ينبت، فإنها مجملة بينتها النصوص الأخرى، وحصرت الزكاة مما ينبت في هذه الأربعة ليس غير، وتؤيد ذلك الروايات الأخرى في هذا المعنى مثل ما أخرجه الدارقطني في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «وَالْعُشْرُ فِي التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ». فكلها تدل على أن زكاة الزروع والثمار لا تؤخذ إلا من أصناف معينة، عددتها بعض الأحاديث بأربعة، وهي الشعير والحنطة والزبيب والتمر، وجاءت فيها أحاديث كثيرة وكلها صحيحة. مما يؤكد أنه لا زكاة في الزروع والثمار إلا فيما جاء في هذه النصوص. وأما قوله تعالى: ((وَآَتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ)) [الأنعام 141] فإن هذه الآية لم ترد فيها الزكاة، لأنها مكية، والزكاة إنما فرضت في المدينة، ولهذا ذكر الرمان ولا عشر فيه. وقال مجاهد: إذا حصد زرعه ألقى لهم من السنبل. وإذا جَدَّ نخلَه ألقى لهم من الشماريخ، وقال النخعي وأبو جعفر: “هذه الآية منسوخة، على أنها محمولة على ما يتأتى حصاده، بدليل أن الرمان مذكور بعده ولا زكاة فيه” انتهى. وقال في القاموس المحيط: “حصد الزرع والنبات يحصده ويحصده حصداً وحصاداً وحصاداً قطعه بالمنجل” فلو فرض أنها تدخل في الزكاة فتحمل على ما يحصد منه، لأن الرمان لا يحصد، فتكون من قبيل المجمل، وجاءت الأحاديث وبينت ما يخرج منه الزكاة مما يحصد، وهو الحنطة والشعير، وأضافت له نوعين آخرين التمر والزبيب. وعلى أي حال ما دامت الآية قد نزلت في مكة، ولم تكن الزكاة قد فرضت بعد، فإن هذا كاف لرد الاستدلال بها. وأما ما روي عن أبي سيارة المتعي قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ لِي نَحْلاً، قَالَ: فَأَدِّ العُشُورَ، قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، احْمِ لِي جَبَلَهَا، قَالَ: فَحَمَى لِي جَبَلَهَا» وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: «جَاءَ هِلالٌ، أَحَدُ بَنِي مُتْعَانَ، إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِعُشُورِ نَحْلٍ لَهُ، وَكَانَ سَأَلَهُ أَنْ يَحْمِيَ لَهُ وَادِيًا يُقَالُ لَهُ سَلَبَةُ، فَحَمَى لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَلِكَ الْوَادِي. فَلَمَّا وُلِّيَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه كَتَبَ سُفْيَانُ بْنُ وَهْبٍ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَكَتَبَ عُمَرُ: إِنْ أَدَّى إِلَيْكَ مَا كَانَ يُؤَدِّي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ عُشُورِ نَحْلِهِ، فَاحْمِ لَهُ سَلَبَةَ، وَإِلاَّ فَإِنَّمَا هُوَ ذُبَابُ غَيْثٍ يَأْكُلُهُ مَنْ يَشَاءُ». فإنه لا يصلح للاستدلال على أن العسل فيه زكاة. فحديث أبي سيارة منقطع لأنه من رواية سليمان بن موسى عن أبي سيارة، قال البخاري: لم يدرك سليمان أحداً من الصحابة وليس في زكاة العسل شيء يصح، وحديث عمرو بن شعيب رواه أبو داود والنسائي وقد حسنه ابن عبد البر في الاستذكار ومع ذلك فلا يدل على وجوب الزكاة في العسل، لأن ما دفعه هو تطوع وقد حمى لهما بدل ما أخذ، بدليل ما فعله عمر، فإنه عقل العلة فأمر بمثل ذلك، ويؤيد هذا أنه روي عن سعد بن أبي ذباب: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اسْتَعْمَلَهُ عَلَى قَوْمِهِ وَأَنَّهُ قَالَ لَهُمْ: أَدُّوُا العُشْرَ فِي الْعَسَلِ» أخرجه البيهقي وابن أبي شيبة وضعفه البخاري والأزدي وغيرهما، ومع ذلك قال الشافعي: وسعد بن أبي ذباب يحكي ما يدل على: «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمُرْهُ فِيهِ بِشَيْءٍ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ رَآهُ هُوَ فَتَطَوَّعَ لَهُ بِهِ قَوْمُهُ». وهذا كله يدل على أنه لا زكاة في العسل، حتى الأحاديث التي استدلوا بها تدل على أنه لا زكاة فيه واجبة.
فهذه النصوص كلها تدل على أنه لا تؤخذ الزكاة مما لم يبين الشرع فيه نصاباً. لأن النصوص بينت النصاب، ومقدار ما يخرج، فتكون الزكاة واجبة فيه، وما لم ترد فيه نصوص فعلى أي أساس تؤخذ منه الزكاة؟! أو يؤخذ منه مقدار معين؟! لا سيما وأن النصوص التي بينت النصاب ومقدار ما يخرج لم تأت معللة فلا يصح القياس عليها. وفوق هذا فقد جاءت نصوص أخرى بينت أشياء بعينها تخرج منها الزكاة، ولم تكتف بذلك بل حصرت الزكاة بهذه الأشياء واستعملت لهذا الحصر أكثر من أداة من أدوات الحصر. وهذا وحده يدل على أن الزكاة لا تخرج إلا من أعيان الأشياء التي جاءت النصوص بها ولا تخرج من غيرها مطلقاً.
وقد يقال إن النص جاء بتعميم وجوب الزكاة على المال في القرآن والسـنة ففي القـرآن قـال تعالى: ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) [التوبة 103]، ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ)) [المعارج 24] وفي الحديث: «أعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة في أموالهم» متفق عليه من طريق ابن عباس وهذا يشمل كافة أنواع المال. فتلزم الزكاة فيها جميعاً إلا ما استثناه الشرع. والشرع لم يستثن إلا الرقيق والخيل بقوله عليه الصلاة والسلام: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فَرَسِهِ» متفق عليه من طريق أبي هريرة، والجواب على ذلك هو أن هذا النص مجمل يحتاج إلى بيان وجاءت السنة وبينته تماماً كالربا، فقد جاء النهي عنه مجملاً وجاءت السنة وبينته، فلا يقال إن الربا حرام في كل شيء لأنه جاء النهي عنه عاماً، بل يقال إن الربا حرام في الأموال الربوية التي جاءت السنة وبينتها لأن نصها مجمل والسنة بينته فلا ربا في غيرها. وكذلك لا يقال إن الزكاة واجبة في كل شيء لأنه جاء الأمر بها عاماً، بل يقال إن الزكاة واجبة في الأموال التي جاءت السنة وبينت نصاب الزكاة فيها فبينت بذلك أنواع الأموال التي تؤخذ منها؛ وذلك أن الله أمر بالزكاة أمراً مجملاً ولم يبين المقدار الذي يؤخذ منها ولا متى يؤخذ هذا المقدار فجاءت الأحاديث وبينت المقادير الواجب إعطاؤها، والأنصبة التي تؤخذ هذه المقادير منها إذا بلغتها، ومواعيد الوجوب، وكون الواجب يستحق لمجرد الحصول عليه كالزروع، أو لمضي وقت معين كالذهب والفضة، فعلى حسب هذا البيان الذي بينته السنة تؤخذ الزكاة، فتكون الأموال التي بينت السنة أخذ الزكاة منها وكيفيتها هي الأموال التي تجب فيها الزكاة وما عداها لا تجب فيه الزكاة بل لا يتأتى أخذها بوجه من الوجوه إذ لا يعرف فيها وقت للأخذ ولا مقدار ما يؤخذ ولا النصاب الذي يؤخذ منه فلا يمكن أن يتأتى الأخذ من غير ما بينه الشرع مطلقاً. وقد وردت النصوص واضحةً في هذه الأشياء: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ صَاحِبِ ذَهَبٍ وَلا فِضَّةٍ لا يُؤَدِّي مِنْهَا حَقَّهَا، إِلاَّ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، صُفِّحَتْ لَهُ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ، فَأُحْمِيَ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ، فَيُكْوَى بِهَا جَبِينُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ…» متفق عليه وقال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ مِنْ الْوَرِقِ صَدَقَةٌ» أخرجه مسلم من طريق جابر. وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ، وَلَيْسَ عَلَيْكَ شَيْءٌ، يَعْنِي فِي الذَّهَبِ، حَتَّى يَكُونَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَاراً، فَإِذَا كَانَ لَكَ عِشْرُونَ دِينَارًا وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ» أخرجه أبو داود وهو حسن. وقال عليه الصلاة والسلام: «مَا مِنْ صَاحِبِ إِبِلٍ وَلا بَقَرٍ وَلا غَنَمٍ لا يُؤَدِّي زَكَاتَهَا إِلا جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْظَمَ مَا كَانَتْ وَأَسْمَنَهُ تَنْطَحُهُ بِقُرُونِهَا وَتَطَؤُهُ بِأَظْلافِهَا» متفق عليه من طريق أبي هريرة. وقال صلى الله عليه وسلم: «وَالعُشْرُ فِي: التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ وَالْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ» أخرجه الدارقطني في سننه من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده. وأخرج كذلك من الطريق نفسه قال: «إِنَّمَا سَنَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ فِي: الْحِنْطَةِ وَالشَّعِيرِ وَالتَّمْرِ وَالزَّبِيبِ» وعن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى اليمن فقال: «خُذْ الْحَبَّ مِنْ الْحَبِّ، وَالشَّاةَ مِنْ الْغَنَمِ، وَالْبَعِيرَ مِنْ الإِبِلِ، وَالْبَقَرَةَ مِنْ الْبَقَرِ» أخرجه أبو داود وابن ماجه والدارقطني.
وهكذا فإن الزكاة إنما تجب فقط في الأموال التي جاء النص وبينها ولا تجب في غيرها مطلقاً. وأما ادعاء أن النبي صلى الله عليه وسلم استثنى من الزكاة أموالاً معينة هي الرقيق والفرس وهذا يعني أن ما لم يستثنه من الأموال واجب فيه الزكاة فهو ادعاء باطل لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستثن أموالاً معينة من الزكاة. فهو لم يقل الزكاة واجبة في كل مال إلا الرقيق والخيل، وإنما جاء الأمر بالزكاة مجملاً وجاءت النصوص وبينت هذا المجمل بياناً تاماً. فلا توجد قضية استثناء على الإطلاق. وأما قصة الرقيق والخيل فإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستثنهما، وإنما أخبر أنه لا زكاة عليهما، فقد روى البخاري عن أبي هريرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَغُلاَمِهِ صَدَقَةٌ» وفي رواية أخرى عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ صَدَقَةٌ فِي عَبْدِهِ وَلا فِي فَرَسِهِ» وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «قَدْ عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ، فَهَاتُوا صَدَقَةَ…» أخرجه أحمد وأصحاب السنن وقال الحافظ إسناده حسن، وهذا ليس استثناء وإنما هو إخبار فلا يكون مالاً مستثنى من الزكاة. وكذلك جاء النص بأنه لا زكاة على الحمير عن أبي هريرة قال: «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمير فيها زكاة فقال: ما جاءني فيها شيء إلا هذه الآية الفـــاذة: ((فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ)) [الزلزلة 7-8]» متفق عليه، والخيل كذلك سئل عنها كما في حديث أبي هريرة. فهذا ليس استثناء وإنما جواب سؤال؛ ولهذا لا يعتبر أن الرسول صلى الله عليه وسلم استثنى من الأموال الرقيق والخيل والحمير فقال لا زكاة عليها وأوجب الزكاة على جميع الأموال، فإن هذا يخالف النصوص الشرعية تمام المخالفة فلم يرد فيها استثناء مطلقاً. لأن الاستثناء إما أن يكون بنص عام على الحكم، وفي النص نفسه أي الجملة نفسها، جاء استثناء منه بأداة من أدوات الاستثناء مثل جاء القوم إلا محمداً، أو مثل وجبت الزكاة على كل شيء إلا على الخيل والرقيق. أو يكون هناك نص عام وجاء نص آخر خاص فيكون تخصيصاً لذلك العام فيكون استثناء منه. وهذا غير موجود في نصوص الخيل والرقيق والحمير لأن النص في الزكاة مجمل وجاءت السنة وبينته، ثم إن حديث الخيل والرقيق لم يأت في جملة عامة واستثني بأداة من أدوات الاستثناء وإنما جاء في جملة منفردة فيكون إخباراً وليس استثناء.
وأما زكاة التجارة فإن دليل وجوبها الحديث وإجماع الصحابة فقد روى أبو داود بإسناده عن سمرة بن جندب قال: «أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَأْمُرُنَا أَنْ نُخْرِجَ الصَّدَقَةَ مِنْ الَّذِي نُعِدُّ لِلْبَيْعِ» قال الحافظ في بلوغ المرام رواه أبو داود وإسناده ليِّن. وعن أبي عمرو بن حماس عن أبيه قال: “أمرني عمر فقال: أد زكاة مالك، فقلت: مالي مال إلا جعاب وأدم، فقال: قَوِّمْها ثم أد زكاتها” أخرجه أحمد والشافعي وغيرهما. وهذه قصة يشتهر مثلها ولم تنكر فيكون إجماعاً، والجعاب والأدم لا تجب الزكاة في عينها، وهي لا تملك عادة بالقدر الكبير الذي يجعل فيها الزكاة إلا إذا كانت معدة للبيع، فيكون هذا قرينة على أنها كانت معدة للبيع.
وأما الأمر الثالث: وهو أخذها من كل مالك فإنه يعني أن الزكاة تؤخذ من كل مسلم رجلاً كان أو امرأة، عاقلاً كان أو مجنوناً، صبياً كان أو بالغاً. أما بالنسبة للمرأة والرجل فظاهر من عموم النصوص، وأما بالنسبة للصبي والمجنون فلأن الزكاة حق يتعلق بالمال، وهو الحق الوحيد الواجب في المال من حيث هو مال، ولذلك قال تعالى ((خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً)) [التوبة 103]، ((وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ)) [المعارج 24]، وفي الحديث «فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً فِي أَمْوَالِهِمْ» متفق عليه من طريق ابن عباس، وجاء في الحديث المتفق عليه جواباً لسؤال الأعرابي «…فَإِذَا هُوَ يَسْأَلُ عَنْ الإِسْلامِ… إلى أن قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الزَّكَاةَ، قَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لا، إِلا أَنْ تَطَوَّعَ» ما يدل على أن فرض الزكاة إنما هو على المال من حيث هو مال بغض النظر عن كون مالكه مكلفاً أم غير مكلف. فالله قد فرض على المسلم المالك للمال حقوقاً كثيرة بوصفه مالكاً للمال أي غنياً، ففرض عليه الجهاد بالمال، وفرض عليه إطعام الجائع، وفرض عليه النفقة، إلى غير ذلك، ولكنه لم يفرض على المال المملوك للمسلم سوى حق واحد هو الزكاة، وحصر الحقوق الواجبة في المال بها، ونفى أن يكون فيه غيرها من الحقوق؛ مما يدل على أن الفرضية مسلطة على المال من حيث هو مال بغض النظر عن كون مالكه مكلفاً أو غير مكلف، وهذا دليل على أن المال تؤخذ منه الزكاة ولو كان مالكه غير مكلف، أي ولو كان مالكه صبياً أو مجنوناً. وأيضاً فإن الله حين فرض على المسلم فروضاً بوصفه مالكاً للمال أي حقوقاً متعلقة بالمال فرضها كذلك على المسلم مطلقاً سواء أكان مكلفاً أم غير مكلف، وذلك مثل نفقة الأقارب والزوجات، وأرش الجنايات، وقيم المتلفات. فكلها واجبة على الصبي والمجنون لأنها متعلقة بالمال، فكذلك الزكاة لأنها حق يتعلق بالمال. وفوق ذلك فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ، وَلا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» أي الزكاة، أخرجه الترمذي والدارقطني من طريق عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو، ومع أن في إسناده المثنى بن الصباح وفيه مقال، إلا أنه روي كذلك عن عمرو بن شعيب عن عمر بن الخطاب موقوفاً عليه، ويقاس عليه المجنون بجامع عدم التكليف في كلٍّ، فإذا وجبت على الصبي وهو غير مكلف وجبت كذلك على المجنون.
وأما الأمر الرابع: وهو كونها توضع في باب خاص في بيت المال؛ فلأن كل مال استحقه المسلمون ولم يتعين مالكه فهو من حقوق بيت المال. وكل حق وجب صرفه في مصالح المسلمين فهو حق على بيت المال. والزكاة وإن كانت مما يستحقه المسلمون ولكن مالكها قد تعين بنص الشارع، فقد عين الشرع مالكها حين عين الجهات التي تصرف إليها، وحصرها في هذه الجهات الثماني وحدها قال تعالى:((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [التوبة 60] وما دامت قد حصرت في هذه الجهات فهي ليست من حقوق بيت المال، لأنها مال معين الجهات لا يجوز صرفه على غير جهاته، وبيت المال إنما هو محل إحراز لها ولكنها ليست من حقوقه. وإنما كان بيت المال هو محل إحرازها لأنها تدفع إلى الخليفة وهو الذي يحصلها، عن أنس أن رجلاً قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَدَّيْتُ الزَّكَاةَ إِلَى رَسُولِكَ فَقَدْ بَرِئْتُ مِنْهَا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: نَعَمْ، إِذَا أَدَّيْتَهَا إِلَى رَسُولِي فَقَدْ بَرِئْتَ مِنْهَا، فَلَكَ أَجْرُهَا، وَإِثْمُهَا عَلَى مَنْ بَدَّلَهَا» أخرجه أحمد وصححه الهيثمي والزين، وعن بشير بن الخصاصية قال: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ قَوْماً مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا، أَفَنَكْتُمُ مِنْ أَمْوَالِنَا بِقَدْرِ مَا يَعْتَدُونَ عَلَيْنَا؟ فَقَالَ: لا» أخرجه أبو داود وعبد الرزاق وسكت عنه المنذري. فهذا دليل على أنها تدفع للخليفة وهو الذي يرسل ولاته وعماله لتحصيلها، ثم أنها تصرف إلى الجهات المعينة برأيه واجتهاده، ولذلك كان محل حفظها هو بيت المال، ولكنه مجرد حرز لها، إذ لا تصرف إلا لجهاتها المعينة، ولذلك توضع في باب خاص بها. فهي وإن كانت من واردات بيت المال لأنها تدفع للخليفة ويعاقب الناس عليها إن تأخروا عن دفعها، ولكنها ليست مما يصرف برأيه واجتهاده مطلقاً، بل برأيه واجتهاده محصوراً في حدود الجهات المستحقة لها ليس غير.
وأما الأمر الخامس: وهو كونها لا تصرف إلا لأشخاص مخصوصين محددي الصفة والعدد فلأن الله قد عين من تصرف إليه الزكاة، وحصر صرفها في هؤلاء الذين عينهم قال تعالى: ((إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ)) [التوبة 60] فقد جرى حصرهم في لفظ “إنما” وهي أداة حصر، فلا يحل أن تصرف لغيرهم مطلقاً. ولذلك يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «لا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ، وَلا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ» أخرجه الترمذي عن عبد الله بن عمرو وحسنه، وأخرجه الحاكم عن أبي هريرة وصححه. ويقول صلى الله عليه وسلم عن الزكاة: «وَلا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ، وَلا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» أخرجه أحمد وأبو داود والنسائي وقال الذهبي حديث صحيح ورواته ثقات. فهذا دليل على أنها لا تصرف لغير هذه الثمانية مطلقاً.