السـياسـة الـداخلية للـدولة الإسـلامية
السـياسـة الـداخلية للـدولة الإسـلامية
السياسة الداخلية للدولة الإسلامية هي تنفيذ أحكام الإسلام في الداخل، وقد كانت الدولة الإسلامية تنفذ أحكام الإسلام في البلاد التي تخضع لسلطانها، فتنظم المعاملات، وتقيم الحدود، وتنفذ العقوبات، وتحرس الأخلاق، وتضمن القيام بالشعائر والعبادات، وترعى جميع شؤون الرعية حسب أحكام الإسلام. وقد بين الإسلام الكيفية التي تنفذ بها أحكامه على الناس الذين يخضعون لسلطانه، ممن يعتنقونه، وممن لا يعتقدون به، فكانت الدولة الإسلامية تطبق أحكام الإسلام حسب هذه الكيفية، لأن طريقة التنفيذ حكم شرعي، كما أن معالجات المشاكل حكم شرعي. والمخاطبون بالإسلام هم جميع الناس؛ لأن الله قد خاطب بالإسلام جميع بني الإنسان بوصف الإنسانية فقط لا بأي وصف آخر، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾، ﴿ يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ﴾ وقد اعتبر علماء أصول الفقه أن المخاطب بالأحكام الشرعية هو كل عاقل يفهم الخطاب، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، وقد قال الغزالي في كتاب المستصفى من علم الأصول: (إن المحكوم عليه هو المكلف، وشرطه أن يكون عاقلاً يفهم الخطاب… وأما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة فمستفاد من الإنسانية التي بها يستعد لقبول قوة العقل الذي به فهم التكليف). وعلى ذلك كان المخاطب بالإسلام جميع بني الإنسان خطاب دعوة وخطاب تكليف، أما خطاب الدعوة فالمقصود به دعوة الناس إلى اعتناق الإسلام، وأما خطاب التكليف فالمقصود به إلزام الناس بالعمل بأحكام الإسلام. هذا بالنسبة للناس عامة، أما بالنسبة للذين تحكمهم الدولة الإسلامية فإن الإسلام يعتبر الجماعة التي تحكم بموجب هذا النظام وحدة إنسانية، بغض النظر عن طائفتها وجنسها ولا يشترط فيها إلا التابعية (وهي الولاء للدولة والنظام) ولا توجد فيه الأقليات، بل جميع الناس باعتبار إنساني فقط هم رعايا في الدولة الإسلامية، ما داموا يحملون التابعية. فكل من يحمل تابعية الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشرع له، سواء أكان مسلماً أم غير مسلم، وكل من لا يحمل التابعية يحرم من هذه الحقوق ولو كان مسلماً، فلو أن رجلاً مسلماً له أم نصرانية تحمل التابعية الإسلامية، وله أب مسلم لا يحمل التابعية الإسلامية، فإن أمه تستحق النفقة منه ولا يستحقها أبوه فلو طلبت أمه نفقة منه حكم لها القاضي بالنفقة لأنها تحمل التابعية أما لو طلب أبوه منه نفقة لا يحكم له القاضي بالنفقة ويرد دعواه؛ لأنه لا يحمل التابعية. فهو قد اعتبر الجماعة التي تحكم بالإسلام رعية، وجعل التابعية هي الجامعة بينهم في استحقاقهم رعاية شؤونهم بالإسلام، ويصبحون يعيشون في دار الإسلام.
هذا بالنسبة للنظرة إليهم من ناحية الحكم ورعاية الشؤون، أما من ناحية تطبيق أحكام الإسلام فإنها تأخذ الناحية التشريعية القانونية لا الناحية الروحية، وذلك أن الإسلام ينظر للنظام المطبق عليهم باعتبار تشريعي قانوني لا باعتبار ديني روحي، أي باعتبار الأحكام الشرعية لا باعتبار ناحية التدين، وذلك لأن النصوص الشرعية تلاحظ فيها الناحية التشريعية، لأن النص قد جاء لمعالجة المشكلة، والشارع قصد اتباع المعاني لا الوقوف على النصوص، ولذلك يراعى في استنباط الأحكام وجه العلة من الحكم، أي تراعى في النص حين استنباط الحكم الناحية التشريعية. وهذا التشريع حين يأمر به خليفة المسلمين يصبح قانوناً يجب تنفيذه على الجميع. ومن هنا كان خضوع الناس جميعاً في الدولة الإسلامية للأحكام الشرعية أمراً حتمياً: فالذين يعتقدون الإسلام – أي المسلمون – يكون اعتناقهم له واعتقادهم به هو الذي يلزمهم بجميع أحكامه؛ لأن التسليم بالعقيدة تسليم بجميع الأحكام المنبثقة عنها، فكان اعتقادهم ملزماً لهم بجميع ما أتت به هذه العقيدة إلزاماً حتمياً، ولذلك كان الإسلام بالنسبة للمسلمين شريعة منها التشريع، أي ديناً منه القانون، وهم مجبرون على القيام بجميع أحكامه، سواء المتعلقة بعلاقتهم بالله وهي العبادات، أو المتعلقة بعلاقتهم بأنفسهم وهي الأخلاق والمطعومات، أو المتعلقة بغيرهم وهي المعاملات والعقوبات. والمسلمون متفقون في العقيدة الإسلامية، وفي أن الكتاب والسنة هما مصدر الأدلة الشرعية والقواعد الشرعية، والأحكام الشرعية، ولا يختلف أحد منهم في ذلك مطلقاً، ولكنهم بحكم الاجتهاد مختلفون في فهم الكتاب والسنة، فكانوا من جراء هذا الاختلاف في الفهم مذاهب مختلفة، وفرقاً متعددة، وذلك أن الإسلام جعل المسلمين يجتهدون في استنباط الأحكام، وبطبيعة تفاوت الأفهام حصل الاختلاف في فهم الأفكار المتعلقة بالعقائد، وفي كيفية الاستنباط، وفي الأحكام والآراء المستنبطة. فأدى ذلك إلى وجود الفرق والمذاهب. وقد حث الرسول صلى الله عليه وسلم على الاجتهاد وبين أن الحاكم إذا اجتهد وأخطأ فله أجر واحد وإذا أصاب فله أجران اثنان، وفتح الإسلام باب الاجتهاد؛ ولذلك لم يكن عجيباً أن يكون هنالك أهل السنة والشيعة والمعتزلة وغيرهم من الفرق الإسلامية، ولم يكن غريباً أن يكون هنالك الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة والجعفرية والزيدية وغيرهم من المذاهب الإسلامية، وجميع الفرق الإسلامية والمذاهب الإسلامية تعتنق عقيدة واحدة هي العقيدة الإسلامية، وجميعهم مخاطبون باتباع أوامر الله واجتناب نواهيه، ومأمورون باتباع الحكم الشرعي لا اتباع مذهب معين، وما المذهب إلاّ فهم معين للحكم الشرعي يقلده غير المجتهد حين لا يستطيع الاجتهاد، فالمسلم مأمور بالحكم الشرعي لا بالمذهب، يأخذ هذا الحكم بالاجتهاد إن كان قادراً عليه، ويأخذه بالاتباع أو التقليد إن كان غير قادر على الاجتهاد. وعلى ذلك فإن جميع الفرق والمذاهب التي تعتقد العقيدة الإسلامية وتعتقد بالكتاب والسنة وأنهما وحدهما مصدر الأدلة الشرعية والقواعد الشرعية والأحكام الشرعية، هذه الفرق والمذاهب كلها مسلمة، وهؤلاء جميعهم يعتبرون مسلمين، وتنفذ عليهم أحكام الإسلام، وعلى الدولة ألا تتعرض لهذه الفرق الإسلامية، ولا لأتباع المذاهب الفقهية، ما دامت لا تخرج عن عقيدة الإسلام، أما إذا خرجت عن عقيدة الإسلام أفراداً أو جماعات فإنها تعتبر ذلك ارتداداً عن الإسلام، وتطبق عليهم أحكام المرتدين. والمسلمون مطالبون بجميع أحكام الإسلام، إلا أن هذه الأحكام منها ما هو قطعي ليس فيه إلا رأي واحد كقطع يد السارق، وتحريم الربا، ووجوب الزكاة، وكون الصلوات المفروضة خمساً، وما شاكل ذلك، فإن هذه الأحكام تنفذ على جميع المسلمين في فهم واحد لأنها قطعية.
وهناك أحكام وأفكار وآراء قد اختلف المسلمون في فهمها، وفهمها كل مجتهد خلاف فهم الآخر، مثل صفات الخليفة، وأخذ العشر على الأرض الخراجية، وإجارة الأرض، وغير ذلك، فهذه الأحكام المختلف فيها يتبنى الخليفة رأياً منها فتصبح طاعته واجبة على الجميع، وحينئذٍ على كل من يفهم رأياً غير الرأي الذي أمر به الإمام أن يترك رأيه ويعمل برأي الإمام فقط، لأن أمر الإمام يرفع الخلاف، وطاعة الإمام في ذلك واجبة، ويجب أن ينفذ المسلمون جميعاً أمر الخليفة فيما يتبناه من أحكام، لأن أمره نافذ ظاهراً وباطناً أي في السر والعلانية، ويأثم كل من عمل بحكم شرعي غير الحكم الذي تبناه الإمام وأمر به، لأنه بعد أمر الخليفة يعتبر الحكم الشرعي في حق المسلمين هو ما أمر به الإمام، وما عداه لا يعتبر حكماً شرعياً بحق المسلمين. لأن الحكم الشرعي في المسألة الواحدة لا يتعدد بحق الشخص الواحد. إلا أن الخليفة لا يتبنى شيئاً في العقائد، لأن هذا التبني يجعل الحرج على المسلمين فيما يعتقدون. إلا أنه إذا ظهر أهل بدع وأهواء بعقائد غير صحيحة فإن الدولة تتولى تأديبهم بعقوبات زاجرة إذا كانت هذه العقائد لا يكفر معتقدها، أما إذا كانت مما يكفر معتقدها فيعاملون حينئذٍ معاملة المرتدين. وكذلك لا يتبنى الخليفة شيئاً في العبادات لأن هذا التبني يجعل المشقة على المسلمين في عباداتهم؛ ولذلك لا يأمر برأي معين في العقائد مطلقاً ما دامت العقيدة إسلامية، ولا يأمر بحكم معين في العبادات ما عدا الزكاة والجهاد وتحديد العيدين، ما دامت هذه العبادات أحكاماً شرعية، ويتبنى فيما عدا ذلك في المعاملات جميعها، من بيع وإجارة وزواج وطلاق ونفقة وشركة وكفالة…الخ وفي العقوبات جميعها من حدود وتعزير، وفي المطعومات والملبوسات والأخلاق، وعلى المسلمين أن يطيعوه فيما تبناه.
نعم إن الخليفة ينفذ أحكام العبادات فيعاقب تارك الصلاة والمفطر في رمضان، وينفذ جميع أحكام العبادات، كما ينفذ سائر الأحكام سواء بسواء، وهذا التنفيذ هو واجب الدولة، لأن وجوب الصلاة ليس مجال اجتهاد ولا يعتبر تبنياً في العبادات، وإنما هو تنفيذ لحكم شرعي مقطوع به عند الجميع، ويتبنى لتنفيذ العقوبات على العبادات رأياً شرعياً يلزم الناس بالعمل به، كما يتبنى لتنفيذ العقوبات على أي حكم من سائر الأحكام. هذا بالنسـبة للمسـلمين. وأما غير المسلمين الذين يعتنقون عقيدة غير العقيدة الإسلامية فهم:
1 – أبناء المرتدين الذين ولدوا بعد ارتداد آبائهم، فإنهم يعاملون معـاملة غير المسـلمين حسـب وضعهم الذين هم عليه من كونهم مشـركين أو أهل كتاب.
2 – الذين يدعون أنهم مسلمون ويعتقدون عقيدة تناقض عقيدة الإسلام فهؤلاء يعاملون معاملة المرتدين.
3 – الذين هم من أهل الكتاب.
4 – المشركون وهم عبدة الأصنام والصابئة والمجوس والهندوس وجميع من ليسوا من أهل الكتاب.
والصنفان الأخيران يتركون وما يعتقدون وما يعبدون، ويسيرون في أمور الزواج والطلاق حسب أديانهم، وتعين الدولة لهم قاضياً منهم ينظر في خصوماتهم هذه في محاكم الدولة، وأما المطعومات والملبوسات فإنهم يعاملون بشأنها حسب أحكام دينهم ضمن النظام العام (أي ضمن ما تسمح به شريعة الإسلام)، ويعامل غير أهل الكتاب كمعاملة أهل الكتاب، قال عليه الصلاة والسلام في حق المجوس: «سنوا بهم سنة أهل الكتاب». أما المعاملات والعقوبات فإنها تنفذ على غير المسلمين كما تنفذ على المسلمين سواء بسواء، فتقام العقوبات على غير المسلمين كما تقام على المسلمين، وتنفذ وتفسخ معاملات غير المسلمين كما تنفذ وتفسخ معاملات المسلمين سواء بسواء، من غير تفريق أو تمييز بين شخص وآخر لأن جميع من يحملون التابعية على اختلاف أديانهم وأجناسهم ومذاهبهم مخاطبون بأحكام الشريعة الإسلامية في أمور المعاملات والعقوبات، ومكلفون باتباع الأحكام والعمل بها، إلا أن تكليفهم بذلك إنما هو من ناحية تشريعية قانونية لا من ناحية دينية روحية، فلا يجبرون على الاعتقاد بها لأنهم لا يجبرون على الإسلام، قال تعالى:﴿ لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أن يفتن أهل الكتاب عن دينهم، ولكن يجبرون على الخضوع لأحكام الإسلام من ناحية كونها تشريعاً وقانوناً واجب التنفيذ.
والخلاصة هي أن الدولة في سياستها الداخلية تنفذ الشرع الإسلامي على جميع الذين يحملون التابعية سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين ويكون تنفيذها على الوجه الآتي:
أ – تنفذ على المسلمين أحكام الإسلام جميعها.
ب – يترك غير المسلمين وما يعتقدون وما يعبدون.
جـ – يعامل غير المسـلمـين في أمور المطـعـومات والملبوسات حسب أديانهم ضمن النظام العام.
د – تفـصل أمـور الزواج والطلاق بين غير المسـلمين حسب أديانهم من قضـاة منهم في محاكم الدولة لا في محاكم خاصة، وتفصـل هذه الأمور بينهم وبين المـسـلمين حسب أحكام الإسلام من قضاة مسلمين.
هـ – تنفذ الدولة باقي أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات ونظم حكم واقتصاد وغيرها على الجميع، ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السواء.
و – جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية هم رعايا الدولة فتجب رعايتهم جميعهم على السواء دون تفريق بين المسلمين وغير المسلمين.