الوطنية معول هدم وتمزيق للجسم الواحد
في مواجهة الغزو الفكري
الوطنية
معول هدم وتمزيق للجسم الواحد
كثيراً ما تلوك الأَلْسُن كلمات ذات مدلولات خبيثة، فيما ظاهرها يخدع، وباطنها أشد وافظع، ولعل الضررِ يكمن في عدم وعي الكثير من الناس على المقاصد والمعاني التي يرمي إليها مُردّدو تلك الكلمات، ولا يُعذر مروّجو تلك الكلمات لكونهم يجهلون ما يقولون، أما من يعرفون أن (العبرة بالمقاصد والمعاني وليست بالألفاظ والمباني) فليس لهم عذر فيما يشيعون، وسوف يسألهم رب العزة سبحانه عن كل ما قالوه أو فعلوه.
ومن الكلمات الرائجة التي يردّدها الناس عن وعي أو بغير وعي كلمة الوطنية ومشتقاتها وما يتفرع عنها.
الوطن مكان الإقامة
وفي عودة إلى القاموس المحيط للفيروز أبادي نجد أن المعنى اللغوي الذي تعارف عليه العرب لكلمة وطن هو (منـزل الإقامة ومربط البقر والغنم، الجمع أوطان، ووطَنَ به يَطِنُ وأوطَنَ: أقام، والإقامة قد تكون في قرية أو مدينة وبذلك تصلح المدينة أو القرية لأن تكون وطناً).
وبالتمعن في المعنى اللغوي الذي أورده الفيروز أبادي يتبيّن لنا أمران، أولهما: أن كلمة وطن تصلح أن تطلق على محل إقامة الإنسان والحيوان معاً، وثانيهما: أن القرية والمدينة تصلحان أيضاً أن يطلق عليهما (وطن)، بل نستنتج أكثر من ذلك وهو أن الإنسان قد يكون له عدة أوطان ولكن ليس له إلا دولة واحدة. والمسلم كذلك يمكن أن يختار عدة أماكن ويتخذ منها محلاً لإقامته بل قلْ أوطاناً، يتوطن فيها ما شاء له الله أن يمكث، ولكنه لا يدين بالولاء إلا لخالقه سبحانه وتعالى وبالتالي لدينه، ويدين بالطاعة للراعي السلطان المبايع بيعة شرعية، ويكون بذلك صاحب دولة واحدة ويستظل راية واحدة، مطيعاً لإمام واحد، مبتغياً رضى الله الواحد. فقد يقيم المسلم في المدينة المنورة ويتخذ منها وطناً، ثم ينتقل إلى بغداد ليتخذها وطناً، ثم يذهب إلى طهران أو كابول أو استانبول ليتخذ منها أوطاناً، وتكون هذه أوطاناً له في الحقيقة والواقع وليست أوطاناً ثانية أو ثالثة كما يحدث في مجاملات المضيف لضيفه من الزعماء السياسيين حينما يقولون أهلاً بكم في وطنكم الثاني. فكل مدينة أو قرية في العالم تصلح أن تكون وطناً للمسلم، ولا موانع شرعية دون ذلك إلا في حالة الاستضعاف الذي يمنعه من أداء واجباته الدينية وفي حينها يصبح فرضاً عليه الانتقال والهجرة إلى وطن أو مدينة أو قرية يتمكن فيها من القيام بالتكاليف الشرعية: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا). هذا بالنسبة لصلاحية كل مدينة أو قرية لأن تكون محلاً مختاراً لإقامة المسلم أي وطناً له، ولكن في المقابل لا تصلح أية دولة لأن تكون دولة المسلم لأن لذلك شروطاً شرعية يُلزمه الشرع بها، وأهمها أن تكون هذه الدولة تَحكُمُ بشرع الله، وأن يكون حاكمها حاكماً شرعياً مُنَصَّباً من قبل الأمة ومبايعاً بيعة شرعية، وبتعبير آخر أن تكون دولة واحدة فقط على سطح الكرة الأرضية هي دولة الخلافة، وبما أن هذه الدولة الواحدة تحكم بلاداً شاسعة فيها مدن وقرى عديدة، وكل مدينة أو قرية فيها تصلح لأن تكون مقراً ووطناً له، وكل بضعة مدن وقرى تقع ضمن عمالة أو ولاية من ولاياتها، فإن تلك الترتيبات الإدارية لا تعني تجزئة أو تمزيقاً أو تقسيماً لدولة الخلافة، ولا هي أقاليم تتمتع باستقلالية أو حكم ذاتي، والإقامة فيها لا تُعطي قاطنها هويةً مستقلة عن المدينة أو الولاية المجاورة ولا تمنحه أي تمايز عن غيرها من المدن والولايات لأن الكل في النهاية يحملون تابعية واحدة ويدينون بولاء واحد ويطيعون إماماً واحداً، وينخرطون في جيش واحد تحت راية واحدة، ويطبق عليهم دستور واحد في الشأن الاقتصادي والاجتماعي والمالي والسياسي والتعليمي، ومن هنا لا تحمل إقامته في مدينة (وطن) معينة أي امتياز أو تمايز أو استقلالية، بل لا يكون اختياره للإقامة في تلك المدينة عقبة أمام انتقاله إلى مدينة أخرى، وبالتالي لا يكون بحاجة إلى إذن مسبق أو تأشيرة حتى يُسمح له بتغيير مكان إقامته، فوطنه هنا هو المكان الذي اختاره اليوم مكاناً لإقامته، وقد يختار غداً وطناً آخر أي إقامة أخرى. ومن هنا يتبين لنا أن الوطن لا يعين أكثر من مكان الإقامة وليس له أُيُّ اعتبار آخر، ولا قدسية له، ومحبته ليست من الإيمان كما ينسب البعض زوراً إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، يقيم فيه مختاراً ويرحل عنه إلى غيره متى يشاء.
ولمعالجة هذا الانحراف يجب توضيح ذلك لكل من يعتبر أن وطنه هذه الكيانات التي رسم حدودها المستعمر، وأن يُسخَرَ من حرصه على تكريس تلك الحدود الوهمية وأن يُسخَرَ من قناعته الخاطئة بأنه يقيم في وطن اسمه تركيا أو العراق أو باكستان، لأنه لا يعقل أن يقيم في وقت واحد في كل المدن والقرى التي تشملها كلمة تركيا أو كلمة العراق أو كلمة باكستان، والأصح والأصدق أن يقول أن وطنه مدينة استانبول أو مدينة بغداد أو مدينة كراتشي، وهذا ما كان يحصل أيام دولة الخلافة حيث كان يُعرِّف المسلم عن نفسه بذكر المدينة التي يقيم فيها، حتى إذا انتقل إلى مدينة أخرى للإقامة فيها فإن اسم المدينة الأولى كان يتحول إلى كنية له للتعريف به وليس اعترافاً بكيانية إقليمية أو قطرية مستقلة، وذلك أمثال: الخوارزمي والرازي والفيروز أبادي والشوكاني، والصنعاني والقرطبي والطبري والطبرسي… الخ. وإذا تقيد المسلم بذكر مدينة فقط فإنه يكون بذلك قد ألغى الحدود في أقواله وبقي أن تُلغى في تصرفاته وأعماله ويكون بذلك قد أحبط كل المشاريع والخطط التي رسمها الكافر المستعمر في بلاد المسلمين.
مشتقاته ومتعلقاته
هذا عن طريق الوطن أما عن مشتقاته ومتعلقاته، فمن مشتقات الوطن كل مِن كلمة الوطنية والمواطن والمواطنين والتّوطين، والمستوطنين والاستيطان والمستوطنات والمواطَنَة، وأبرز المشتقات وأخطرها كلمة الوطنية والتي سنعود إليها بعد بحث متعلقات الوطن.
أما عن متعلقات الوطن فمنها: السكان والأرض والتراب ونظام الحكم والقوم والقومية والقبائل والبلد والبلاد والدار والديار وأخيراً التاريخ والجغرافيا.
ولكثرة ما تراكم من مصطلحات ومعان اصطلاحية على المعاني اللغوية، فإن الكثيرين يقعون فريسة الخلط بين معاني الكلمات ومشتقاتها ويتصورون أنها مرادفات لها، ومن الكلمات التي يحسبها الناس مرَادفات كل من كلمة وطن وحكومة وحكم وبلد وبلاد، مع أن كل واحدة من تلك الكلمات لها معنى يختلف عن معنى الأُخريات. وقد أوردنا معنى كلمة الوطن في الفقرات السابقة وكلمة الدار تعني لغةً: المحل يجمع البناء والناس وتعني مدينة النبي صلى الله عليه وسلم، وكلمة البلد تعني لغةً: مكة المكرمة وكل قطعة من الأرض مُستَحْيِزَة عامرة وتعني التراب والقبر والدار والأرض وهنا يبدو بعض التشابه في إحدى معاني الدار والبلد لكنهما تختلفان كلياً عن معاني الوطن والدولة.
أما عن المعنى اللغوي لكلمة القوم التي اشتقّوا منها كلمة القومية كما ورد في القاموس المحيط (القوم: الجماعة من الرجال والنساء معاً، أو الرجال خاصة، أو تدخله النساء على تبعية ولا مفرد له من لفظة). ومن هذا المعنى يتبين أن كلمة القوم لا تشمل كل أفراد المجتمع بل تعني أية مجموعة من الرجال والنساء، بل قد يعني أية مجموعة من الرجال دون النساء، وليس معنى أبعد من ذلك إلا في عقول مخترعي القومية.
وعن كلمة السكان فهي جمع للساكن. والمسكِنْ هو المنْزِل والبيت، والمسكن أو المنـزل لا يتولى التوفيق والتوحيد بين الساكنين لأنه لا يملك القدرة ولا يحمل خاصية تجذب الناس إلى بعضهم، بل الناس هم من ينجذبون لبعضهم بسبب الخواص البشرية والغرائز والحاجات الكامنة فيهم.
أما تراب الأرض فهو كذلك لا يملك القدرة على توحيد أو تفريق الجماعات وليس فيه خاصية الربط أو التفريق، وما ينطبق على التراب ينطبق على كل الجمادات والعجماوات، فلا الحجر بقادر على ذلك ولا الشجر ولا البهائم ولا البحر ولا الجبال ولا الحواجز الطبيعية.
أما فيها يتعلق بالتاريخ والجغرافيا فإنهما لا يشكلان رابطاً كما يدعي دعاة القومية والوطنية، وما حصل ويحصل من وقائع على الأرض يؤكد أن كثيراً من الشعوب كانت تحتل بقعة جغرافية واحدة وعاشت مراحل تاريخية واحدة ولكنها تمزقت لأن التاريخ والجغرافيا لا يشكلان ولا يمنعان من التمزيق والتفريق.
الوطنية شعور غريزي، ولا تصلح أن تحدد للإنسان علاقاته وأوضاعه.
الوطنية شعور غريزي
مما تقدم يتبين لنا أن مشتقات الوطن ومتعلقاته لا تحمل أية صفة فكرية أو معنوية فيها طابع القداسة ولا تستطيع تلقائياً إيجاد الروابط والألفة بين البشر، ويتبين أن كلمة (الوطنية) المشتقة من وطن لم تكن موجودة ولا معروفة لدى المسلمين والأوائل، بل هي نتاج الغزو الفكري الصليبي الهدام. ويتبين أيضاً أن الوطنية ليست فكراً ولا ينبثق عنها فكر، بل هي شعور غريزي هو رجعٌ لغريزة البقاء، تلك الغريزة التي توجد في الإنسان والحيوان على السواء والغريزة ليست فكراً ينظم السلوك ولا تصلح لإنهاض البشر أو تقويم اعوجاجهم، لأنها هي الداء الذي يؤدي إلى الانحراف والاعوجاج. والأنظمة والأفكار هي التي تقوّم الانحراف وتنهض بالناس. والحالة العاطفية التي تحنو للأرض والناس والأشياء هي حالة يتولى ضبطها وتوجيهها الشرع. قال تعالى: (قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ). وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به». والمؤمن يحبُّ في الله ويكره العصاة لأمر الله، ويتمعّر وجهه غضباً لانتهاك حُرمات الله، ويفرح لنصر الله وتوفيقه وهدايته، ولذلك فهو لا يقبل اتباع الهوى والعواطف والغرائز ومنها غريزة تفضيل التراب والأطلال على طاعة أوامر الله، أي الوطن والوطنية على الشرع والأحكام الشرعية.
ديار الإسلام لا تغزى
وأما عن الآيات التي ذكرت الديار، فلم تذكرها من منطلق عاطفي أو غريزي بل من منطلق الحكم الشرعي في ما يُغتصب من بلاد المسلمين، لا لأنها أرض الأجداد أو لأنها تحوي ذكريات الطفولة العاطفية، بل من منطلق أن الأرض لله سبحانه يورثها من يشاء من عباده وأن هذا الأرض إذا ما اغتُصبت فإن ذلك يعني أنها انتُزعت من سلطان الإسلام وتحولت من دار الإسلام إلى دار الكفر، ومن تطبيق أحكام الله على ساكنيها إلى تطبيق أحكام الكفر، لذلك يصبح فرضاً استرجاعُها لحظيرة الإسلام. ومن هذا المنطلق تحدث القرآن عن: (الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ) و(وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ)، لأن الأرض لله وليست لعباد الله، ولذلك إذا أُخرج من بعضها بعض عباده لغير مطلب شرعي كتثبيت حكم الله في الأرض وإعلاء كلمته، فإن ذلك الإخراج يكون بغير حق، هذا عدا عن كون إخراج الإنسان من بيته ومزرعته ومصادرة ممتلكاته هو ظلم له واستيلاء على حقه الشرعي في أن يمتلك بيتاً وأثاثاً ومالاً نقدياً وعينياً، وحين منعه من ممارسة حقه الشرعي الذي وهبه إياه رب العالمين فإن ذلك المنع يُعتبر بغير حق وتجاوزاً للحق وتعدياً عليه، ولا تحوي هذه الآية الكريمة أية إشارة إلى العلائق العاطفية أو الغريزية التي تربط الإنسان بالأرض أو تُثبتُ له حقوقاً عاطفية اغتُصبت منه بغير حق.
وحينما يدافع المسلم عن دياره أو بلاده أو موطن إقامته لا يدافع عنها من باب الحرص على ما يملك فقط، ولا هو يدافع عن تراب وحجارة وذكريات طفولة، بل قبل ذلك وأهم منه هو يدافع عن دار الإسلام والبلاد الإسلامية التي تحكم بشرع الله مخافة أن تقع في يد أعداء الله الذين ينوون حرمانها من نعمة أن تُحكم بالإسلام. وحينما يحاول من أُخرج من دياره العودة إليها بالقوة والحرب فإن موقفه هذا نابع من قناعته بأنه لا يجوز شرعاً التفريط بها وإعطاؤها لقمة سائغة للكفار، وأن إرجاعها هو واجب كفائي على المسلمين الأقرب فالأقرب لإلحاقها بدار الإسلام، ودار الإسلام يُدافَعُ عنها ليس حفاظاً على ترابها وشجرها وحجرها، بل حفاظاً على المبدأ الذي يطبق فيها، ومن ثم حفاظاً على أرواح وأموال وأعراض المسلمين من أن تُنتهك من قبل الكفار، ودرءاً لظلام الكفر عن حياض المسلمين، ولا يقوم المسلم بعمله ذلك تلبيةً للشعور الغريزي أو العاطفي الذي يثيره الالتصاق بالأرض، ولا من أجل ذكريات الطفولة التي تعلق بالذاكرة وتثير الشّجى للبكاء على رَسْمٍ دَرَسَ، أو تهّيج شيطان الشعر وأبيات الرثاء.
وجود مجموعات مختلفة من الناس على أرض واحدة
لا يمنحهم إقراراً من الشرع على ما يختارونه من نظم!
والشعور العاطفي الذي يدعي البعض أنه يربّي عند الإنسان ما يمسونه (الحسّ الوطني)، هذا الشعور لا يحدد للإنسان طبيعة علاقاته وأوضاعه، لأن ما يحدد علاقات المرء وسلوكه وينظمها هي الأفكار والنُّظُم والمعالجات النابعة من عقيدته وليست الحالة الشعورية العاطفية الغريزية، وإلا لأصبح الإنسان كالحيوان يتصرف بدافع الغريزة وردات الفعل. وبما أن المجتمع الذي يعيشه المسلم هذه الأيام لا تتحكم فيه الأفكار والنُّظُم والمعالجات النابعة من عقيدته، فإننا نراه يتمسك بالشعور الغريزي الذي أسمَوْه الوطنية ويجعل منه عنواناً للأفراد والجماعات من إبراز هويات مميزة لكل مجموعة من المجموعات البشرية حتى يصل هذا التمايز إلى أن يصبح قريباً للتمييز العنصري وتفاخر الجاهلية الأولى القبلي والعرقي.
وإذا صادف ووُجد خليط من السكان في منطقة جغرافية واحدة، أي مسلمين وغير مسلمين، فإن مجرد وجودهم هكذا في تلك البقعة الجغرافية لا يمنحهم إقراراً من الشرع على كل ما يختارونه من نظم حكم أو اقتصاد أو غيرهما، لأن الإقرار الشرعي لا ينطلق من الظروف القائمة ولا من طبيعة الأرض أو البقعة الجغرافية، لأن الأرض لا تُشعُّ تعايشاً ولا تُشعُّ نُظُم حياة، بل الشرعية تأتي من الأحكام الشرعية التي تنظم لهؤلاء السكان علاقتهم بخالقهم وعلاقاتهم ببعضهم وعلاقاتهم بالمناطق الجغرافية الأخرى المحيطة بهم على أساس دار الكفر ودار الإسلام، ولن تكون الظروف هي مصدر التشريع، بل هي محلّ العلاج بالشرع.
وإذا كان هنالك من المسلمين من يرى أن وجود هذا الخليط (الوطني) من السكان يفرض عليه حسب قوله عدة أشياء منها ما يسميه:
– (الانفتاح الإيجابي على الآخرين).
– ومنها (عدم العزلة عن مواقع التأثير ومصادر القرار في ذلك الوطن).
– ومنها (الدفاع عن كل المواقع التي يفرضها الواقع)
– ومنها (التكامل مع القوى الأخرى المتحركة في كل الأصعدة السياسية والأمنية).
– ومنها (الواقع يفرض أن نتحرك وطنياً بالمعنى الواقعي ولكن في نطاق الخط الإسلامي والتحرك في هذه الدائرة للدخول في جبهة وطنية من الآخرين الذين لا يلتقون معنا في الفكر وذلك من أجل تحرير بلد محتل أو من أجل هدم نظام جائر).
– ومنها (أن هناك أكثر من قاعدة للتوافق والتعاون والتوحيد في الموقف من خلال القضايا المشتركة التي تفرضها طبيعة الوضع السياسي الذي تعيشه العلاقات الدولية أو المحلية المتحركة في صعيد الوطن كله).
لا يتخذ الواقع وضروراته حجة للقيام بما حرم الله!
هذه الأمثلة من الكلام (الوطني) الذي يردده بعضهم، والذي تكرر فيه كلمات المرونة، والانفتاح الإيجابي، وعدم العزلة عن مواقع التأثير، والتكامل مع القوى الأخرى، و(الواقع يفرض ويفرضها الواقع، بالمعنى الواقعي، والتوافق والتعاون والتوحد، والقضايا المشتركة، وتفرضها طبيعة الوضع، كل هذه الكلمات تتردد للتدليل على كيفية تصرف الخليط السكاني داخل البقعة الجغرافية الواحدة، وتبرر الشذوذ عن الحكم الشرعي الواجب التقيد به في ذلك في مثل هذه الحالات. فإذا كان الحكم الشرعي يحرم موقفاً سياسياً معيناً، فإن ذلك الموقف لا يصبح حلالاً إذا اتخذناه بحجة أن عدم اتخاذه يؤدي إلى اتهامنا من قبل شركائنا من الخليط السكاني بالسلبية وعدم المرونة، أو أنهم يعتبرون ذلك عزلة عن الواقع أو عدم انفتاح، أو أنه رفض للتعايش مع الواقع، فالذي يحدد الموقف السياسي والعمل السياسي هو الشرع وليس العقل ولا مواقف واتهامات الآخرين، ولا يتغير موقف المسلم المستند إلى الدليل الشرعي بين عشية وضحاها تحت ضغط الأحداث أو لتسهيل تمرير صفقة قد يسميها البعض (الاستحقاق الدستوري). ولا يتغير بدعوى أننا نريد أن نتجنب عزلة (الحركة الإسلامية) عن مواقع التأثير أو مصادر القرار، فالحق أحق أن يتبع مهما كان ثمن ذلك ولو كان حصاراً في شعب أبي طالب خارج مكة وأكل ورق الشجر من شدة الجوع، أليس ذلك أصعب من العزلة عن مواقع السياسة ومصادر القرار؟ ألم يُتهم سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم من قبل كفار قريش بأنه ساحرٌ ومجنون وصابئ، ومتنكرٌ لدين آبائه وأجداده؟ فهل غيّر ذلك من مواقفه، أو بدّل في طريقته لإقامة دولة الحق، أو تراجع عن دعوته بحجة مسايرة الأوضاع والجيران؟ كلا، بل نجد أنه تحداهم في أعز مقدساتهم وهي الأصنام وقال لهم: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ). ولم يجامل أو يساير أو يتخذ (المرونة) أو ما يسمونه (الديبلوماسية) طريقة للوصول إلى غايته، ولم يتمسك بتراب (وطنه) مكة الذي أُخرج منه بغير حق هو وصحابته الكرام، وقد كان في استطاعته ذلك بعد الفتح، لكنه رجع صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأقام فيها ما تبقّى من أيام حياته، ولم يوص المسلمين بدفن جثمانه الطاهر في تراب (الوطن) مكة المكرمة، وهكذا فعل أصحابه رضوان الله عليهم من بعده، فالإمام علي كرم الله وجهه والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة جميعهم استُشهدوا خارج (وطنهم) مكة ولم يوصوا بالمسلمين بدفنهم في مكة، وشهداء بدر وأحُد دفنوا بالبقيع في المدينة، وأبو عبيدة دفن في غور الأردن، وأبو أيوب الأنصاري دفن قرب أسوار القسطنطينية، وحَفَظة القرآن الكريم من الصحابة دُفنوا بالآلاف في أطراف الهند وبحر قزوين خلال الفتوحات الإسلامية، ولم يصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا عن صحابته الكرام أية إشارة (وطنية) أو حنين للديار، بل كان همّهم الأول وقضيتهم المصيرية إعلاء كلمة الله ونشر الإسلام وإخراج الناس من الظُلمات إلى النور.
بل إن ما صدر عنه صلى الله عليه وسلم كان حباً لبلاد أحبها الله وليس حباً لبلاد لأنها وطنه. روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه، التفت إلى مكة وقال: «أنتِ أحب بلاد الله إلى الله، وأنتِ أحب بلاد الله إليّ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك». ونحن نفهم من قول الرسول هذا أن مكة هي أحب البلاد إلى الله، ولهذا فهي أحب البلاد إلى رسول الله، ولهذا فهي أحب البلاد إلى كل مسلم حيثما كان وطنه.
من كان همه إعلاء كلمة الله فإنه لا ينظر إلى رضى الآخرين ولا يخشاهم
وقد عنّف القرآن الكريم من تخلف عن الجهاد بحجة الحرّ حيث قال تعالى: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا)، فما بالك بمن يتخلف عن الجهاد بحجة أنه يجاهد ضمن حدود (الوطن) أما خارجه فإنه يحتاج إلى استراتيجية مشتركة، وتنسيق وإذنٍ مسبق من أصحاب القرار وشركاء (الوطن). فمن يكون همّه إعلاء كلمة الله لا يغرق في شبر من الماء، ولا يحيد عن غايته اتقاءَ ألسنة الأعداء، ولا ينظر إلى رضى الآخرين ولا يخشاهم: (أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ) صدق الله العظيم.
عايد شعراوي