البيعة لخليفة المسلمين – ح7
البيعة لخليفة المسلمين
ح7
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعه وسار على دربه, واهتدى بهديه, واستن بسنته, ودعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين, واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا سهل إلا َّ ما جعلته سهلا , وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلا . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
ربِّ اشرح لي صدري, ويسِّر لي أمري, واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي.
أحبتنا الكرام: مستمعي إذاعة المكتب الإعلامي لحزب التحرير, أحييكم بتحية الإسلام, فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
إخوة الإيمان: في هذه الحلقة سنتحدث عن مبايعة عثمان بن عفان رضي الله
عنه بالخلافة إلى نهاية عهده بها.
فـُوجئَ المُسلمُونَ سَـنةَ ثــَلاثٍ وَعِشرينَ هِجريَّـةً بمَقتـَـل ِعُمَر, فـَنـَالَ الشـَّهَادَةَ وَهُوَ عَـلى أتـَمِّ مَا يَـكـُونُ قـُوَّةً وَنـَشاطا, وَهُوَ فِي أطهَرِ مَكانٍ وَآمَـنِه, فِي المَسجـِدِ, يُصلـِّي الفـَجْـرَ فِي جَمَاعَةٍ.
وَكانَ الذي طعَـنـَهُ عـَبداً فـَارسيـَّاً يُـقالُ لـَهُ أبـُو لـُـؤلـُـؤةَ المَجُوسِيّ, وَكانَ قــَـدْ هَـدَّدَهُ بالقـَتـلِ فمَا بَالى بـِهِ عُـمَـرُ رضي الله عنه.
قالَ أبـُو رَافِع: (( كـُـنتُ عِـندَ عُـمَرَ بنِ الخطابِ بَعدَ أنْ طـُعِـن, وَكانَ مُستـَـنِداً إلى ابن عَـبَّاسٍ وَعِـندَهُ ابنُ عُـمَرَ وَسَعيدُ بنُ زَيدٍ فقالَ: {اعلمُوا أنـَّي لـَمْ أقـُـلْ فِي الكلالـَةِ شـَيئا, وَلـَمْ أستخلِفْ بَعدِي أحَدا, وَأنـَّهُ مَنْ أدرَكَ وَفـَاتِي مِـن سَبْيِ العَرَبِ فـَهُوَ حُرٌّ مِـنْ مَالِ اللهِ})).
وَرَوَى زَيدُ بنُ أسلـَمَ عَنْ أبيهِ أنَّ عُمَرَ قال: {إنَّ رجَالاً يـَقـُولـُون: إنَّ بَيعَةَ أبي بَـكرٍ كانـَتْ فـَـلـتـَة وَقـَى اللهُ شرَّهـَا, وَإنَّ بَيعَةَ عُـمَرَ كانـَتْ عَـنْ غـَيرِ مَشُورَة, وَالأمْرُ بَعدِي شـُورَى, فإذا اجتـَمَعَ رَأيُ أربَعَةٍ فـليـَتـَّبـِع الاثـنـَانِ الأربَعَة, وَإذا اجتـَمَعَ رَأيُ ثــَلاثــَةٍ وَثــَلاثــَةٍ فاتـَّبعـُوا رَأيَ عَبدِ الرَّحمَن, فاسمَعـُوا وَأطيعـُوا, وَإنْ صَـفـَّـقَ عَبدُ الرَّحمَنِ بإحدَى يَدَيهِ عَـلى الأخرَى فاتـَّبعـُوه}.
قالَ سَعيدُ بنُ زَيدٍ: {إنـَّـكَ لـَو أشـَرْتَ برَجُـلٍ مِـنَ المُسلمينَ ائتمـَنكَ النـَّاسُ}.
فـَقالَ عُمَر: {قــَدْ رَأيتُ مـِنْ أصْحَابي حِـرْصاً سيـِّـئاً وَإنـِّي جَاعـِلٌ هَذا الأمْرَ إلى هَؤلاءِ النـَّـفـَرِ السـِّـتــَّـةِ الذينَ مَاتَ رَسُولُ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عـَنهُمْ رَاض}.
ثـُمَّ قالَ: {لـَو أدْرَكـَنِي أحَدُ رَجُـلـَينِ فـَجَعَـلتُ هَذا الأمْرَ إليهِ لــَوَثـِقـْتُ بـِهِ: سَالِمُ مَولـَى أبي حُذيفـَة, وَأبـُو عُـبيدَةَ بنُ الجَرَّاح، فإنْ سَألـَنِي رَبِّي عَنْ أبي عُـبيـدَةَ قـُـلت: سَمِعْتُ نـَبيـَّـكَ يـَقـُول: إنـَّهُ أمينُ هَذِهِ الأمَّـة، وَإنْ سَألـَنِي عَـنْ سَالـِمْ قـُـلـت: سَمِعْـتُ نـَبيـَّـكَ يَـقـُـول: إنَّ سَالـِماً شـَدِيـدَ الحُبِّ لله}.
فقالَ رَجُـلٌ ــ هـُوَ المُغيرَةُ بنُ شُعبَة ــ: {أدُلــُّـكَ عَـليه؟ عَـبدُ اللهِ بنُ عُـمَـرَ}.
قالَ عُـمَرُ: {قاتـَـلــَـكَ اللهُ! وَاللهِ مَا أرَدْتَ اللهَ بهَذا! لا أرَبَ لنـَا فِي أمُوركـُمْ، وَمَا حَمِدتـُهَا فأرْغـَبَ فيهَا لأحَـدٍ مِـنْ أهْـلِ بَيتـِي، إنْ كانَ خـَيراً فـَقــَدْ أصَبـْـنـَا مِنه، وَإنْ كانَ شَرَّاً فبحَسْبِ آل ِعُمـَرَ أنْ يُحَاسَبَ مِنهُمْ رَجُـلٌ وَاحدٌ، وَيُسألَ عَـنْ أمْرِ أمَّـةِ مُحَمَّـدٍ صلى الله عليه وسلم أمَا وَقــَـدْ جَهَدْتُ نـَفسِي وَحَرَمْتُ أهـْـلِي، وَإنْ نـَجَوتُ كـَفافا، لا وزْرَ وَلا أجـْـرَ إنـِّي لسَعـِيد}.
لـَقـَدْ أبَى أميرُ المُؤمِنينَ عُمَرُ بنُ الخـَطـَّـابِ رَضيَ اللهُ عنهُ وَهُوَ يَجُودُ بأنفـَاسِهِ الأخيرَةِ الطـَّاهِـرَةِ أنْ يَستخـْـلِفَ أحَدا.
وَحـِينَ ألــَحَّ عَليهِ بَعضُ أصْحَابـِهِ كـَي يَختارَ بنـَفسِهِ مَنْ يَخلـُـفـُهُ استمْسَـكَ بإبـَـائِهِ وَرَفضِهِ وَقـَالَ لـَهُمْ: {أأحْمـِلُ أمْرَكـُمْ حَيـَّاً وَمَيتا, وَدَدْتُ أنْ يَكـُونَ حَظـِّي مِنهَا الكـَفـَافُ, لا لِي وَلا عَـليّ}!
وَأضَافَ قائِـلا ً: {أنـِّي إنْ أستخلـِفْ, فـَـقـَدِ استخلـَفَ مَنْ هُوَ خـَيرٌ مِنـِّي ــ يَعني أبَا بَكر ٍــ وَإنْ أترُكْ, فقدْ ترَكَ مَنْ هُوَ خـَيرٌ مِنـِّي ــ يَعني رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم ــ وَاللهُ حَافظ ٌ دِينـَهُ}!
وَوَلـَّى عُمَرُ رضي الله عنه رُوحَهُ الضَّارعَة شـَطرَ اللهِ الرَّحيم, يَسألـُهُ تعَالى أنْ يُـلهمَهُ الرُشد, وَأسبلَ جفنيه, وَأعملَ فِكرَه … وَعَلى الفور لاح له من الله نور!
وكأنمَّا تذكـَّرَ ذلكَ اليوم البعيد القريب, وقد أرهف الصحابة سمعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يعظهم ويناديهم, قبل وفاته بأيام:
« أيها الناس! إنَّ أبا بكر لم يسؤني قط, فاعرفوا له ذلك! أيها الناس! إنـِّي راضٍ عن عمر… وعلي… وعثمان… وطلحة بن عبيد الله… والزبير بن العوام… وسعد بن أبي وقاص.. وعبد الرحمن بن عوف, والمهاجرين الأولين, فاعـرفوا لهم ذلك ».
ما أجلــَّها من ذكرى تعود في أوانها! فليكن لهؤلاء الستة الذين منحهم الرسول صلى الله عليه وسلم كل هذا التكريم عاقبة الأمر الذي يشغل الأمير المحتضر!
وَلـْيَضَعْ في أعناقهم مجتمعين الأمانة التي حملها طوال سني خلافته في مثـل عزم المرسلين!
وهكذا جمعهم حوله ووجه إليهمُ الحديث:
{إنـِّي نظرت فوجدتكم القادة, ولا يكون هذا الأمر إلا َّ فيكم, وقد قـُبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عنكم راض, وإنـِّي لا أخاف الناس عليكم ما استقمتم… فإذا أنا مِتُّ فتشاوروا ثلاثة أيام, لا يأت اليوم الرابع إلا وعليكم أميرٌ منكم, وليحضر معكم عبد الله بن عمر مُشيرا, ولا يكون له من الأمر شيء}!
وهكذا جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه الخلافة شورى في ستةٍ وهم:
1. عثمانَ بن عفان. 4. والزبير بن العوام.
2. عليٍّ بن أبي طالب. 5. وعبد الرحمن بن عوف.
3. طلحة بن عبيد الله. 6. وسعد بن أبي وقاص.
ــ رضي الله عنهم أجمعين ــ
وجعلَ عبدَ الله بنَ عمر مَعَهُم مُشيراً وَليسَ مِنهُم، وأجَّـلهم ثلاثا، وَأمَرَ صُهيباً أنْ يُصليَ بالنـَّاس.
وكان طلحة غائباً في أمواله بالسّراة، فدعا عمر الرهط فدخلوا عليه فقال: {إني نظرت لكم في أمر الناس، فلم أجد عند الناس شقاقاً إلا أن يكون فيكم، فإن كان شقاقٌ فهو فيكم ثم قال: إن قومكم إنما يؤمِّرون أحدكم أيها الثلاثة ـ لعبد الرحمن وعثمان وعلي ـ فاتـَّـقِ الله يا علي إن وليت شيئاً من أمور المسلمين، فلا تحملنَّ بني هاشم على رقاب المسلمين، ثم نظر إلى عثمان وقال: اتقِ الله إن وليت شيئاً من أمور المسلمين، فلا تحملنَّ بني أمية ـ أو قال: بني أبي معيط ـ على رقاب المسلمين. وإن كنت على شيءٍ من أمر الناس يا عبد الرحمن فلا تحملنَّ ذوي قرابتك على رقاب الناس. ثم قال: قوموا فتشاوروا فأمّروا أحدكم}!
فلما خرجوا قال: {لو ولوها الأجلح لسلك بهم الطريق} ـ يعني عليا
فقال ابن عمر: {فما يمنعك يا أمير المؤمنين أن تقدم عليا}؟
قال: {أكره أن أحملها حياً وميتا}! وقاموا يتشاورون.
قال عبد الله بن عمر: {فدعاني عثمان مرة أو مرتين ليدخلني في الأمر, ولم يسمني عمر, ولا والله ما أحب أني كنت فيه, علما أنه سيكون في أمرهم ما قال أبي ــ يعني من الشقاق ــ والله قلـَّما رأيته يحرك شفتيه بشيء قط إلا كان حقا}!
فلمّا أكثر علي عثمان قلت له: {ألا تعقلون؟ أتؤمِّرون وأمير المؤمنين حَيّ؟ فوالله لكأنما نبهت عمر من مرقد}!
فقال عمر: {أمهلوني فإن حدث بي حدث, فليُصلِّ لكم صهيب ـ مولى بني جدعان ـ ثلاث ليال, ثم أجمعوا أمركم, فمن تأمّر منكم على غير مشورة من المسلمين فاضربوا عنقه}!
وذكر عمر سعداً فقال: {إن وليتم سعداً فسبيلٌ ذاك, وإلا فليستشره الوالي, فإنـِّي لم أعزله عن سخطة}! ويروى أنه قالَ: {فإنّي لم أعزله عن عجز ولا خيانة}!
وأرسل عمر إلى أبي طلحة الأنصاري قبل أن يموت بساعة فقال: كن في خمسين من قومك من الأنصار مع هؤلاء النفر أصحاب الشورى, فإنهم فيما أحسب سيجتمعون في بيت أحدهم فقم على الباب بأصحابك, فلا تترك أحدا يدخل عليهم, ولا تتركهم يمضي اليوم الثالث حتى يؤمّروا أحدهم, وقم على رؤوسهم, فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا, وأبى واحد, فاشدخ رأسه بالسيف, وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم, وأبى اثنان, فاضرب رأسيهما, فإن رضي ثلاثة رجلا وثلاثة رجلا فحكـِّموا عبد الله ابن عمر, فأيّ الفريقين حكم له, فليختاروا رجلا منهم, فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف واقتلوا الباقين إن رغبوا عما اجتمع عليه الناس, ولا يحضر اليوم الرابع إلا وعليكم أمير منكم, اللهم أنت خليفتي فيهم.
فوافى أبو طلحة في أصحابه ساعة قـُبِر عمر, فلزم أصحاب الشورى, فلما جعلوا أمرهم إلى ابن عوف يختار لهم لزم أبو طلحة باب ابن عوف في أصحابه حتى بويع عثمان بن عفان رضي الله عنه.
الذي سارت جيوشه الفاتحة إلى كل مكان، فمعاوية يوغل في بلاد الروم، ويقرع أبواب القسطنطينية، وإلى فارس، وسجستان، وخراسان، ومرو يزحف ابن عامر، والأحنف بن قيس، والأقرع بن حابس، فيفتحون ويظفرون، ومهدت الأرض لزحف المسلمين الجَسور، حتى بلغوا السودان والحبشة في الجنوب، والهند والصين في الشرق.
ومع هذا الفتح العظيم، كان الإسلام يستقبل شعوباً مختلفة اللسان، ونما المجتمع الإسلاميُّ نمواً هائلا، ممَّا أدى إلى اختلاف اللهجات، ففي بعض الغزوات التي اشترك فيها الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان، راعته الطرائق الكثيرة التي يُـقرأ بها القرآن, والتي لم تكن من قراءات القرآن العشر المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكد حذيفة بن اليمان يفرغ من تلك الغزوة، حتى امتطى راحلته يسابق الريح إلى المدينة، وهناك وضع القضية بين يدي الخليفة الراشد: (يا أمير المؤمنين، أدرك هذه الأمة قبل أن تختلف في كتابها كما اختلف الذين من قبلهم في كتبهم).
لم يتوان عثمان رضي الله عنه لحظة واحدة، فكتب المصحف على حرف واحد، وجمع المسلمين في عصره، وإلى الآن على قراءة واحدة، هي القراءة الأم حتى يدفع هذا الاختلاف المنذر بالسوء.
وَتـَدُورُ عَجَـلــَةُ الزَّمَان، مرةً ثالثة، وتطل الفتنة الكبرى برأسها في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه، الخليفة الكهل، الذي جاوز الثمانين من عمره، والذي يكره سفك الدماء، وينأى عن القسوة، يرى الثوار المتمردين يحاصرون داره، شاهرين سيوفهم مطالبين بأحد أمرين: (إما اعتزال عثمان وإما قتله) وتواتيه فرص قتالهم وقتلهم فيرفضها قائلا: (ما أحب أن ألقى الله، وفي عنقي قطرة دم لامرئ مسلم).
وفي ثبات مذهل يرفض الخليفة أن يعتزل، ليس حرصاً على مجد المنصب والجاه، بل لأنه رجل مسؤوليات من طراز فريد. لقد ذكر وصية كان الرسول قد أوصاه بها: (يا عثمان…إذا الله كساك يوماً سربالا، وأرادك المنافقون على خلعه، فلا تخلعه لظالم). وقد كساه الله سربال الخلافة، وها هم أولاء المتمردون الظالمون يريدون بقوة السلاح أن يكرهوه على خلعه، فلم يرضخ ولم يستسلم لهم.
لقد تلقى عثمان دعوة إلى الجنة، ففي إحدى الأمسيات، وبعد أن صلى من الليل ما صلى، وقرأ من القرآن ما قرأ، وألقى نفسه بين يدي ربه ضارعاً مبتهلا، آوى إلى فراشه ونام، وفي منامه رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له: (أفطر عندنا غداً يا عثمان) ما أبهجها من كلمات! وعثمان أكثر الناس يقيناً بصدقها، وإذاً فليس أمامه سوى وقت قصير لكي يتهيأ لموعد المصطفى ورحلة الخلود.
ولقد سارت المجابهة حتى بلغت منتهاها، ولم يعد بدٌ من أن يتهيأ المسرح لمشهد الختام. أصبح ذلك اليوم صائما، ودعا جميع الذين في داره وأمامها، ممن يحملون السلاح دفاعا عنه أن يلقوا سلاحهم، ويغادروا الدار مشكورين وفي رعاية الله. لكنهم جميعاً أَبَوْ أن يتركوا مواقعهم حوله.
ثلة كريمة من الصحابة خفوا بأسلحتهم لافتداء الخليفة منهم الحسن والحسين ابنا عليّ رضي الله عنهم، أرسلهما أبوهما ليحرسا منافذ الدار، وفيهم عبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر وآخرون رضي الله عنهم.
بَيد أنّ أمر الخليفة وإلحاحه ظلا يهيبان بكل حامل سلاح أن يلقي سلاحه قال عثمان: (أناشدكم الله ألا تهرقوا بسببي دما!) وأطل الخليفة على الجمع الحاشد من شرفة داره، ونادى المتمردين بكلمات أخيرة، أراد أن يبرئ بها ذمته: (أيها الناس، لا تقتلوني، فوالله لئن قتلتموني، لا تتحابون بعدي أبدا، ولا تصلون جماعةً بعدي أبدا). وعاد إلى حجرته فصلى ركعتين، ثم حمل مصحفه بيديه، وراح يقرأ ويقرأ متألقاً بين آياته المحكمات… وروضاته اليانعات.
وجُنّ جنون ذلك النفر من زعماء الفتنة، فشدوا على الدار المجاورة شدة واحدة ومن فوق سورها القريب قفزوا كالذئاب الجائعة المسعورة، واقتحموا على الخليفة خلوته، وكان آنئذٍ قد بلغ في تلاوته هذه الآية: (الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
لم يبال الخليفة بهم، واستمر في قراءته بينما اندفع الجناة نحوه؛ ليقترفوا جريمتهم البشعة النكراء… لم يقاوم… ولم يتحرك من مجلسه، لم يتخل عن مصحفه، ولم يزد على أن قال حين أصابت إحدى ضرباتهم الآثمة كفه، فأصابتها في صميمها: (والله إنها لأول يد خطت المفصل، وكتبت آي القرآن)!
وحين رأى دماءه تتفجر فتضمخ أوراق المصحف طواه؛ حتى لا تطمس الدماء بعض آياته، ثم ضمه وهو يسلم الروح إلى صدره… وحين تمدد جثمانه الطهور ساكناً سكون الموت، كان كتاب الله لصيقه وصديقه، ومن أولى بذلك منه، أليس هو الذي وحّده وحفظه وافتداه؟
كان الاغتيال الخاطف لحياته قد تم بين العصر والأصيل، وإذاً فأمام روحه وقت كافٍ لبلوغ موعدها على مائدة الإفطار مع رسول الله في الجنة عند الغروب.
أحبتنا الكرام: بهذا نكون قد أنهينا حديثنا عن مبايعة عثمان بن عفان رضي الله عنه
وأرضاه إلى نهاية عهده بالخلافة، وفي الحلقة القادمة إن شاء الله سيكون حديثنا عن
مبايعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهَهُ بالخلافة، وإلى ذلك الحين أستودعكم الله،
أستودعه دينكم وإيمانكم وخواتيم أعمالكم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.