هل حدد الرسول عليه الصلاة والسلام طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – اعتراضات على الدكتور المطيري
هل حدد الرسول عليه الصلاة والسلام طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة الحادية والثلاثون – اعتراضات على الدكتور المطيري)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
قال الدكتور المطيري:
“وهي في ذلك كالأمر بالمعروف، والجهاد في سبيل الله، فليس هناك طريقة محددة للأمر بالمعروف، ولا كيفية معينة، بل الواجب إزالة المنكر بكل وسيلة يستطيعها المكلف، فالمقصود إقامة هذه الواجبات، أما كيفية أدائها فهذا تركه الشارع للمكلف، يستعمل من الطرق والوسائل[1] ما يحقق به مطلوب الشارع، فإذا دهم العدو أرض الإسلام وجب على الأعيان دفعه عنها بكل وسيلة وطريقة يمكنهم دفعه بها، إذ المقصود إخراج العدو، دون النظر إلى كيفية تحقق هذا المطلوب”
… ولنا عليه الاعتراضات التالية:
لا بد أولاً وقبل الخوض في الرد على الدكتور المطيري حفظه الله من ملاحظة أنه يخلط بين مفاهيم: الأسلوب والوسيلة والطريقة، واعتبر طريقة تغيير المنكر وسيلة، وسبق لنا الحديث عن الفرق بين هذه المفاهيم، ومع ذلك لنستمر في الحوار من خلال هذه الملاحظات:
أولاً: ليس كل فرض كفاية يخلو من طريقة إقامته، فلا يصح القياس الشمولي العام، فصلاة الجنازة لها كيفية محددة وهي من فروض الكفايات، وبالتالي فلا يصح إغفال الأعمال التي قام بها الرسول ﷺ طريقة لإقامة الدولة بحجة أن هناك فرض آخر يشترك مع هذا الفرض بأنهما فرض كفاية!
ثانياً: لنأخذ مثلا فرض إزالة (تغيير) المنكر، وهو فرض عيني وليس بالكفائي، لأن خطاب الرسول ﷺ فيه يخاطب الأعيان بصفتهم العينية، من رآى منكم منكرا، فهو من فروض الأعيان، وحدد فيه الشارع ثلاث درجات لا ينتقل من الأولى إلى الثانية إلى الثالثة إلا بغلبة الظن أن الاستطاعة غير متأتاة، فطريقة تغيير المنكر محددة: إما باليد – كناية عن القوة- أو باللسان – حين يغلب على الظن عدم وجود الاستطاعة في التغيير باليد – فبالقلب حين تنتفي الاستطاعة باللسان، فهل هذه الكيفيات محددة أم مبهمة؟
أما اندراج الأفراد منها تحت المفهوم العام المحدد شرعا، كاندراج الضرب واستعمال العضلات، واجتماع عصبة تخيف وتردع مرتكب المنكر مثلا تحت مفهوم اليد – القوة- فلا يعني بحال أنها كيفيات غير محددة أو أنها أقيسة تغير الكيفية المحددة شرعا، فإذا ما كان فيها تخيير فهي أساليب يباح تخير ما يناسب الواقع منها بما يجتهد فيه المغير بالقوة ملتزما بالطريقة العامة المنصوص عليها، وهي: القوة.
وحين يحدد الشارع القوة، ويحدد أن الانتقال منها إلى اللسان يكون بعد غلبة الظن أن القوة في غير المستطاع، فإن هذا يعني أنه لا يخير بين القوة واللسان والقلب، فلا يصح أن يختار المرء القلب وهو قادر على التغيير بالقوة، وهذا يعني تحديد الطريقة الشرعية ومتى ينتقل منها إلى غيرها. ولا يصح بعدها القول بأن هذه الطريقة غير محددة. (بالنسبة لتغيير المنكر حسبما جاء في الحديث الشريف عن أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله ﷺ: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان »[2] فطريقة التغيير هي القوة، وكنَّى عنها باستخدام اليد، وأسلوب التغيير قد يكون باستصدار القوانين، أو إزالة المنكر عملياً كهدم حانة الإسكار، أو تأديب مرتكب المنكر كضربه ونحوه، فهذه أساليب، وكذا في التغيير باللسان، وهو كناية عن التغيير بالقول، ومن أساليب التغيير باللسان: النصيحة، إعلان الاحتجاج، الكتابة في الصحف، الخطابة…إلخ، وكذا التغيير بالقلب، وهو كناية عن تغيير المنكر بالوقوف منه موقفاً سلبياً، ومن أساليب تغيير المنكر بالقلب: المقاطعة، ترك مكان ممارسة المنكر، عدم مجالسة ممارسي المنكر، إبداء الامتعاض من خلال تعابير الوجه واليدين…إلخ، فليلاحظ الفرق بين الطريقةـ الأمر الشرعي الثابت المنصوص عليه ـ وأسلوب تنفيذه، فالطريقة واحدة لا تتغير، والأساليب متغيرة متعددة).
وعليه فقد حدد الشارع بدقة طريقة تغيير المنكر، ولا يصح بعدها القول بأن هذه الطريقة غير محددة.
ثالثاً: وينبغي ملاحظة أمر يزيل الغبش، وهو أن بعض الاختلافات قد يظهر أثرها في تفاصيل العمل، فمثلا يختلف التعامل في مسألة التغيير بين مسلمين يراد دفعهم للثقة بأحكام الإسلام وإيجاد الرأي العام لديهم لتحكيم الشريعة في حياتهم، عن التعامل مع كفار يراد أولا دعوتهم للإسلام ومن ثم دعوتهم لتحكيم أحكام الإسلام في شئون حياتهم.
ولكن العمل المطلوب في الحالتين هو الدعوة، ويشترك الواقعان بأن الإسلام لا يحكم، وأن الدار دار كفر، أي أن أحكام الكفر ظاهرة، وإنما يحصل الاختلاف في المضمون، ويبقى إطار الدعوة هو الجامع المشترك، وهي دعوة لإيجاد الإسلام في معترك الحياة حين فقده، والدعوة لها تقنيات واضحة ثابتة في كل الأحوال، مثل الصدع، والدعوة الجماعية، وما إلى ذلك، وبالمثل فإن مجتمعا تسوده أفكار الديمقراطية والعلمانية يختلف عن مجتمع تسوده أفكار الوثنية وطف الكيل، ولكن التعامل مع هذه القضايا هو هو، نقض الأفكار وبيان الأفكار الإسلامية النقيضة لها، لذلك فإن مثل هذه الاختلافات لم تؤثر على الطريقة في شيء[3].
وقد يقال أيضا أن واقع الدولة القبلية في عصر الرسول ﷺ تختلف عن واقع الدولة الفدرالية أو الجمهورية أو الملكية أو الإمبراطورية، وبالتالي فطريقة تغيير كل منها يختلف عن الآخر، وهذا أيضا نظر يغفل فهم سنن الله ونواميسه الثابتة التي لا تحابي أحدا في تكوين الدول وتحويل السلطان فيها، سواء أكانت دولة بسيطة[4] أم معقدة، فهناك كيان مجتمعي، ينبغي العمل فيه لإيجاد الرأي العام فيه، ولا يخلو أي نوع من الدول أعلاه من عنصر الكيان المجتمعي، وقد تمتلك الحكومة فيه جيشا نظاميا، أو تجند القادرين على حمل السلاح كما في قريش وحروبها مع الرسول ﷺ، ولكن في الحالتين، فإن المطلوب هو أخذ النصرة من أهل القوة والمنعة، قد يكونوا قادة في الجيش، أو زعماء قبيلة بكلمة منهم يجتمع جيش جرار، فالعبرة إذن ليست بتغير الأشكال وطبيعة المؤسسات من دولة لأخرى، إنما العبرة في أن كل كيان دولة لا بد فيه من عناصر معينة لكل منها دور، فالشعب أو القبيلة أو الأمة فيها منبع القوة المجتمعية التي ينبغي أن تكون صاحبة السلطان، والحكومة ومؤسساتها ترعى الشؤون، وبيدها القوة لحماية النظام، وهكذا اختلاف الأشكال لا يفضي لاختلاف الطريقة، وإنما يفضي لاختلاف الأحكام التفصيلية الخاصة بنوع الأفكار، أو مكمن السلطة أين؟ وكيف يتحقق أخذ السلطة؟ وهكذا.
رابعاً: والقول الفيصل في هذا الأمر هو بحث أحكام الطريقة فإن ثبت وجود طريقة محددة لإقامة الدولة، فإن العدول عن هذه الطريقة لا مسوغ له، ولا يعدو أن يكون ابتداعا في الدين[5]،
قال ابن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، وقال تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا﴾ المائدة 3.
خامساً: وقول الدكتور -غفر الله له- بل الواجب إزالة المنكر بكل وسيلة يستطيعها المكلف، قول خطأ، فقد يستطيع مكلف قتل ذلك المذنب، ولكن الشارع نهاه عن ذلك، وجعل أمر العقوبات للقضاء والدولة لا للأفراد، فالفرد ينهى عن المنكر في دائرة استعمال القوة المفضية لإزالة المنكر، أو القول والنصيحة في هذه الحالة، وبالمثل لا ينطبق حديث من رآى منكم منكرا فليغيره بيده على منكر الحاكم، إلا أن يكون ذلك المنكر كفراً بواحاً، لوجود أحاديث تخص الحاكم وتستثنيه، فإنكار منكر الحاكم بالمحاسبة وبالعمل السياسي، وبقول كلمة الحق، وهكذا كل هذه الأحكام مفصلة متى يصار إليها، وبأية كيفية! وكذلك لا يصح القول بأن المهم دفع العدو بأية طريقة، فمثلا لا يصح دفعه مع الخضوع لسلطانه السياسي عن طريق نصب الحكام العملاء وتغيير أنظمة الحكم!
سادساً: وحيث أن الشارع لم يجعل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الطريقة الوحيدة لإقامة المعروف، فجعل معه الدعوة، والتعليم والسلطان وغيره، فهو وهذه الطرق كلها أحكام مشروعة لإقامة المعروف في المجتمع، منضبطة بأحكام متى يصار إليها، فمثلا حين يكون الفرض إعزاز كلمة الله، فلا يصح الحيود عن الجهاد وتركه إلى الدعوة حين يرفض العدو الدخول في الدين أو دفع الجزية، بل يصار إلى الدعوة حين يحصل تقبل الأدلة، فإن لم يتقبل العدو الأدلة، فيجاهد لإخضاعه لسلطان الإسلام ويخير بين الإسلام والجزية أو القتال للخضوع لسلطان الإسلام، فهذه هي طريقة جهاد الطلب وهي محددة شرعا كما ذكرنا آنفا، فأحكام الطريقة منضبطة بالشرع!
لذلك فحيثما بين الشارع لتطبيق أي فرض طريقة معينة فهي ملزمة.
[1] وهذا يؤكد على أن قصد المطيري الوسائل والأساليب!
[2]رواه مسلم: كتاب الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان، حديث رقم (78 ـ 49)
[3]تماما كما يقوم المسافر في الطائرة اليوم بتناول الطعام، كما كان يقوم المسافر على الجمل بتناول الطعام، فالوسيلة اختلفت ولكن الطبيعة واحدة.
[4]تمتعت مكة بمواصفات دويلة، فقد توزعت قبائلها أدوار الدولة ومهماتها، كان بنو جمح يتولون قداح الاصنام والاستقسام، وبنو سهم يتولون فصل الخصومات والمرافعات أي القضاء، وبنو أسد يتولون الشورى، وبنو تيم يتولون نظام الديات والغرامات، وبنو مخزوم يتولون نظم المعسكر وقيادة الخيل، وبنو عدي يتولون السفارة، وبنو قصي بن كلاب يتولون رئاسة دار الندوة التي كانوا يتشاورون فيما نزل بهم من جسام الأمور، وكانت مجمع قريش وفيها تفض المشاكل بالحسنى وتضمن اجتماع الكلمة، وكانوا يتولون سقاية الحاج ورفادته، وحجابة الكعبة، واللواء، والمدقق في توزيع واتفاق بطون قريش على إدارة مصالح الناس يرى أنهم أشبه بدولة أو حكومة مصغرة شبيهة بأقطار العالم الإسلامي اليوم. عن مقالة للأستاذ أبي سعدي، في منتدى العقاب بعنوان: الحزب الإنقلابي والنظام، شبهات حول الإصلاح مقارنة بسيطة مع السيرة.
[5]إنما أوردت هذا ليكون بلاغا لمن تبين له أن عليه أن يتبع، لأنني أخشى على من تبين له أن رسول الله ﷺ قضى في أمر قضاء، أو سار على هدي معين بصورة ملزمة، ثم تركه وعدل عنه أن يعد فعله هذا اتهاما للرسول ﷺ بأنه لم يبلغ، أو أن ما بلغه عن ربه غير ملزم، وكلها موبقات نربأ بخيار المسلمين عنها، ونعلم أن الدكتور الفاضل لا يمكن أن يقع منه شيء من هذا، فما علمنا منه إلا نزولا عند أمر الله ورسوله، لولا أنه اشتبه عليه أن لا طريقة!