هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – المجتمع هو مجموعة من الناس تنشأ بينهم علاقات دائمية
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة الخامسة والثلاثون – المجتمع هو مجموعة من الناس تنشأ بينهم علاقات دائمية)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
يرى المؤرِّخ البريطانيّ الشهير “أرنولد توينبي” أنّ التاريخ البشريّ تاريخ حضارات، وفي الوقت نفسه يراه تاريخ مجتمعات[1]. ويقول “رالف لنتون”: «من الأمور ذات الدلالة الخاصّة أنَّ اصطلاحَي حضارة ومجتمع يُستعملان كمترادفين في غالب الأحيان… فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظَّمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظَّمة من الإستجابات الّتي تعلّمها الأفراد وأصبحت من مميِّزات مجتمع معيّن»[2].
وسواء استعملنا المصطلح “ثقافة” “Culture” المستعمل لدى بعض علماء الاجتماع والأنتروبولويجيا أو استعملنا المصطلح “حضارة” “Civilization” للدلالة على نمط العيش في مجتمعٍ ما، والّذي هو في نظر “إدوارد تايلور” «ذلك الكلّ المعقَّد الّذي يشتمل على المعارف والمعتقدات والفنون والأخلاق والقوانين والتقاليد والفلسفة والأديان وبقيّة المواهب والقابليّات والعادات الّتي اكتسبها الإنسان من مجتمعه الّذي يعيش فيه»[3]. وهو في رأي “كلايد كلوكهون” «مجموعة طرائق الحياة لدى شعب معيّن، أي الميراث الاجتماعيّ الّذي يحصل عليه الفرد من مجموعته الّتي يعيش فيها، أو هي الجزء الّذي خلقه الإنسان في محيطه وهي الّتي تحدّد الأساليب الحياتيّة، أو هي طريقة في التفكير والشعور والمعتقدات، إنهّا معلومات الجماعة البشريّة مخزونة في ذاكرة أفرادها أو في الكتب أو في الموادِّ والأدوات»[4].
فإننا نقصد المفهوم الذي يحمله ذلك المصطلح فنحن إنما نقصد التعبير عن طراز العيش الّذي يسود مجتمعاً من المجتمعات، أي هويّة ذلك المجتمع. وعلى حدّ تعبير “رالف لنتون” «فالمجتمع عبارة عن مجموعة منظَّمة من الأفراد، والحضارة مجموعة منظَّمة من الاستجابات الّتي تعلَّمها الأفراد وأصبحت من مميِّزات مجتمع معيّن»[5]. وواضح للعيان تاريخاً وحاضراً أنّ لكلّ مجتمع طريقة في العيش تميّزه عن سائر المجتمعات تجعل منه جماعة بشريّة ذات شخصيّة معيّنة ولون متميّز وهويّة خاصّة هذه الطريقة من العيش الّتي تميّز مجتمعاً عن آخر هي ما يعبَّر عنه “بالحضارة”.
من المعلوم أنّ المجتمع هو مجموعة من الناس تؤلِّف بينهم علاقات مستمرّة، بها يقوم ذلك المجتمع وبتميّزها يتميّز، أو على حدّ تعبير “توينبي” «إنّ المجتمع البشريّ هو في ذاته نظام للعلاقات بين الكائنات البشريّة»[6]. وهذا النظام الّذي يربط الأفراد فيشكلّ المجتمع إنّما هو مجموع ما يحمله هؤلاء الناس من أفكار ومشاعر وما يرعى شؤونهم من تشريعات وقوانين.
تسود لدى كثير من المسلمين نظرة أن المجتمع مجموعة أفراد، إن أصلحت الفرد أصلحت المجتمع، وبالتالي فإن طريقة إقامة الدولة عندهم، وطريقة صلاح المجتمع تتلخص في أن يصلح المرء نفسه، ثم يصلح أهل بيته وعشيرته، ثم يصلح جيرانه، وهكذا حتى يصلح المجتمع فيحصل التغيير، ومن ثم أقم دولة الإسلام في نفسك تقم على الأرض، على اعتبار أن كلا منا إن أقام الإسلام في نفسه وأقامه جاره وهكذا، لم يبق من الدولة إلا الإعلان! هكذا بكل بساطة!.
قوله تعالى: ﴿وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة﴾ قال القرطبي محمد بن أحمد بن أبي بكر بن فَرْح الأنصاري الخزرجي الأندلسي، أبو عبد الله، القرطبي: من كبار المفسرين، قال في تفسيره: هذه الآية أصلٌ في نَصْب إمامٍ وخليفة يُسْمَع له ويطاع؛ لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما رُوي عن الأصَمّ حيث كان عن الشريعة أصَمَّ، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة متى أقاموا حجهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفَيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحدود على مَن وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك.
اعتبر القرطبي من يظن صلاح الناس كافيا لقيام الشريعة في الأرض بغيرما إمام متبعا رأي الأصم أنه عن الشريعة أصم.
إن المجتمع ولا شك شخصية معنوية لمجموعة من الناس، وليس مطلق مجموعة أفراد، فركاب السفينة يعدون بالآلاف، ولكنهم لا يطلق عليهم اسم مجتمع، إذ أنه لا تجمع بينهما أواصر علاقات دائمية، ولا تربطهم مصالح يتعاونون على تحقيقها، كما وأن الذي يميز المجتمع الإسلامي عن المجتمع الجاهلي، أو المجتمع المصري عن المجتمع الأمريكي مثلا هو قيام كل من هذه المجتمعات على قيم معينة، وعلاقات معينة تسودها، ونمط في العيش يميزها، وأنظمة تنظم حياتها، ولو كان الأمر مجرد أفراد بمعزل عن قيمهم وعلاقاتهم وطريقة عيشهم وأنظمتهم، لما انماز مجتمع عن آخر! ولو كان الأمر مجرد أفراد بمعزل عن أفكارهم ومعتقداتهم، وأثر تلك الأفكار في تنظيم معاشهم وعلاقاتهم، لما انماز محمد بن عبد الله ﷺ وأصحابه الكرام عن مجتمع مكة الجاهلي، كيف وهم يحملون دعوة طويلة عريضة لإحلال قيم جديدة مكان قيم ذلك المجتمع الجاهلية!
فالناس هم الناس في المدينة المنورة وفي نيويورك، إلا أن ما يميز هذا المجتمع عن ذاك هو أمور زائدة عن الناحية الفردية، فلا شك أن تعريف المجتمع بأنه مجموعة أفراد هو تعريف سقيم لا يستقيم!
والواقع أن الذي جعل الناس يجتمعون لتشكيل مجتمع ما هو جملة من الأسباب، جعلتهم يتوافقون على نمط معين من المعيشة، أي أن أسبابا معينة جعلتهم يقيمون علاقات دائمية فيما بينهم، هذه العلاقات تنشأ جراء حاجة الناس في ذلك المجتمع لرعاية مصالحهم، والتي تنشأ ابتداء جراء عجز الإنسان عن القيام بكل شئونه لوحده، فيحتاج للنجار وللحداد وللبناء وللمعلم وللطبيب، وهكذا، “فمبادلة السلع، والزواج والجوار، والإجارة لا يمكن أن تتم إلا باتفاقٍ بين هؤلاء الناس، كما أن عيشهم مع بعض وإمكانية عدم التزام بعضهم بما اتفقوا عليه، واحتمال تعرضهم إلى عدوان من جماعة أخرى يحتم عليهم إيجاد نظام دفاعيّ لهم، ونظام يلزم أو يعاقب من يحاول الخروج على ما اتفقت عليه الجماعة فتكوين المجتمع يبدأ من حاجة الناس إلى الاجتماع وما فيهم من رغبات وجوعات لا بد من إشباعها ثم الاتفاق على كيفية معينة لتحقيق ذلك، ثم تنازل كل فرد منهم عن جزء من سلطته لوضعها بيد سلطة تُلزِمُ الجميع بما اتفقوا عليه، وتحفظ للجماعة وحدتها وأمنها”[7]، وتنازل كل فرد منهم عن شيء من خصائصه العقلية والنفسية (أفكاره الخاصة، وقناعاته الخاصة التي قد تتخالف مع قناعات الجماعة التي ينتمي إليها)، ليتفاعل مع الجماعة ويكسب هو خصائص جديدة جراء عيشه في ذلك المجتمع، (راجع باب: الفرق بين نظرية العقد الاجتماعي وبين تعريف المجتمع في الفصل السابق)
ولتبادل هذه المنافع تنشأ مجموعة من الأنظمة الاقتصادية، والاجتماعية، والقضائية والعقوبات وغيرها لضبط الأفكار والقيم التي تسود المجتمع، كما وتسود المجتمع مجموعة من الأعراف والقيم والمشاعر التي تلون معيشتهم بلون معين خاص.
وبالتالي فإننا نرى بوضوح أن فكرا جماعيا (عرفا عاما)، ومشاعر جماعية انبثق عنها نظام ينظم الأفراد، نتجت عنها شخصية متميزة للمجتمع، ظهرت جراءها طريقة معينة في العيش، وظهرت جراءها أعراف عامة مميزة، فكانت للمجتمع خصائص ذاتية مستقلة وليست مجرد شخصيات أفراده[8]، والتي بدورها ولا شك ستتفاوت في نظرتها إلى جزئيات النظام، ولكنها ستتنازل عن بعض تلك الخصائص الخاصة ليصلح قيام المجتمع، أو تثور، أو تقوم بحركات تغييريه أو إصلاحية لتحصل على الزخم الكافي لإحداث التغيير في عرف المجتمع العام وعندها تصبغ المجتمع بأفكارها التي تحل محل القديم! والمجتمع يؤثر في الفرد، ولكن تأثيره ليس حتمياً، وأما تفكير الفرد فإنه لا يؤثر في تفكير المجتمع، وليس للفرد أي أثر في تكوين شخصية المجتمع، إلا إذا تحول تفكير هذا الفرد إلى تفكير جماعي! تتبناه جماعة من المجتمع قادرة على إحداث التغيير في عرف المجتمع العام وطريقة عيشه والنظم التي تحكمه فيحصل التغيير! لذلك من السخافة القول: أقم دولة الإسلام في نفسك تقم على الأرض، لأننا بحاجة لإيجاد وتغيير العرف العام والنظام العام وطريقة العيش حتى تقوم وهي أمور فوق “الفردية”!.
ولتوضيح كيف تنشأ العلاقات جراء المصالح، نضرب بعض الأمثلة:
ففي مجتمع كالمجتمع الأمريكي مثلا، قد تصل قيمة البيت إلى ربع مليون دولار، فمن أراد أن يشتريه، فلا بد له من أن يتوفر لديه الثمن أو يستدين، وبما أن الغالبية الساحقة من الناس لا تمتلك مثل هذا الثمن، فإن العلاقة بين البائع والمشتري لن تتحقق، وبالتالي فنشأت فكرة البنوك والتمويل، وقامت على أساس القروض الربوية، فكانت مصلحة للبائع ومصلحة للمشتري (على مستوى المجتمع، لا مجرد مجموعة أفراد)، تراضيا عليها، فأمكن إذن إقامة العلاقة الدائمية، إذ أن الأفكار وحدها لا تكفي لإقامة العلاقات، إلا أن تقترن بالمشاعر، فيتم قبول الأفكار والتراضي عليها، ومن ثم تقنين القوانين والأنظمة التي تضبط هذه العملية، وتعالج المصالح والعلاقات، وعلى هذا قس سائر الأنظمة والعلاقات التي تحكم المجتمع، ومثال آخر: تقوم الدولة في الغرب بجباية الضريبة من أموال الناس لتقدم لهم مقابلها الخدمات التي تلزمهم، لذلك يتنازل الناس عن بعض حقهم المالي (حتى وإن بلغ تقريبا نصف دخلهم على شكل ضريبة) ويتراضوا على ذلك التنازل، فتحصل المصلحة، وتقنن القوانين التي تضبط هذه العلاقات، ويعاقب من لا يدفع الضريبة أشد العقوبة!
كذلك فإنه مما لا شك فيه أن المجتمع سيفرح ويسعد ويشارك العريس فرحه لأنه أشبع جوعاته وحقق رغبته بالفكرة التي اتفقت عليها الجماعة، أي فكرة الزواج، وأن هذه المجموعة التي شكلت المجتمع تغضب وتنقم على من خالفها بالزنى أو غيره وقد تقدم على قتله أو قتلها. وكذلك الحال بالنسبة لبقية الأفكار فمن يحصل على حاجته بالشراء فهو مرضي عنه، ومن يحاول الاستيلاء بالغضب أو السرقة أو الاحتيال فمغضوب عليه. وهكذا كافة الحاجات[9].
وعلى هذا رأينا أثر الأفكار التي تنشأ لتحقيق المصالح، مما يقيم علاقات معينة يتوافق الناس على مشاعرهم تجاهها من رضا وغضب، وفرح وسرور، وتقنين لقوانين تضبط سير تلك العلاقات، فالعلاقات إذن تنشأ بدافع المصلحة، ومن غير مصلحة لا توجد علاقات، إلا أن هذه المصالح إنما يبينها من حيث كونها مصلحة أو مفسدة مفهوم الإنسان عن المصلحة، وبما أن المفاهيم هي معاني الأفكار فتكون الأفكار هي التي عينت المصلحة وبالتالي هي التي أوجدت العلاقة.
لذلك فان العلاقة حتى توجد بين الناس لا بد أن تتحقق بينهم (أو على الأقل لدى الفئة الأقوى في المجتمع القادرة على فرض رؤيتها عليه) وحدة الأفكار والمشاعر والأنظمة تجاهها. فإذا لم توجد وحدة هذه الأمور الثلاثة بينهم لا توجد علاقة، فسلوك الإنسان وعلاقاته مع الآخرين إنّما تتحكّم بها مفاهيمُه الّتي هي مزيج من الفكر والشعور، كما أنّ التشريعات الّتي تقوم السلطة على رعايّة شؤون المجتمع بها، تتحكّم إلى حدّ كبير بعلاقات المجتمع، وبالتالي تؤثِّر إلى حدّ بعيد في نمط العيش فيه، وتؤثر حتى في شخصية أفراده!.
وبناء عليه فإنَّ المجتمع هو «مجموعة من الناس بينهم علاقات، تربطهم أفكار ومشاعر وأنظمة»، وإنّ هذا المجتمع يصنَّف بحسب هذه المنظومة من الأفكار والمشاعر والأنظمة، فإن كانت إسلاميّة مثلاً كان إسلامّياً، وإن كانت ليبراليّة كان ليبراليّاً… وهذه هي عين الحضارة. فالحضارة والمجتمع على حدّ تعبير “رالف لنتون” «يتّصلان ببعضهما عن طريق الأفراد الّذين يكوِّنون المجتمع ويفصح سلوكهم عن نوع حضارتهم»[10]. والواقع أن العلاقة وطيدة بين نمط العيش وبين المجتمع أو الحضارة، إذ أن المصالح ونظرة الإنسان إليها تتأثر بوجهة نظره في الحياة، أي بعقيدته، فإذا ما تغيرت نظرته إلى الحياة، وتَبَعًا لتغييرها تغيَّرت نظرته إلى المصالح، فتتغير العلاقات في المجتمع بناء على ذلك، مما يدل دلالة قطعية على أن أساس التغيير هو تغيير المفاهيم والقناعات في المجتمع. والمصلحة إنما تكون من حيث النظرة إليها لا من حيث واقعها فقط، وضربنا مثلا أن الربا من حيث هو زيادة للمال مصلحة ولكنه في نظر المسلم مفسدة، فالنظرة للحياة هي التي حددت طبيعة الشيء بأنه مصلحة أو مفسدة وحددت المفاهيم وصبغت المجتمع، لذلك قلنا: هذا مجتمع إسلامي لأن أساس علاقاته قائم على أساس العقيدة التي حددت له نظرته للعلاقات!.
وها هم المسلمون في المجتمعات الغربية يزيدون على عشرات الملايين، ومع ذلك فتلك مجتمعات فرنسية، وهولندية، وأمريكية، ولم تتأثر بهذه الملايين الكثيرة الغريبة[11] على تلك العلاقات وتلك الأنظمة، مما يدل قطعا على أن قوام المجتمعات الأساس هي تلك الأفكار وتلك العلاقات وتلك الأنظمة التي تضبط سيرها، ومقدار حمل الأفراد وتأثيرهم في الرأي العام الذي يصوغ تلك العلاقات، وأما الأفراد الذين يرفضون هذه العلاقات فإنهم لا يؤثرون على صبغة المجتمع إلا أن يكونوا رأيا عاما أي أن يصير تفكيرهم تفكيرا جماعيا، يملك الزخم لإحداث التغيير [12] في عرف المجتمع العام، ويفرض نفسه فيتم التغيير، ومن هنا فلو كان المجتمع مجرد أفراد بمعزل عن تلك العلاقات لما أمكن وضع حد فاصل يبين صبغة المجتمع بين من يقبل بالعلاقات ومن يرفضها، والمسلم يبقى يعيش في ذلك المجتمع الغربي بوصفه مسلما مع رفضه لتلك العلاقات وعدم إيمانه بها.
وهذا الفهم مفتاح مهم لفهم طبيعة العمل التغييري، فصلاح الأفراد لا يفضي بالضرورة إلى صلاح المجتمعات، إلا أن يصبح رأيا عاما، وتفكيرا جماعيا قادرا على تغيير العلاقات، من هنا كان لا بد للتغيير من ضرب تلك العلاقات التي بين أفراد المجتمع، وضرب العلاقات التي بين المجتمع وسلطته السياسية وما تقوم عليه من أفكار وأنظمة بشكل يبين فسادها وعوارها فتنفض الجموع عنها، أو تسعى لحمل نقيضها.
فإذا علمنا أن مقومات المجتمع هي الأفكار والمشاعر التي شكلت نظرته للحياة والمصالح، والعلاقات الدائمية التي بين أفراده، وتلك التي بين أفراده وبين السلطة التنفيذية فيه، والأنظمة التي تنظم هذه العلاقات، فإننا ولا شك نرى أنها غير مقومات الفرد، وبالتالي فصلاح الفرد لا يفضي إلى صلاح المجتمع، إذ أن حجر الزاوية في هوية المجتمع هو الكيفية التي تُسيّر بموجبها العلاقات، والنظم التي تضبط هذه العلاقات، فالعلاقات الربوية نتاج تطبيق نظام رأسمالي مثلا، لا يمكن أن تتغير في المجتمع طالما بقي المجتمع رأسماليا، ولا أثر لامتناع ملايين الناس من المسلمين في المجتمعات الغربية عن الربا في تغيير النظام الاقتصادي الرأسمالي فيه، بل إنهم ولا شك ستدخل أموالهم البنوك، وتستثمرها البنوك بشكل قانوني[13] فيما يراه البنك، وتختلط أموال المسلمين بالربا وبتجارة الخمور، والاستثمارات التي تستثمرها البنوك في النوادي الليلية، شاء المسلمون في الغرب أم أبو، بل وفوق ذلك، فإنهم سيخضعون لقوانين الدولة من تأمين إلزامي، ونظم محرمة في الإسلام وغير ذلك، فالعبرة إذن في العلاقات والأنظمة لا في معتقدات الأفراد. وعلى أساس هذه العلاقات توصف المجتمعات بالانحطاط أو الرقي، بالتقدم أو التخلف،
وبما أننا قررنا أن وحدة الأفكار والمشاعر والأنظمة بين الناس هي التي ضبطت علاقاتهم وتحكمت بها، وحددت له العرف العام، والسلطة التي تسوسه على أساس رعاية هذه المنظومة، فإن صلاح المجتمع يكون بصلاح العرف العام، وفساده بفساده، ولما كان ذلك كذلك كانت الطريقة لإصلاح المجتمع مبنية على أساس وحدة الأفكار ووحدة المشاعر وإقامة نظام على نفس الأساس. وبمقدار صلاح هذه الأفكار وصدقها يكون صلاح المجتمع.
أما الفرد فإن مقوماته أنه كائن حي له رغبات وحاجات عضوية وغرائز، لا بد من إشباعها، من غذاء وكساء ونوم وزواج، وعلاقاته مع ربه المتمثلة بالعقائد والعبادات، وعلاقاته مع نفسه المتمثلة بالمطعومات والمشروبات والأخلاق، وعلاقاته مع غيره المتمثلة بالمعاملات، والتي يخضع في أغلبها لنظام المجتمع الذي اصطلح على منظومة معاملات ونظم تقوم برعايتها، وبالتالي فصلاح الفرد يكون بصلاح عقيدته، وصلاح عبادته، وصلاح النظام الذي ينظم به شئون حياته والذي انبثق من عقيدته أو بني عليها، فمقومات الفرد غير مقومات المجتمع، وإن الذي يجعل المجتمع قويا ليس مجرد قوة الحجارة أو اللبنات التي يبنى بها سوره (الأفراد) وإنما أيضا بقوة الإسمنت الذي يربط الحجارة ببعض، وحسن الشكل الهندسي الذي يوفر سهولة المدخل والمخرج، وارتفاع السور الذي يمنع تسَوُّرَهُ من قِبَلِ الأفكار والأنظمة الأخرى، وعليه فصلاح المجتمعات يكون بإصلاح مفاهيمها الجماعية، وأعرافها، ومقاييسها وقناعاتها، وهو عمل يختلف عن العمل على إصلاح الأفراد، وتقوية عبادتهم وصلتهم بالله، وحسن أخلاقهم. والمجتمع لا يصلح ولا يفسد إلا بصلاح أو فساد الرأي العام، فإذا فسد الرأي العام فقد فسدت شخصية المجتمع، وليس لفساد الفرد أي أثر في فساد المجتمع إلا إذا تحول فساد هذا الفرد إلى خرق للرأي العام وإفساد له. والأمة الإسلامية لم تهبط ولم تنحدر إلا بعد فساد أفكارها الجماعية، فأفكار الإسلام الفردية لم تُحرّفْ ولم تفسد عند الأمة: فأحكام الصلاة والصيام وأحكام التجويد وغيرها من الأحكام لا تزال موجودة محفوظة يتخرج من المعاهد والجامعات الشرعية في كل سنة آلاف العلماء والطلبة الذين ينفقون معظم وقتهم في حفظها ورعايتها: وأما الأفكار الجماعية فهي التي فسدت عند الأمة وهي التي أدت إلى انحطاطها، فالقومية والوطنية والاشتراكية والعلمانية، ومسايرة الواقع، وجعل الشرع يدور مع المصلحة، وإنزال الخلافة عن مستوى القضية المصيرية، وفكرة أن الخلافة من ابتداع الصحابة وليست فرضاً فرضه الله، وفكرة «ليس في الإسلام أحزاباً سياسية»، وفكرة التبرج والسفور، وفكرة التدرج في تطبيق الإسلام، وفكرة الوسطية والاعتدال، وفكرة التطرف، وفكرة التكفير غير المنضبط، وفكرة حوار الأديان، ووسائل الإعلام الهابطة وغير ذلك من الأفكار الخبيثة النّتنة والوسائل الهدامة هي التي أفسدت الجو الجماعي وبلبلت تفكير الأمة!
ويصف حديث رسول الله ﷺ ذلك بدقة: «مثل القائم في حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها؛ وكان الذين هم في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم. فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً» (رواه البخاري). إن هذا الحديث يلخص كل ما قلناه: فالمجتمع ليس مجرد أفراد، بل هناك شيء يجمعهم ولولاه لما كانوا مجتمعاً، وهو الرأي العام المنبثق عنه النظام، ويشبّهه رسول الله ﷺ بالسفينة، ثم يصف لنا الفساد الذي يؤدي إلى هلاك المجتمع، وهو أن تخرق السفينة (الرأي العام): ففساد بعض الأفراد لا يؤدي إلى هلاك المجتمع كله لأن السفينة لا تغرق إذا مرض بعض أفرادها مثلاً أو سكروا أو غير ذلك. ولكن إذا تعدى فساد هؤلاء الأفراد فرديتهم، وتحول إلى فساد للرأي العام وانتهاك لحدود الله (أي خرق السفينة) عندها سيغرق الجميع، الصالح منهم والطالح. قال رسول الله ﷺ: «إن الناس إذا رأوا المنكر ولم ينكروه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب من عنده» فكلمة «إذا رأوا» تعني أن المنكر ظاهر أمام الرأي العام، وسكوت الرأي العام عنه يعني إقراره، وإقرار الرأي العام للمنكر يعني فساده، وفساد الرأي العام يعني غرق السفينة.[14]
[1]– انظر: أرنولد توينبي –مختصر دراسة للتاريخ – تعريب فؤاد محمّد شبل – الإدارة الثقافيّة في جامعة الدول العربيّة، القاهرة – الطبعة الأولى 1960 – ج1 – المقدّمة ص3 وما بعدها وانظر كتابي المفكر الأستاذ أحمد القصص: أسس النهضة الراشدة ونشوء الحضارة الإسلامية فقد اقتبسنا في هذا الباب منهما الكثير من الاقتباسات.
[2]– رالف لنتون – شجرة الحضارة – ترجمة أحمد فخري – مكتبة الإنجلومصريّة – دون تاريخ – ج1 –ص 65
[3]– المرجع السابق – مادّة Culture
[4]– نصر محمّد عارف – الحضارة، الثقافة، المدنيّة – المعهد العالمي للفكر الإسلاميّ، فرجينيا – 1995م – ص 21
[5]– شجرة الحضارة – ج1 – ص 65. انظر أيضاً في هذا الموضوع: مختصر دراسة للتاريخ – ج1 – ص 354
[6]– مختصر دراسة للتاريخ – ج1 – ص353
[7]هل المجتمع مكوّن من أفراد حقيقية؟ حافظ صالح، مجلة الوعي التي تصدر من بيروت العدد 28. بتصرف.
[8]مفهوم المجتمع على ضوء النصوص، بقلم: محمد أبو وائل مجلة الوعي التي تصدر من بيروت العدد 33. بتصرف.
[9]هل المجتمع مكوّن من أفراد حقيقية؟ حافظ صالح، مجلة الوعي التي تصدر من بيروت العدد 28.
[10]– شجرة الحضارة – ج1 – ص71 نشوء الحضارة الإسلامية للأستاذ أحمد القصص.
[11]يسعى الغرب دائما وحثيثا لدمج الجاليات المسلمة في المجتمعات عبر إذابة شخصيتها الحضارية والثقافية ومحو هويتها الإسلامية لصالح القيم الغربية، فتجد مثلا أن فرنسا تحارب الحجاب، وتحارب الثقافة الإسلامية ومظاهرها، وصدر حديثا قانون أوروبي يمنع المسلمة من الحصول على حقوق مالية إن طلب منها أصحاب العمل خلع الحجاب ورفضت! وتجد مثلا أن بعض الدول الأوروبية تفرض على الطالبة المسلمة ارتداء ملابس السباحة الفاضحة في الدروس ويجبر أهلها على ذلك، وتجد مثلا أن بعض الحكومات الغربية مثل الهولندية على سبيل المثال تجري اختبار قيم لمن يريد الحصول على الإقامة أو الجنسية فإن لم يقبل بالمثلية الجنسية وإن لم يقر بأنه سيسمح لأبنائه وبناته باختيار توجهاتهم وعلاقاتهم الجنسية فإنه لن يسمح له بالإقامة أو الحصول على الجنسية، وهكذا، ولذلك فمما لا شك فيه أن المسلمين غرباء في تلك المجتمعات لا تقبلهم ولهم هوية تخالف هويتها المقرفة! وإنما يسمحون لهم بشيء من ثقافتهم مثل استعراض مأكولاتهم، ورقصهم التراثي، وما شابه مما لا يؤثر في القيم التي تسير العلاقات الأساسية في المجتمع! حتى إنهم يفرضون على الأديان تعريف الزواج وذلك بغية التمكين لزواج المثليين وهكذا!
[12]في بعض المدن الأوروبية يبلغ تعداد المسلمين أكثر من 20% من سكان المدينة، ومع ذلك فليس لهم الزخم الكافي لإحداث التغيير! فالمسألة ليست بالأعداد!
[13]بحسب القوانين في الدول الرأسمالية فإن أي إيداع للمال في البنك يجعل البنك هو المالك الحقيقي للمال وله حق استثمار المال بالشكل الذي يراه، إلى أن يسحب المودع المال من البنك، ومن شدة سطوة البنوك فإن القوانين تمنع الأفراد من أن تزيد المبالغ التي يقتنونها في بيوتهم والتي لا تدور في عجلة الإقتصاد عن أرقام تافهة، فإن زادت عنها وجب إيداعها في البنك وإلا تعرض الشخص للمساءلة القانونية (في كندا مثلا هذا الرقم هو عشرة آلاف دولار).
[14]مفهوم المجتمع على ضوء النصوص، بقلم: محمد أبو وائل مجلة الوعي التي تصدر من بيروت العدد 33. بتصرف.