هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – طريقة إقامة الدولة!
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة السادسة والثلاثون – طريقة إقامة الدولة!)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
عرف حزب التحرير الدولة على أنها كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تحملها أمة من الأمم.
هناك الكثير من حملة الدعوة المخلصين في الأمة، لم يدرك بعد معنى حمل الدعوة لاستئناف الحياة الإسلامية، عن طريق إقامة الدولة الإسلامية، التي تحمل رسالة الإسلام إلى العالم بالدعوة والجهاد، فهم لم يتصوروا عظم وضخامة هذا المشروع وسمو الغاية، لذا فهم يتخيلون أن العمل هو لاستلام الحكم فقط ومنحصر به، فتجد الآراء والاقتراحات الكثيرة بلزوم التركيز على أخذ الحكم، وعلى إقامة الدولة بمختلف الطرق، وبشتى الأساليب والوسائل، حتى وإن لم يتم تغيير مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات المخالفة للإسلام التي تحملها الأمة، لأن الدولة (حسب تصورهم) كفيلة بتغييرها، وإيجاد مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية، عن طريق وسائل الإعلام، ومناهج التعليم، والتطبيق العملي للإسلام.
إن قضية الإسلام اليوم هي استئناف الحياة الإسلامية، وحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم، وأن طريقة ذلك هي الحكم، فأخذ السلطة إنما هو طريقة لجعل الحياة حياة إسلامية، أي جعل العلاقات القائمة بين الناس علاقات إسلامية، ولا يجوز أن ينظر إلى الحكم على أنه أكثر من طريقة فقط ليس أكثر، فالقضية ليست العمل فقط لتحطيم رجال الحكم، بل القضية هي جعل أفكار الإسلام طاغية في المجتمع حتى يجري هذا التحطيم لرجال الحكم واسترجاع السلطان منهم، عن طريق طغيان هذه الأفكار[1].
وللوقوف بدقة على طريقة الرسول ﷺ في التغيير، لا بد من الوقوف على بنية الدولة، تلك التي يراد تغييرها، وبنية المجتمع، وعمل الحزب للتغيير، نقول وبالله تعالى التوفيق:
الدولة كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي توجد في المجتمع، أو لدى الفئة الأقوى منه القادرة على إقامة كيان الدولة على تلك الأفكار، وتتألف الأمة من كيانين: الأول “تنفيذي” والثاني “كيان مجتمعي”،
أما الكيان التنفيذي فيتمثل بالحاكم، وبطانته، وجهاز الحكم في الدولة، والجيش والشرطة التي تعمل على حماية الدولة وحماية أنظمتها، ومعاقبة الخارجين على الدولة أو على تلك الأنظمة، وتسهر على حسن تطبيق النظام في الدولة، فهذا هو الكيان التنفيذي، فهو القائد التنفيذي الذي يسوس الناس ويرعى شؤونهم.
ولا يصح أن تكون السلطة هي القوة، بل السلطة هي رعاية الشئون وفق الأحكام والأنظمة المنبثقة عن عقيدة الأمة، والقوة هي السياج الحامي لا راعي الشئون، جاء في طبقات ابن سعد أن عميراً بن سعد رضي الله عنه، وهو الذي ولاّه عمر بن الخطاب رضي الله عنه حمص، كان يقول: «ألا إن الإسلام حائط منيع وباب وثيق فحائط الإسلام العدل وبابه الحق، ولا يزال الإسلام منيعاً ما اشتد السلطان، وليس شدة السلطان قتلاً بالسيف ولا ضرباً بالسوط ولكن قضاء بالحق وأخذاً بالعدل».
وتكمن السلطة في كل دولة من الدول في جهة معينة، قد تكون في شخص الحاكم أو أسرته (كما في السعودية مثلا)، أو في الجيش وفي الضباط المسيطرين عليه (كما في باكستان)، أو في الشعب وطبقة الرأسماليين (كما في أمريكا)، ولكنها سلطة تحتاج إلى سند لها لتبقى مستمرة، كما سيأتي.
وثاني الكيانين: كيان مجتمعي يحمل مجموعة من الأفكار والقناعات، لديه سلطان[2] يمنحه للحاكم وأجهزته لتقوم بتنظيم شئون المجتمع بناء على الأفكار التي تشكل مفاهيم ذلك السلطان، أي طريقته في العيش التي تتجسد على شكل مفاهيم ومقاييس وقناعات، وهذه المفاهيم تحولت في المجتمع إلى عُرَفٍ (أعراف) معينة يعمل على العيش بناء عليها، ونقيضها يمثل منكرات يعمل على حماية نفسه من أن تطغى فينهى عنها أو يمنع قيامها.
ولا بد للكيان المجتمعي من قيادة وعين ساهرة على وعيه وثقافته، وحارس يبين له أي جنوح عن تطبيق المبدأ الذي ارتضاه في الواقع، ممن بيدهم مقاليد القوة، أو ليحذرهم من المؤامرات التي تحاك لهم من قبل أولي الأمر أو من قبل أعدائهم، في حال وجود تلك المؤامرات، وهذه القيادة لا تتمثل إلا بالعلماء وبالأحزاب السياسية التي تقود الأمة والتي على الأمة أن تنقاد لها فكريا.
خاصة والإسلام يدرك أن الدولة الإسلامية دولة بشرية تتراوح في قوة تطبيقها للإسلام بين خلافة راشدة وبين ملك عاض!
وأن المسلمين قد يغفلوا عن حماية الإسلام فتضيع الدولة فيقعوا بين فك ملك جبرية تهلكهم!
من هنا فالحاكم هو قائد الكيان التنفيذي يسهر من مكانه على تطبيق الإسلام وحراسته، وبيده القوة التي يزع بها الله من لم يزعه القرآن، ولكنه بشر يصيب ويخطئ.
والعلماء والأحزاب السياسية هم قادة الكيان المجتمعي يسهرون على تطبيق الإسلام وأهم أعمالهم المحاسبة!!
لذلك يقوم التوازن بين الكيان المجتمعي وما لديه من سلطان يحافظ عليه وما لديه من قوة، تتمثل في وجهائه وقوتهم المادية، وتتمثل بأفكاره وما تمثله من قوة معنوية (عقيدة تتحرك في جوانحه، ونمط عيش يحدد منطلقاته، وأعراف تمثل مزاجه ورأيه وقناعاته، ومنكرات لا يقبل بها) وبين الكيان التنفيذي وما لديه من سلطان وقوة، فيزع السلطانُ الكيانَ المجتمعي (أي أفراده الذين يحيدون) من أن يحيد عن المبدأ بقوة الشرطة وبقوة حسن تنفيذ المبدأ، ويزع الكيانُ المجتمعيُّ السلطةَ من أن تحيد وتدخل في الإسلام ما ليس فيه بالمحاسبة والقوة وفق أحكام محددة واضحة.
فالدور الذي أناطه الشارع إذن بالعالم وبالحزب السياسي أن يكون قائدا للكيان المجتمعي ليحرسَ بقوةِ الرعيةِ الهائلةِ الشريعةَ من أن يعبث بها القائمون على الأمر وقوتهم بأيديهم!
لا شك أن الأمة هي القوة الهائلة التي توقف السلطان وتردعه عن أن يبتعد عن تطبيق الإسلام قيد شعرة!
وأن هذه الأمة بحاجة دوما لمن يبين لها مثل هذه المخالفات، فيرفع من مستوى وعيها ويبين لها شرعا الموقف الصحيح الذي عليها أن تتخذه في كل ظرف، فتنقاد له، وبالتالي يقف سدا منيعا إذا ما حادت الدولة عن تطبيق الشرع أو أساءت تطبيقه! فلا بد من انقياد الأمة للعلماء وللأحزاب السياسية المخلصة!
«عَنْ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ قَالَ: خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُحِبُّونَهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ، وَيُصَلُّونَ عَلَيْكُمْ وَتُصَلُّونَ عَلَيْهِمْ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمْ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُمْ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَفَلَا نُنَابِذُهُمْ بِالسَّيْفِ؟ فَقَالَ: لَا، مَا أَقَامُوا فِيكُمْ الصَّلَاةَ، وَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ وُلَاتِكُمْ شَيْئًا تَكْرَهُونَهُ، فَاكْرَهُوا عَمَلَهُ وَلَا تَنْزِعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ»[3]. فالأمة إذن الحارس على تطبيق الشرع، تنابذ من عطله بالسيف.
ثم إن قوام المجتمع الذي نريد تغيير قيمه ومفاهيمه ومقاييسه وقناعاته أنه مجموعة من الناس تنشأ بينهم علاقات كما أسلفنا.
ثم إن الدولة تتخذ سندا لها من الكيان المجتمعي، في الوضع الطبيعي، فتكون امتدادا له في الفكر والتنظيم، وتثبت أركانها من خلال التفاعل مع مصالح الكيان المجتمعي ورعايتها، فحين يراد إحداث التغيير، حين لا تمثل الدولة سلطان الأمة ومفاهيمها، أو حين يُغتصب السلطان، لا بد من العمل على ضرب العلاقة بين الفئة التي اغتصبت سلطان الأمة، وبين الأمة، عبر إيجاد وعي عام، ورأي عام على الأفكار التي يراد إحلالها محل الأفكار السائدة الحاكمة، وذلك من خلال أعمال الكشف، والصراع الفكري والكفاح السياسي، وتبني مصالح الأمة، وتنزيل الأحكام والأفكار على الوقائع الجارية، وإظهار عجز الدولة عن رعاية الشئون بشكل صحيح، وفوق ذلك إظهار ارتباط الدولة بالقوى الخارجية المعادية للأمة، حتى نجرد الدولة من امتدادها في الكيان المجتمعي!
وذلك أن السلطة تتمثل في ثلاث: تتمثل فيمن يباشر السلطة أي الحاكم، وفيمن يسندها إسناداً طبيعياً (أي من الأمة، لأنها صاحبة السلطان) أو غير طبيعي (كالقوى الاستعمارية مثلا)، وفي الوسائل التي تساعد على سند السلطة (مثل الجيش والبرلمان وأجهزة الأمن الداخلي والقضاة.)، فالصراع إذن: تحويل الرأي العام في الأمة لصالح الأفكار المراد جعلها أساسا للسلطان، من خلال الأمة أو الفئة الأقوى منها، فإن حصل ذلك كان الكيان المجتمعي مضمونا مع الحزب صاحب الدعوة للتغيير، فيبقى إسقاط السلطة،
من هنا يتوجب العمل جنبا إلى جنب مع مراكز القوة في السلطة، أو جزء منها قادر على الانقلاب على الحاكم وفق خطة معينة مدروسة، لتحميل هذه الفئة من أهل القوة الفكرة وأخذها لصف الأمة حتى تقف مع التغيير وتسحب من تحت يد الحاكم، وهذا ما نسميه طلب النصرة!
فإن حصلت، كان الكيان المجتمعي في جانب الدعوة، محملا بالأفكار التي يراد إقامة السلطان عليها، والفئة الأقوى منه تكون سندا طبيعيا للدعوة، ويبقى إسقاط الكيان التنفيذي، بعد سحب بساط الكيان المجتمعي من تحت رجليه، وسحب بساط القوة من خلال طلب النصرة، فلا يبقى له ما يبقي عليه حيا فيسهل إسقاطه.
ولولا مسألة وجود القوة إلى جانب الحاكم، لكان إسقاط النظام مرهونا بأخذ صاحب السلطان فقط أي الشعب، أو الفئة الأقوى منه، ولكن هذا الانتقال لايكون في الغالب إلا دمويا، أما إن أخذت القوة من جانب السلطة لصف الأمة صاحبة السلطان، كان الانتقال بأقل قدر من الخسائر أو قد يكون طبيعيا لا يصاحبه قطرة دم!
على أن (اقناع الأمة وحتى أهل النصرة) قابل للتحقيق اليوم وبسهولة لولا القوة الجبارة التي يتمتع بها الكافر المستعمر في بلادنا، تلك القوة التي تظهر على شكل محلي، لكن حقيقتها أنها قوة للكافر المستعمر.
فإذا فهمنا هذا،قلنا أن الدول قد تنشأ نشوءا طبيعيا، أو قد تقام إقامة.
وأخذ الحكم في أي بلد لا يمكن أن يأتي إلا عن طريق اتخاذ مجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات التي تتبناها الأمة أو الفئة القوية منها طريقة للوصول إليه، وقضاء مصالح الناس حسب هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات. أما إذا كان يراد أخذ الحكم لتطبيق مفاهيم ومقاييس وقناعات تخالف أو تناقض المفاهيم التي قنع الناس بها أو تقبلوها أو ألفوها فلا يمكن أن يأتي إلا بغزو خارجي تفوق قدرته المادية والتفكيرية قوة الأمة المادية والتفكيرية.
ومن هنا كان لا بد من البدء بالأمة لإيجاد مجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات الإسلامية لديها، وحملها على تقبلها لها عن قناعة، ثم أخذ الحكم عن طريق الأمة لإيجاد الدولة الإسلامية في منطقة تنتقل بقوتها المادية والتفكيرية إلى سائر أجزاء العالم الإسلامي لضمه كله في دولة واحدة. والذي يوجد هذه الأفكار أو بعبارة أخرى هذه المجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات في المجتمع، والذي يجعل الفئة القوية أو يجعل الناس في مجموعهم يتقبلونها ويرون ضرورة أن يعيشوا في المجتمع على أساسها إنما هو الحزب فحسب وليس الدولة ولا الأمة،حتى ولا الأفراد المفكرون في الأمة إذا ظلوا أفراداً.
وذلك لأن الدولة كيان تنفيذي فحسب لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تقبلتها الأمة وليست هي كياناً فكريا. ولا يمكنها أن تتخطى واقع الأمة الحيوي أو الإدراكي الذي تسوس شؤونه، وتأخذ وجودها منه. وإنما بوسعها فحسب أن تعبر عملياً بمباشرتها رعاية الشؤون عن طاقة الأمة الحيوية والإدراكية عن طريق تفجيرها وتنظيمها ووضعها موضع العمل. أما أن يطلب من الدولة إصلاح أو انقلاب فذلك غير ممكن لعدم وجوده في كيانها ككيان لأن الدولة كيان تنفيذي فحسب وليس كياناً فكرياً.
أما الأمة فإنها كيان اجتماعي متنوع معقد، فهو متولد من ذكر وأنثى، وتتفاوت فيه القوى الفكرية والعضوية والجسمية، وتختلف لديه الأساليب التنفيذية لما يحمله من مقاييس ومفاهيم وقناعات. وهو فوق ذلك كله تسيطر عليه الأفكار الأصلية التي تفرعت عنها هذه المقاييس والمفاهيم والقناعات سيطرة تجعل من الصعب عليه أن ينتج غيرها، فهو محصور التفكير بها. ولذلك فإنه لا يمكن أن يكون كياناً فكرياً. ولهذا ليس بوسع أي شعب ولا أية أمة أن يبدل ـ بصفته الجماعية ـ نظرته إلى الحياة العامة، ويغير مفاهيمه ومقاييسه وقناعاته التقليدية المشتركة، مهما بلغت هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات من التأخر والانحطاط.
فالدولة بصفتها الكيانية، والشعب ـ أو الأمة ـ بصفته الجماعية، ليسا مصدراً للمفاهيم والمقاييس والقناعات، وإنما هما محل تنفيذ هذه المقاييس والمفاهيم والقناعات. فالأمة تنفذها على نفسها، والدولة تنفذها على الأمة، فهما منفعلان بالمفاهيم والمقاييس والقناعات وليسا فاعلين. ويتحركان ويتصرفان إزاء الحياة بموجب مجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات، حيث تصبح هي القاعدة التي ينطلقان منها إلى الواقع الحقوقي للدولة، والواقع المجتمعي للأمة.
وعلى ذلك فلا بد أن يكون مصدر هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات، والفاعل في الأمة والدولة هو شيء غير الأمة أو الدولة، يكون فاعلاً لا منفعلاً، ويكون هو القادر على إيجاد هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات، والقادر على تركيزها، والقادر على تعديلها وتبديلها، والقادر على المحافظة عليها[4]. وذلك الكيان الفاعل هو الحزب السياسي!
فأما الدولة إذا ما زاغت عن المفاهيم والمقاييس والقناعات فإنها تُقوَّم، لتعود للجادة، فهذا البحث يبحث في حال الدولة الأموية مثلا، ومسألة انتقال الحكم فيها بالوراثة بدلا من الشورى والاختيار، لذلك ليس هذا البحث هو بحثنا حين نقول: إقامة الدولة الإسلامية، إو إنشاء الدولة الإسلامية. بل بحثنا هو تغيير المقاييس والقناعات التي قامت عليها دويلات الضرار التي تحكم العالم الإسلامي إلى مقاييس وقناعات إسلامية، أي تحويل الأفكار السائدة في المجتمع إلى أفكار إسلامية ليتم تحويل أفكار الكيان المجتمعي، ومقاييسه وقناعاته إلى الأفكار الصحيحة، بإيجاد الرأي العام، والوعي العام، ومن ثم استعمال قوته الهائلة – قوة الأمة – لإحداث التغيير، ثم العمل على نزع القوة من الكيان التنفيذي – الحكومة والحاكم – لتكون في صف الكيان المجتمعي، فيحدث التغيير الطبيعي أي النشوء الطبيعي للدولة الإسلامية، عن طريق طلب النصرة، فتجرد الدولة من قوتها لتكون القوة في صف الكيان المجتمعي، فيحصل الانتقال الطبيعي للسلطان القائم على أفكار غير إسلامية إلى سلطان قائم على أساس الإسلام!
فهذه هي فلسفة التغيير وطريقته!
والواقع أن الأمة قد تتحد نظرتها إلى الأفكار والمفاهيم التي تريد إقامة الكيان التنفيذي على أساسها ليحكمها بها، أو قد تتعدد نظرتها، فتكون فئات متعددة، منها من يرى الإسلام، ومنها من يرى العلمانية، ومنها من يرى غير ذلك، وقد تكون تحت سلطان قوة خارجية أقوى منها، فلا بد أن تتولى الفئة الأقوى من هذه الفئات السلطة، فتسير مصالحها وترعى شئونها وشئون الفئات الأخرى وفق قناعاتها، ويضطر الجميع للخضوع لهذه الفئة، فإما أن يستساغ التسيير هذا فتخضع الفئات كلها لتلك القناعات، وتنصهر الفئات كلها في فئة واحدة فيحصل الانسجام، أو تتربص باقي الفئات الفرص المواتية لتنقض على الحكم وتحكم بما لديها من قناعات.
هذا هو الأمر الطبيعي والحتمي في كل سلطة تقوم على رعاية مصالح الناس، سواء أكانت سلطة قبلية أو سلطة ديمقراطية، أو سلطة إسلامية، أو سلطة تمثل الاحتلال، وحتى السلطة الديكتاتورية هي سلطة فئة وليست سلطة فرد، لأن رعاية هذا الفرد لمصالح الناس لا تكون إلا بتأييد فئة قوية له أو السكوت عنه،
وفي كلتا الحالتين يقوم هو بسلطة هذه الفئة المؤيدة أو الساكتة لا بسلطته هو وحدها. وعليه فلا بد من وجود أفكار معينة عن الحياة، ولا بد من وجود فئة قوية تحمل هذه الأفكار عن قناعة، وتتقبلها برضا وحماس، حتى تُؤخذ السلطة، وليس المراد بالفئة هنا الحزب وإنما المراد جماعة من الناس في المجتمع، لأن الحزب ليس فئة، وإنما هو شخصية معنوية، فالأفكار المعينة عن الحياة التي تتمثل في مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات هي الأساس، وتقبّل مجموعة من الناس، أو فئة قوية منهم لهذه المجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات، ولو إجمالاً هو الذي يوجد الدولة ويحول السلطان فيها،
لذلك كان الأساس في التغيير هو تغيير القناعات أو الرأي العام عند الأمة أو عند فئة من الأمة قادرة على فرض إقامة السلطان على تلك القناعات في الدولة، من هنا فإن عملية التغيير تتطلب إلى جانب الأعمال الدعوية، والصراع الفكري والكفاح السياسي، وتبني مصالح الأمة، والكشف، إلى جانب هذا تتطلب طلب النصرة على صعيدين: صعيد الكيان المجتمعي، من الفئة الأقوى في الدولة وقد تكون هذه الفئة ممثلة بأهل القوة والمنعة من أصحاب النفوذ في الكيان المجتمعي مثل شيوخ القبائل الذين تأتمر بأمرهم آلاف مؤلفة من أبناء الأمة، أو من السياسيين والإعلاميين أو من الوجهاء في المجتمع، وكان هذا العمل ضامنا لحصول القوة على التغيير في الكيان المجتمعي، وأساس هذا النوع من طلب النصرة الدعوة وتغيير القناعات لدى هذه الفئة من المجتمع، وإنما تطلب منها النصرة بهذه الصفة، أي بصفة قدرتها على إحداث التغيير، تماما كما طلب الرسول ﷺ النصرة من الأنصار، فقام فيهم سعد بن معاذ بما لديه من قدرة على فرض السلطان الجديد في المجتمع، دون الحاجة لطلب النصرة من جيش أو غيره.
وكذلك طلب النصرة من أهل القوة والمنعة في الكيان التنفيذي أي من أهل القوة في الجيش ومن هم بمقامهم حتى يتم تجريد الكيان التنفيذي من أسباب قوته التي يمنع بها حدوث التغيير بتسليطه أهل القوة على المجتمع فتقوم حرب بين قوتين كبيرتين: الأمة وهي الراغية في التغيير، وقوة الجيش، وهذا ما شاهدناه في الثورة السورية وفي الجزائر وفي غيرها من محاولات الأمة استعادة سلطانها إذا لم تأخذ القوة من الكيان التنفيذي لصفها، فلا تكون العملية التغييرية طبيعية، وقد تفشل أو تتأخر.
وعلى ذلك كان لا بد من البدء في إيجاد الأفكار التي تحوي مجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات عن الحياة أولاً، ثم الحصول على تقبل مجموعة من الناس أو الفئة القوية فيهم لهذه المجموعة من المفاهيم والمقاييس والقناعات حتى توجد الدولة وجوداً طبيعياً حتمياً. وأخذ الحكم في أي بلد لا يمكن أن يأتي إلا عن طريق اتخاذ مجموعة المقاييس والمفاهيم والقناعات التي تتبناها الأمة أو الفئة القوية منها طريقة للوصول إليه، وقضاء مصالح الناس حسب هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات، أما إذا كان يراد أخذ الحكم لتطبيق مفاهيم ومقاييس وقناعات تخالف أو تنافي المفاهيم التي قنع الناس بها أو تقبلوها أو ألفوها، فلا يمكن أن يأتي إلا بغزو خارجي تفوق قدرته المادية والفكرية قوة الأمة المادية والفكرية.[5]
وينبغي ذكر أن الصراع الذي يحصل مع كونه صراعاً فكرياً فهو صراع مفاهيم ومقاييس وقناعات، وليس صراع أفكار مجردة، ولذلك يتناول العلاقات العامة، والمصالح العامة، لأنه يريد أن يحطم الصفة الكيانية الفاسدة للأمة، بتحطيم المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يتكون عليها الكيان، لا تحطيم الأمة، ولا أي فرد منها، إذ أنه يسعى لأخذ الأمة، ورفع شأنها، واستبدال كيانها الحالي بإعطائها كياناً أفضل منه، يصبح كيانها المتميز بالرفعة والسمو.
ويريد أن يحطم الصفة الكيانية للدولة بتحطيم المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يتكون عليها، لا تحطيم السلطان. إذ أنه يسعى لأخذه واستبدال كيانه الحالي بإعطائه كياناً جديداً على أساس المفاهيم والمقاييس والقناعات الجديدة[6].
[1]أبو إبراهيم/ اليمن عن مجلة الوعي العددان 152 و 153 دولة الخلافة بين النشوء والإقامة
[2](أي لديها مجموعة من الأوامر والنواهي والأحكام التي تريد أن تضعها في الواقع موضع التطبيق، وترعى شئونها بناء عليها، فتعطي القوة المعنوية لرعاية هذه الشئون للحاكم، فهذا هو السلطان)
[3]صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث رقم 1855
[4]نشرة دخول المجتمع، حزب التحرير صدرت 1958.
[5]أبو إبراهيم/ اليمن عن مجلة الوعي العددان 152 و 153 دولة الخلافة بين النشوء والإقامة، بتصرف.
[6]دخول المجتمع لحزب التحرير