هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – فهل هناك طرق أخرى لقيام الدولة غير هذه الطريقة؟
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة السابعة والثلاثون – فهل هناك طرق أخرى لقيام الدولة غير هذه الطريقة؟)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
يقول الدكتور المطيري:
4″- أما الاحتجاج بطريقة إقامة النبي ﷺ للدولة الإسلامية، فهو احتجاج غير صحيح، من جهة أنه لا دليل على أن النبي ﷺ جعل طريقته تلك، هي السبيل الوحيد لإقامة الدولة، بحيث لا يسوغ إقامتها إلا وفق تلك الطريقة التي أحاطت بها ظروف مكانية وزمانية[1] اقتضت من النبي ﷺ الأخذ بها آنذاك، ولو فرض أن قريشا آمنوا واستجابوا لكان دخولهم في الإسلام طواعية، ومتابعة العرب لهم كافية، ولما كان النبي ﷺ عرض نفسه على قبائل العرب[2]، ولما طلب النصرة، ولما هاجر..الخ.” انتهى.
التعقيب: بداية أثبتنا في صفحات البحث هذا مسألة التأسي بأفعال الرسول ﷺ، ومسألة البيان والمبين، حيث أن قوله ﷺ وفعله ﷺ جاء بيانا للمبين وهو أخذ السلطان والحكم لتطبيق الإسلام وهي أفعال شرعية تمثل طريقة محددة واضحة، والخروج عنها بدعة، فيراجع ذلك في موطنه ليكون دليلا على منع القيام بطرق أخرى غير هذه الطريقة.
لنا أن نفرق في الجواب على هذا الرأي بين العمل الذي قام به الرسول ﷺ قبل طلب النصرة وعرض نفسه على القبائل، وبعد ذلك، فالسؤال يفترض أن “ماذا لو قبلت مكة” فهل العرض على القبائل من مقتضيات الطريقة أم لا؟
بداية، بعد كل الذي عرضناه يتبين لنا أن الطريقة لا تقتصر على مسألة طلب النصرة، بل إن تغيير المجتمع اقتضى أعمال المخاطبة والثقافة المركزة والجماعية، والصراع الفكري والكفاح السياسي والكشف وتبني المصالح وما سقناه في موضعه من أعمال، ثم أضيف إليها بعد أن أغلق المجتمع في وجهه ﷺ أعمال طلب النصرة.
ولكن بالنظر والتدقيق، نجد أن الرسول ﷺ تقصد زعماء مكة في غير موضع بالدعوة أملا بتغيير المجتمع بتغيرهم، من ذلك مناسبة نزول سورة عبس، حين كان ﷺ يعرض نفسه ودعوته على زعماء مكة، فأقبل ابن أم مكتوم رضي الله عنه مقبلا عليه،[3] فعمله ﷺ هنا هو طلب نصرة من الفئة الأقوى في المجتمع، والتي بإيمانها يؤمن المجتمع، وكذلك قوله ﷺ: كما في الترمذي بإسناد صحيح: «اللهم أعز الإسلام بأحب هذين الرجلين إليك بأبي جهل أو بعمر بن الخطاب، قال: وكان أحبهما إليه عمر».، وهكذا كان فعز الإسلام بإيمان حمزة وعمر، فساعد وجودهما التعجيل بانتقال الدعوة من طور إلى طور إذ كانت مرحلة التثقيف قد أثمرت ثمارا يانعة، وأفرزت شخصيات غاية في الثبات على الحق كبلال وأبي بكر وابن مسعود، فآذن إسلامهما بانتقال الدعوة لمرحلة الصدع وإبراز الكتلة، من هنا فإن أعمال أخذ الفئة الأقوى في المجتمع لصالح الدعوة كانت من صميم دعوته ﷺ، وهذا هو الطريق الطبيعي للدعوات، فإذا آمنت بالفكرة والمبدأ الجديد الفئة الأقوى في المجتمع، فقد حصل التغيير طبيعياً، وانهارت قيم المجتمع القديمة وفتحت الفئة الأقوى باب المجتمع على مصراعيه لدعاة المبدأ الجديد لبناء قيم جديدة، والحكم بها، وهذا ما لم يحصل في مكة وحصل في المدينة لاحقاً، فكانت بيعة الحرب أو النصرة من قبل المجتمع المدني تأكيداً لعقد المجتمع الجديد. ولو افترضنا أن قريشا قبلت الدعوة، لكان ﷺ بايعها بيعة الحرب والنصرة لحمل الدعوة الإسلامية لقتال الأصفر والأحمر من الناس ولفتح فارس التي كان يبشر بفتحها!
ثم إن من صميم مسألة طلب النصرة ما رأيناه ولمسناه من اقتران النصرة بالمنعة، أي أن تمنعوني وتنصروني حتى أبلغ أمر ربي وأطبقه في الحياة، وما يصادف ذلك التغيير من مجابهة قوى أخرى وحربها، وهذا معنى المنعة! فالمنعة تتعدى كف الأذى عنه ﷺ إلى منعة الدعوة، (كان ﷺ يدعو القبائل ويعود لبيته لا تتعرض له قريش كثيرا، فالغاية ليست منعته شخصيا بقدر ما هي منعة الدعوة) لذلك ترجمت أعمال النصرة مع المجتمع المدني الذي تقبل الإسلام مباشرة ترجمت ببيعة الحرب والمنعة والنصرة (تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللهِ لَا تَخَافُونَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ وَأَزْوَاجَكُمْ وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجنَّة)،
وهذا يبين أن المسألة ليست مجرد قبول المجتمع بالدعوة، بل واستعداد المجتمع لنصرة الدعوة وتوفير المنعة لها، وحرب أعدائها، والصبر على حربهم وحصارهم إن تم!
ثم إن قريشا من قبل كانت عرضت عليه خططا وحاولت صرفه عن طريقته، فعرضوا عليه الملك، والمال، وأن يعبدوا ربه سنة ويعبد ربهم سنة، وغيره فأبى، وثبت على طريقته، مما يدل على أن الأمر ليس “براغماتية” ولا تصيدا للفرص، بل هي طريقة واجبة الاتباع، على أن ما صاحبها من مشقة، وصبر على المشقة، واستمرار على تلك الأعمال، مع توفر البدائل الأسهل، يدل على أنها أحكام شرعية لا يجوز اتخاذ غيرها بدلا منها.
فعرْضُ نفسه ﷺ على القبائل؛ هو ما كان يفعله من عرض نفسه على زعماء مكة (طلباً لنصرته والوقوف معه لإقامة الكيان السياسي المنشود) حتى تبين له صدهم وإعراضهم – كما صدته معظم القبائل-.
أما الهجرة، فليست من الطريقة حتى يقال: ولم يهاجر! فإن أقام دار الإسلام في مكة فقد حصلت الغاية، وإلا فإنه يهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام!
إذن: فالخلاصة أن تحويل وتغيير المجتمع يقتضي القيام بهذه الأفعال والتزام هذه الطريقة على وجهها، ولا يتصور وجود مجتمع يجري على معتقدات وله قيادات سياسية منتفعة، يأتيه رجل بما يقلب ذلك كله رأسا على عقب ثم يتغير المجتمع بيوم وليلة دون أن يناقش في أفكاره، ودون أن يعري دور زعمائه، ودون أن يحمل مجموعة الأفكار والمفاهيم والقناعات الجديدة، ودون أن يغير مقاييسه، وهذه كلها لا تتم إلا بأعمال الدعوة، والتثقيف والصراع والتفاعل، ويلزم لوجودها أعمال طلب النصرة من الكيان المجتمعي أو من الكيان التنفيذي! وما حصل في المدينة أن الفئة الأقوى قد آمنت بالدين الجديد وبالقائد الجديد، فحصل التغيير طبيعياً، وكانت بيعة النصرة –الحرب- تتويجاً لهذه الحالة التي ينهار فيها المجتمع أمام الفكر الجديد، وبدون أعمال مادية مسلحة!! علما بأن التغيير يحتاج لقوة توجده في الواقع، قوة قادرة على التغلب على سيطرة النظام السابق وإحلال النظام الجديد محله، قادرة على هدم ما يسمى: “الدولة العميقة” وقد تكون هذه القوةُ قوةً ماديةً عسكريةً يقدمها أصحاب القوة والمنعة للدعوة بعد نجاح الدعوة في تغيير الرأي العام عند المجتمع، وأخذ الكيان المجتمعي، وقد تكون هذه القوة قوة نفوذ لدى أصحاب القوة والمنعة لدى المجتمع فيحملونه على النظام الجديد، وبالتالي فالقوة لا مناص منها، مع اختلاف أشكالها،
إلا أن التكتل العامل على التغيير لا يجوز له أن يستعمل القوة، بل يطلبها من أهل النصرة، وذلك كما مر معنا حيث أن طريقة الرسول ﷺ لم تكتف بأن تكون خلت من استعمال القوة المادية، بل إن الأدلة التي جاوزت النيف والسبعين دليلا نهت عن استعمال الكتلة للقوة، ودلت على طلبها من قبل الرسول ﷺ من أهل النصرة!
هل هناك طريقة مختلفة اتبعها الرسول ﷺ لاقامة الدولة في المدينة عن الطريقة المكية[4]؟
إن طريقة إقامة الدولة التي سار عليها الرسول ﷺ وصحابته هي هي لم تختلف من حيث المراحل والأعمال سواء في مكة أو المدينة، فقد بدأ الرسول ﷺ دعوته لأهل المدينة الستة من الأوس (أو الخزرج) من أهل يثرب في مكة أثناء موسم الحج في السنة العاشرة للبعثة بعد عام الحزن، فآمنوا به وتم الاتفاق على أن يلاقيهم في العام القادم ليجمع الله على يديه بين قبيلتي الأوس والخزرج.
وقد حضروا في العام التالي وكانوا اثنا عشر رجلا من الأوس والخزرج، فبايعوه على الإسلام بيعة العقبة الصغرى من السنة 11 للبعثة، فكان هؤلاء هم نواة الكتلة في المدينة المنورة، وأرسل معهم مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه، ليقرئهم القرآن ويعلمهم الإسلام، وكانت مهمة مصعب الخير هي قيادتهم وتثقيفهم ثم الانتقال بهم إلى مرحلة التفاعل ونشر الإسلام بين أهل المدينة، وقد قام مصعب رضي الله تعالى عنه بالتفاعل مع المجتمع وكسب الكثير من أهلها للإسلام، وكان ممن دخل في الإسلام على يديه سادات المدينة كأسيد بن حضير وسعد بن معاذ رضي الله عنهما. وقد أوجد هؤلاء السادة مع مصعب رضي الله عنهم جميعا رأيا عاما في المدينة وقبولا لدين الإسلام.
وفي الموسم التالي سنة 12 للبعثة أبلغ مصعب رسول الله ﷺ بالأخبار؛ حيث قال له بأنه لم يبق بيت في يثرب إلا وفيه ذكر للإسلام (أي رأي عام للإسلام)، وبعد عودة مصعب إليهم أحس المسلمون من أهل المدينة أنهم أصبحت لهم شوكة وأنهم قادرون على حماية الرسول ﷺ والدعوة واستعدادهم للتضحية بأرواحهم في سبيلها ولحماية الرسول ﷺ إذا قدم إليهم للمدينة، فأبلغوا مصعبا بذلك، فكان الموعد بينهم وبين رسول الله ﷺ للنصرة في أواسط أيام التشريق من موسم الحج في السنة 13 من البعثة، فحصلت البيعة على النصرة والحكم بين الرسول ﷺ وبين نقباء الأنصار الاثني عشر، ثم أمر الرسول ﷺ الصحابة بالهجرة إلى المدينة خلال الأشهر الثلاثة التالية لبيعة الحرب، ثم هاجر هو إليها وأقام دولة الإسلام الأولى وكان هو رئيسا لها.
فمن الدراسة المقارنة بين حمل الدعوة في مكة والمدينة نجد أن جوهر طريقة وسبيل الرسول ﷺ وأتباعه في الدعوة إلى الله عز وجل لتغيير المجتمع ما بين مكة والمدينة لم يتغير، بالرغم من اختلاف الظروف والأحوال بينهما والذي تغير هو الأساليب فقط، حيث سار بالمراحل الثلاث المطلوبة لنشر الدعوة ولأخذ الحكم والسلطان للإسلام، وهذا يدل على أن هذه الطريقة في التغيير هي على بصيرة وهدى ونور من الله تبارك وتعالى لتلك الكتلة، وهي كذلك طريقة وسبيل مبصرة لمن أراد بعدهم القيام بتغيير وتحويل الدار والحياة التي يعيشونها من الكفر إلى الإسلام.
طرق أخرى كان بالإمكان سلوكها في مكة:
قال الشهيد سيد قطب رحمه الله تعالى في تفسير الظلال في تفسير آيات سورة الأنعام:
1) وكان في استطاعة محمد ﷺ وهو الصادق الأمين؛ الذي حكَّمَهُ أشرافُ قريش قبل ذلك في وضع الحجر الأسود، وارتضوا حكمه، منذ خمسة عشر عاما؛ والذي هو في الذؤابة من بني هاشم أعلى قريش نسبا.. كان في استطاعته أن يثيرها قومية عربية تستهدف تجميع قبائل العرب، التي أكلتها الثارات، ومزقتها النزاعات، وتوجيهها وجهة قومية لاستخلاص أرضها المغتصبة من الإمبراطوريات المستعمرة؛ الرومان في الشمال والفرس في الجنوب؛ وإعلاء راية العربية والعروبة؛ وإنشاء وحدة قوية في كل أرجاء الجزيرة. ولو دعا يومها رسول الله ﷺ هذه الدعوة لاستجابت له العرب قاطبة – على الأرجح – بدلا من أن يعاني ثلاثة عشر عاما في اتجاه معارض لأهواء أصحاب السلطان في الجزيرة! وربما قيل: إن محمدا ﷺ كان خليقا بعد أن يستجيب له العرب هذه الاستجابة؛ وبعد أن يولوه فيهم القيادة والسيادة؛ وبعد استجماع السلطان في يديه والمجد فوق مفرقه، أن يستخدم هذا كله في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن الله – سبحانه – وهو العليم الحكيم، لم يوجه رسوله ﷺ هذا التوجيه! إنما وجهه إلى أن يصدع بلا إله إلا الله:وأن يحتمل هو والقلة التي تستجيب له كل هذا العناء! لماذا؟ إن الله – سبحانه – لا يريد أن يعنت رسوله والمؤمنين معه.. إنما هو – سبحانه – يعلم أن ليس هذا هو الطريق.. ليس الطريق أن تخلص الأرض من يد طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى يد طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاغوت!.. إن الأرض لله، ويجب أن تخلص لله. ولا تخلص لله إلا أن ترتفع عليها راية:”لا إله إلا الله”.. وليس الطريق أن يتحرر الناس في هذه الأرض من طاغوت روماني أو طاغوت فارسي.. إلى طاغوت عربي.. فالطاغوت كله طاغوت! إن الناس عبيد لله وحده، ولا يكونون عبيدا لله وحده إلا أن ترتفع راية:”لا إله إلا الله”.. “لا إله إلا الله” كما كان يدركها العربي العارف بمدلولات لغته: لا حاكمية إلا لله، ولا شريعة إلا من الله، ولا سلطان لأحد على أحد، لأن السلطان كله لله.. ولأن الجنسية التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوي فيها العربي والروماني والفارسي وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله. وهذا هو الطريق.
2) وبعث رسول الله ﷺ بهذا الدين، والمجتمع العربي كأسوأ ما يكون المجتمع توزيعا للثروة والعدالة.. قلة قليلة تملك المال والتجارة؛ وتتعامل بالربا فتضاعف تجارتها ومالها. وكثرة كثيرة لا تملك إلا الشظف والجوع.. والذين يملكون الثروة يملكون معها الشرف والمكانة؛ وجماهير كثيفة ضائعة من المال والمجد جميعا! وكان في استطاعة محمد ﷺ أن يرفعها راية اجتماعية؛ وأن يثيرها حربا على طبقة الأشراف؛ وأن يطلقها دعوة تستهدف تعديل الأوضاع ورد أموال الأغنياء على الفقراء!
ولو دعا يومها رسول الله ﷺ هذه الدعوة، لانقسم المجتمع العربي صفين: الكثرة الغالبة فيه مع الدعوة الجديدة، في وجه طغيان المال والشرف. بدلا من أن يقف المجتمع كله صفا في وجه:”لا إله إلا الله” التي لم يرتفع إلى أفقها في ذلك الحين إلا الأفذاذ من الناس.
وربما قيل: إن محمدا ﷺ كان خليقا بعد أن تستجيب له الكثرة؛ وتوليه قيادها؛ فيغلب بها القلة ويسلس له مقادها.. أن يستخدم مكانه يومئذ وسلطانه في إقرار عقيدة التوحيد التي بعثه بها ربه، وفي تعبيد الناس لسلطان ربهم بعد أن عبدهم لسلطانه! ولكن الله – سبحانه – وهو العليم الحكيم، لم يوجهه هذا التوجيه.. لقد كان الله – سبحانه – يعلم أن هذا ليس هو الطريق.. كان يعلم أن العدالة الاجتماعية[5] لا بد أن تنبثق في المجتمع من تصور اعتقادي شامل؛ يرد الأمر كله لله؛ ويقبل عن رضى وعن طواعية ما يقضي به الله من عدالة في التوزيع، ومن تكافل بين الجميع؛ ويستقر معه في قلب الآخذ والمأخوذ منه أنه ينفذ نظاما يرضاه الله؛ ويرجو على الطاعة فيه الخير والحسنى في الدنيا والآخرة سواء. فلا تمتلىء قلوب بالطمع، ولا تمتلىء قلوب بالحقد؛ ولا تسير الأمور كلها بالسيف والعصا؛ وبالتخويف والإرهاب! ولا تفسد القلوب كلها وتختنق الأرواح؛ كما يقع في الأوضاع التي نراها قد قامت على غير:”لا إله إلا الله”..
3) ويسرد سيد قطب أمثلة أخرى على طرق كان بالإمكان سلوكها بدلا من الطريق الوعر الذي ناله عليه صلاة الله وسلامه منه الأذى، ولكنه لم يسلك إلا ذلك الطريق.[6]
[1] لقد جاءت الأحكام الشرعية لتغير الواقع لا لتتأثر بالواقع، والإجتهاد تنزيل الأحكام الشرعية على الوقائع، ولا اعتبار للزمان ولا للمكان في عملية الإجتهاد الشرعي بتاتا، فهي ليست من الأصول التي يرجع إليها حين الإجتهاد، وقد استفضنا في قتل هذه النقطة قتلا في بحثنا: لا يصلح الإنسان في أي زمان أو مكان إلا بالإسلام، وأما أن الواقع قد يختلف، فرغم أن الإختلاف شكلي إلا أن طبيعة العمل ستبقى هي هي، فبدلا من محاربة عبادة الأصنام، يتوجه العمل لمحاربة طاغوت الأنظمة الوضعية، وبدلا من قيادات قريش يحارب عملاء الأنظمة الطاغوتية، وبدلا من محاربة وأد البنات، تحارب جاهلية السفور وهكذا، فالعبرة هي أن الأعمال هي هي، أعمال صراع فكري مع اختلاف نوعية الأفكار إلا أن الصراع الفكري هو هو، أعمال الكفاح السياسي، مع اختلاف طبيعة السياسيين إلا أن الكفاح هو هو، فضح سوء رعاية الشئون هو هو، سواء أكان سوء رعاية الشئون جراء نهب المال العام أو المحسوبيات أو أي شكل كان، فإن العمل هو هو: شئون لا ترعى حق الرعاية، حقوق يفرط بها، لذلك فإن النظر المستنير لا يقول بأن الأعمال ستختلف لاختلاف طبيعة الأفكار المحيطة أو لاختلاف طبيعة السياسيين وانتماءاتهم وعمالتهم، بل الأعمال هي هي!
[2]العبرة في تغيير المجتمع، سواء تغير المجتمع المكي، أم وجد مجتمعا آخر قابلا للتغيير، وتغيير المجتمع، أي مجتمع يمر بنفس الآليات، من حمل الدعوة والتفاعل والتثقيف وطلب النصرة هو هو سواء من المجتمع المكي (الفئة القادرة على فرض التغيير فيه) أو في مجتمع آخر (القبائل التي يعرض نفسه عليها)! وقد مر رسول الله ﷺ بطور تقصد زعماء المجتمع المكي بغية إحداث التغيير بقبولهم، كما في حادثة ابن أم مكتوم، وهذا هو عين مقصده من طلب النصرة!
[3]﴿عَبَسَ وَتَوَلَّى أَن جَاءَهُ الأَعْمَى﴾ وهو ابن أم مكتوم، وذلك أنه أتى النبي ﷺ وهو يناجي عتبة بن ربيعة، وأبا جهل بن هشام، وعباس بن عبد المطلب، وأبيا، وأمية ابني خلف، ويدعوهم إلى الله تعالى ويرجو إسلامهم، فقام ابن أم مكتوم وقال: يا رسول الله، علمني، مما علمك الله؛ وجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهية في وجه رسول الله ﷺ لقطعه كلامه، وقال في نفسه: ” يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والسفلة والعبيد “، فعبس رسول الله ﷺ وأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، فكان رسول الله ﷺ بعد ذلك – يكرمه، وإذا رآه يقول: «مرحبا بمن عاتبني فيه ربي». وعمل الرسول المعصوم عن الخطأ ﷺ هنا هو خلاف الأولى، وحاشاه ﷺ أن يخطئ كما يتوهم البعض.
[4]الأستاذ المفكر: يوسف الساريسي
[5]لفظة العدالة الاجتماعية مستوردة، لها مدلول معين، استعملها الشهيد سيد قطب بمعنى في ذهنه غير المعنى الاصطلاحي لها.
[6]في ظلال القرآن، سيد قطب، تفسير سورة الأنعام، وهي سورة مكية.