سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الحادية عشرة: مسئولية ولي الأمر عن الحكم بالأمر
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الحادية عشرة: مسئولية ولي الأمر عن الحكم بالأمر
المهم هنا أن نتأمل في جمعه سبحانه وتعالى للأمر ليضعه في يد ذي الأمر، يحكم بناء عليه، أي بناء على مجموعة الأوامر والنواهي التي نزل بها الوحي، أو يستنبطها أولو الأمر أي العلماء مما نزل به الوحي، ففي كلٍّ جمع الأحكام التي يساس بها الناس، سواء من حيث استنباطها، أو من حيث القيام على تطبيقها، أو من حيث خطورتها على المجتمع وردها إلى من يعلمون استنباطها كأي أمر من الأمن أو الخوف، فقد جمعها في مسمى الأمر، وجعل عليه مسؤولين مختصين لم يترك الأمر بحالٍ فوضى، فالحدود والقصاص والتعزير، وعقد المعاهدات، وإقامة السياسة الداخلية لرعاية الشؤون وفق أحكام الإسلام، وفض النزاعات وإرجاع الحقوق إلى أهلها، والسياسة الخارجية لحمل الدعوة الإسلامية والجهاد، وما إلى ذلك كله وضعه بيد وليِّ الأمر، ومن ينيبه عنه من ولاة وقضاة وغيرهم، يوجد بوجوده، فبعضه لا يطبق تطبيقا كاملا إلا من خلال هذا الولي أو من ينيبه، وبعضه لا يطبق أصلا إن لم يوجد هذا الولي، فالأمر المنوط بهذا الخليفة، إنما يشكل العمود الفقري لقيام الإسلام في الأرض، وما تبقى من الإسلام مما يمكن تطبيقه على مستوى الأفراد، لا يتعدى النزر اليسير من الإسلام، فلا وجود للإسلام في الأرض إلا من خلال دولة تقيم أحكامه وتحمل رسالته وتدافع عن بيضته، دولة يكون الأمر فيها لولي الأمر يطاع ما أقامه فينا، وإن أراد أن يظهر نقيضه حمل السيف في وجهه.
قال ابن سعيد الغرناطي في المغرب في ترتيب المعرب: وَيُقَالُ (وَلِيَ ) الأَمْرَ (وَتَوَلاهُ) إذَا فَعَلَهُ بِنَفْسِهِ وَمِنْهُ قَوْلُهُ فِي بَابِ الشَّهِيدِ لُوا أَخَاكُمْ أَيْ تَوَلَّوْا أَمْرَهُ مَنْ التَّجْهِيزِ (وَوَلِيُّ الْيَتِيمِ) أَوْ الْقَتِيلِ وَوَالِي الْبَلَدِ أَيْ مَالِكُ أَمْرِهِمَا وَمَصْدَرُهُمَا الْوِلايَةُ بِالْكَسْرِ. إ.هـ.
قال أبو السعود العمادي: ﴿أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَأَطِيعُواْ ٱلرَّسُولَ وَأُوْلِى ٱلأمْرِ مِنكُمْۖ﴾، وهم أمراءُ الحقِّ وولاةُ العدلِ كالخلفاء الراشدين ومَنْ يقتدي بهم من المهتدين، وأما أمراءُ الجَوْرِ فبمعزل من استحقاق العطفِ على الله تعالى والرسولِ ﷺ في وجوب الطاعةِ لهم.[1] إ.هـ. وقد قال ﷺ: «من أطاعني فقد أطاع الله ومن عصاني فقد عصى الله، ومن يطع أميري فقد أطاعني ومن يعص أميري فقد عصاني»، قال البغوي في تفسيره: وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: حقٌ على الإمام أن يحكم بما أنزل الله ويؤدي الأمانة فإذا فعل ذلك فحق على الرعية أن يسمعوا ويُطيعوا. إ.هـ.
وقال الزمخشري: فإن اختلفتم أنتم وأولوا الأمر منكم في شيء من أمور الدين، فردّوه إلى الله ورسوله، أي: ارجعوا فيه إلى الكتاب والسنة. وكيف تلزم طاعة أمراء الجور وقد جنح الله الأمر بطاعة أولي الأمر بما لا يبقى معه شك، وهو أن أمرهم أولاً بأداء الأمانات وبالعدل في الحكم وأمرهم آخراً بالرجوع إلى الكتاب والسنة فيما أشكل، وأمراء الجور لا يؤدّون أمانة ولا يحكمون بعدل، ولا يردون شيئاً إلى كتاب ولا إلى سنة، إنما يتبعون شهواتهم حيث ذهبت بهم، فهم منسلخون عن صفات الذين هم أولو الأمر عند الله ورسوله، وأحق أسمائهم: اللصوص المتغلبة إ.هـ.
إن أمره سبحانه وتعالى بالرد إلى الله وإلى الرسول في كل شاردة وورادة يعني أن تتنزل الأحكام على الحوادث، من أجل أن تطبق في الواقع، وهذا هو عينه تعريف السياسة، فالسياسة رعاية الشؤون صغيرها وكبيرها، حقيرها وخطيرها وفق الأوامر والنواهي التي نزل بها الوحي، لضمان حسن تطبيق نظام الإسلام في الواقع ليحيا الناس حياة إسلامية، ومرد هذه الأحكام إلى العلماء يستنبطونها، وإلى الدولة تطبقها، فالدولة كيان تنفيذي لمجموعة المفاهيم والمقاييس والقناعات التي تحملها الأمة، وفي الإسلام هذه المفاهيم والمقاييس والقناعات إنما تؤخذ من الوحي، من هنا كان الوحي سائسا لشؤون الناس بالدين الذي نزل على قلب محمد ﷺ بالحق، ليقوم الناس بالقسط.
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى[2]: “ولهذا أمر النبي ﷺ أمته بتولية ولاة أمور عليهم، وأمر ولاة الأمور أن يردوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكموا بين الناس أن يحكموا بالعدل، وأمرهم بطاعة ولاة الأمور في طاعة الله تعالى-ففي سنن أبي داوود- عن أبي سعيد أن رسول الله ﷺ قال: «إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم».
وفي سننه أيضاً عن أبي هريرة مثله، وفي مسند الإمام أحمد وعن عبد الله بن عمر أن النبي ﷺ قال: «لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا أحدهم». فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الجماعات أن يولي أحدهم، كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك، ولهذا كانت الولاية لمن يتخذها ديناً يتقرب به إلى الله ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي ﷺ أنه قال: «إنّ أحب الخلق إلى الله إمام عادل وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر».
[1] وقيل: هم علماءُ الشرعِ لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ ٱلأمْنِ أَوِ ٱلْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِۦۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى ٱلرَّسُولِ وَإِلَىٰۤ أُوْلِى ٱلأمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ ٱلَّذِينَ يَسْتَنِبطُونَهُ مِنْهُمْۗ وَلَوْلا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ لاتَّبَعْتُمُ ٱلشَّيْطَـٰنَ إِلا قَلِيلا﴾، ويأباه قوله تعالى: ﴿فَإِن تَنَـٰزَعْتُمْ فِى شَىْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ﴾، إذ ليس للمقلد أن ينازعَ المجتهدَ في حكمه، إلا أن يُجعلَ الخطابُ لأولي الأمر بطريق الالتفاتِ وفيه بُعدٌ، وتصديرُ (إن) الشرطية بالفاء لترتبها على ما قبلها فإن بـيانَ حكمِ طاعةِ أولي الأمرِ عند موافقتِها لطاعة الله تعالى وطاعةِ الرسولِ ﷺ يستدعي بـيانَ حكمِها عند المخالفةِ أي إن اختلفتم أنتم وأولوا الأمرِ منكم في أمر من أمور الدِّين فراجعوا فيه إلى كتاب الله ﴿وَٱلرَّسُولِ﴾ أي إلى سننه انتهى قول أبي السعود. وقال الجصاص في أحكام القرآن: ثم قال: ﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول﴾، فأمر أولي الأمر برد المتنازع فيه إلى كتاب الله وسنة نبيه ﷺ؛ إذ كانت العامة ومن ليس من أهل العلم ليست هذه منزلتهم؛ لأنهم لا يعرفون كيفية الرد إلى كتاب الله والسنة ووجوه دلائلهما على أحكام الحوادث فثبت أنه خطاب للعلماء. انتهى.
[2] مجموع الفتاوى 28/ص64