سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة السابعة والعشرون: الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟ – ج1
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة السابعة والعشرون: الزوايا والاعتبارات التي يجب بحثها حين الإجابة على السؤال: لمن الحق بالتشريع؟ – ج1
إن إنتاج الأفكار وحكم الإنسان على الأشياء والأفعال، يأتي من حيث فهم واقعها ما هو؟ ومن ثم من حيث وجهة النظر في الحياة التي تحدد للإنسان موقفه تجاه الأشياء والأفعال، ومن غير وجهة النظر عن الحياة هذه فإن الإنسان لا يكون ناهضا، فيستوي عنده أكل كل شيء ما دام يشبع جوعة المعدة، فيستوي الأكل بطريق السرقة، مع الأكل بطريق العمل الشاق، ويستوي القتل، فلا قيم تردع الإنسان ولا تحدد سلوكه!
لذلك فلا يكتفي الإنسان الناهض المتحضر بأن يدرك واقع التفاحة بأنها تشبع الجوع، وأنها ليست فجة، ولا غير ناضجة، كي يأكلها، بل يسبق فعله هذا وجهة نظر في الحياة تبين له أسباب امتلاكها، وما تعلق بحكمها، فإن كانت حلالا أكلها!
ولتحديد الموقف من الفعل: هل يتركه الإنسان أم يفعله، أم يخير بين الفعل والترك، ولتحديد موقفه من الأشياء المتعلقة بها أفعاله، هل يأخذها أو يتركها، أم يخير، نجد أن الموقف هذا يتوقف على النظر إليه من خلال الزوايا التالية: واقع الشيء أو الفعل، الحسن والقبح، الخير والشر، المدح والذم، الثواب والعقاب.
- نظرته للشيء أو للفعل، (ما هو واقعهما؟)، هل يظهر في واقع الفعل أو الشيء الكمال والنقص؟
- ومن زاوية: الحسن والقبح، أي من خلال الاعتبارات التالية:
الاعتبار الأول: الملاءمة لطبع الإنسان، وللميول الفطرية لدى الإنسان، ولأغراضه أو المنافرة لها، فالحُسْن قيل: هو ملاءمة الطبع، والقُبْح قيل: هو منافرته كقولنا: إنقاذ الغريق حسن، وإتهام البريء قبيح!، وما وافق الغرض كان حسناً وما لم يوافق الغرض كان قبيحاً، كقتل زيد بالنسبة لأعدائه وأوليائه فإنه بالاعتبار الأول حسن أى ملائم للغرض وبالاعتبار الثاني قبيح أي غير موافق لغرضهم.
الاعتبار الثاني: أن الحُسْن هو الكمال، والقُبْح هو النقص كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، بمعنى أنها صفة كمالٍ توجبُ ارتفاع شأن صاحبها والقبح كون الشئ صفة نقصان بمعنى أنها توجب انحطاط شأن صاحبها المتصف بها.
الاعتبار الثالث: أن الحُسْن هو استحقاق الثواب والمدح، والقُبْح استحقاق العقاب والذم.
قيل بأن الاعتبارين الأول والثاني للعقل!، لكن هذا وإن انطبق على بعض الأفعال وبعض الأشياء، فإنه لا ينطبق على الكل، فالعبرة كما اتضح لك من النقاش في البابين السابقين ليست لمجرد إصدار الحكم، أي حكم، وإنما لصوابية الحكم، ومقدرته على معالجة المشكلة معالجة صحيحة!
أما وصف الأفعال بالحسن والقبح فإنه من حيث الحكم عليها من قبل الإنسان، ومن حيث العقاب والثواب عليها، فالإنسان أعطى نفسه صلاحية الحكم على الفعل بأنه حسن أو قبيح قياساً على الأشياء، فإنه لما وجد أنه استطاع أن يحكم على الشيء المر بأنه قبيح وعلى الشيء الحلو بأنه حسن، وعلى الشكل البشع بأنه قبيح وعلى الشكل الجميل بأنه حسن رأى أنه يستطيع الحكم على الصدق بأنه حسن وعلى الكذب بأنه قبيح وعلى الوفاء بأنه حسن وعلى الغدر بأنه قبيح، فأعطى نفسه صلاحية الحكم على الأفعال بأنها حسنة أو قبيحة بغض النظر عن موضوع الخير والشر فإنه ليس وارداً عنده في هذه الحالة، (أي أن البحث هنا من زاوية الحسن والقبح لا الخير والشر) وبناء على حكمه هذا وضع العقوبات على الفعل القبيح ووضع المكافآت على الفعل الحسن.
فجاء التصحيح لهذا الحكم بأن الفعل لا يقاس على الشيء، فإن الشيء يدرك الحس فيه المرارة والحلاوة والبشاعة والجمال فيمكنه أن يحكم عليه، بخلاف الفعل فإنه لا يُوجَد فيه شيء يحسه الإنسان حتى يحكم عليه هو بالقبح أو الحسن، فلا يتأتى أن يحكم عليه بالحسن أو القبح مطلقاً من نفس الفعل (وكون الظلم مما يمدح أو يذم ليس مما يحسه الإنسان؛ لأنه ليس شيئاً يحس، فلا يمكن أن يُعقَل، أي لا يمكن للعقل إصدار حكم عليه.)
ويتم الحكم على الفعل أو الشيء بالإحساس به، وينقل هذا الإحساس للدماغ ليصدر الحكم عليه، فما لم يكن الفعل أو الشيء محسوسا، فلا يمكن إصدار الحكم عليه، فلا يكفي لإصدار الحكم على الفعل أن يشعر الإنسان بفطرته بالنفور منه، أو الميل له، (فبعض العقول تميل للزنى، ولشرب الخمر فهل يكفي ميلها دليلا على صحة القيام بالفعل أو تحسينه؟ أين المقياس وأين الميزان؟!! والفطرة قد تتأثر بعوامل خارجية مثل الثقافة، فالغربي لا يرى “بفطرته” ما يراه المسلم “بفطرته” وذلك جراء تغير الموازين والأحكام جراء الثقافة الخارجية!، وتأثير الفطرة يتفاوت في العقول قوة وضعفا، دقة في الفهم وضبابية!، ثم لو سلمنا جدلا بصلاحية الفطرة لأن تكون مقياسا ومصدرا لوصف الفعل بالحسن والقبح، كما هو قولهم: العلم حسن، والجهل قبيح، فهاتوا بينوا لنا كيف ستحكم الفطرة على تقبيح أو تحسين تعلم الفلسفة الإلحادية؟ أو على تقبيح أو تحسين حكم أو قانون يتعلق بالشركات المساهمة؟) فلا يتأتى للعقل الحكم عليه بالحسن أو القبح، وبالتالي فلا يصح له الحكم على الفعل بالمدح أو الذم، فلا بد أن يأخذ هذا الحكم من غيره وهو الله تعالى. فهنا البحث من حيث الحكم على الفعل وليس من حيث مقياسه وهنا البحث من حيث العقوبات على الأفعال والإثابة عليها وليس من حيث الإقدام عليها والإحجام عنها، ولذلك كان هناك فرق بين الخير والشر وبين الحسن والقبح، وكانا بحثين منفصلين تماماً.