سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي” الحلقة الثانية والثلاثون: استنباط الحكم الشرعي في الخلافة
سلسلة “الخلافة والإمامة في الفكر الإسلامي”
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
الحلقة الثانية والثلاثون: استنباط الحكم الشرعي في الخلافة
هل الخلافة من العقيدة؟ وهل هي من أصول الدين والشريعة؟
لقد بلغت أدلة وجوب إقامة الخلافة ونصب الخليفة حدًا أضحت معه موضع إجماع الصحابة والأمة والأئمة على مر العصور، بحيث اعتبر من شذ عن هذا الإجماع أصما عن الشريعة، وارتفعت عن أن تكون موضع جدل أو نقاش، بل كثيرا ما ألحقت بمسائل أصول الدين وأصول الشريعة، إذ أنك تجد علماء الأصول يبحثونها في كتب أصول الدين، جنبا إلى جنب مع أبحاث العقيدة، ومن أمثال ذلك: الإيجي في المواقف في علم الكلام[1]، عقد للإمامة فصلا، وسعد الدين التفتازاني في كتاب متن تهذيب المنطق والكلام ص121، عقد للإمامة فصلا، وهذا الإمام أبو الحسن علي بن محمد سيف الدين الآمدي في كتابه: أبكار الأفكار في أصل الدين، يعقد في الجزء الثالث من الكتاب فصلا كاملا عن الإمامة بعد أن تكلم فيه عن إثبات رسالة محمد ﷺ وعصمة الأنبياء، والمعاد إلى أن عقد فصلا في الإمامة ومن له الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجعله يشتمل على أصلين: أولهما: الإمامة واشتمل على تسعة فصول، وقال الشهرستاني في نهاية الإقدام في علم الكلام: “القاعدة العشرون: في إثبات نبوة نبينا محمد ﷺ وبيان معجزاته ووجه دلالة الكتاب العزيز على صدقه وجمل من الكلام في السمعيات من الأسماء والأحكام وحقيقة الإيمان والكفر والقول في التكفير والتضليل وبيان سؤال القبر والحشر والبعث والميزان والحساب والحوض والشفاعة والصراط والجنة والنار وإثبات الإمامة وبيان كرامة الأولياء من الأمة وبيان جواز النسخ في الشرائع وأن هذه الشريعة ناسخة للشرائع كلها وأن محمداً المصطفى ﷺ خاتم الأنبياء”. فعد إثبات الإمامة من مسائل العقيدة،
وقال بعد ذلك: ” القول في الإمامة: اعلم أن الإمامة ليست من أصول الاعتقاد بحيث يفضي النظر فيها إلى قطع ويقين بالتعين ولكن الخطر على من يخطي فيها يزيد على الخطر على من يجهل أصلها والتعسف الصادر عن الأهواء المضلة مانع من الإنصاف فيها”. “والدليل الساطع على وجوب الإمامة سمعاً اتفاق الأمة بأسرهم من الصدر الأول إلى زماننا أن الأرض لا يجوز أن تخلو عن إمام قائم بالأمر“[2].
وكلام الشهرستاني في خطورة الخطأ فيها يذكرنا بكلام الجويني نفسه أعلاه فراجعه، فالخطر في إنكارها، – بحجة أنها ليست من أصول الاعتقاد – مساو للخطر في الخطأ في أي أصل من أصول الاعتقاد[3] لأهمية الخلافة ومكانتها، وخطورة القضية شرعا لا تكون فقط بكونها من أصول الاعتقاد، بل بخطورة توقف وجود الدين عليها في الحياة، فكيف سيطبق كتاب الله تعالى في الأرض بدون دولة خلافة؟ كيف ستحمى أعراض المسلمات ودماء المسلمين وأموالهم، وكيف سترعى مصالحهم؟ وكيف سينشر دينهم؟ كيف سيقام العدل ويمنع الظلم؟ كيف وكيف!
كذلك تجد أصحاب العقائد يُبدون رأيهم في الإمامة في متون عقائدهم، من ذلك: عقيدة ابن الحاجب قال: “وَأَنَّ نَصْبَ الإِمَامِ وَاجِبٌ عَلَى الخَلْقِ، لاَ عَلَى الخَالِقِ”. وفي متن العقائد العضدية للإيجي، وفي العقيدة النسفية، وغيرها.
وبالنظر المتفحص، نجد فرقا بين الأحكام الشرعية العملية وبين العقائد، فالصلاة فرضٌ وحكمٌ شرعيٌ عمليٌ، وليست من العقائد، إلا أن إثبات فرضية الصلاة من العقيدة، لوجود الدليل القطعي عليها، فمن أنكر فرض الصلاة كفر، فهو بذا ينكر ما ثبت بالقطع، وفرق بينه وبين من لم يُصَلّ، فهما مبحثان مختلفان، وبالمثل نجد أن فرض إقامة الخلافة، وفرض نصب الخليفة، وحرمة أن يخلو الزمان من خليفة يقيم أحكام الإسلام في الأرض، من العقيدة لثبوته بالتواتر المعنوي (من أدلة الكتاب والسنة وما أرشدا إليه)، وبإجماع الصحابة على أنه فرض، إذ أن العقائد تتعلق بالأفكار التي يتخذ الإنسان منها موقف التصديق أو التكذيب، وانعقاد القلب على الفكرة،
والتصديقُ بأن الله تعالى ورسوله قد شرع تطبيق الإسلام من خلال الدولة الإسلامية (الخلافة)، والتصديقُ بأن نصبَ خليفةٍ واجبٌ، والتصديقُ بحرمة خلو الأرض من خليفة، هو من الاعتقاد، تماما كالتصديقِ بأن الله تعالى أمر بالصلاة، وهذا التصديق هو غير القيام بالفعل نفسه، أي أن القيام بالصلاة من الأحكام الشرعية، بينما التصديق بأن الصلاة فرضٌ من الاعتقاد، لذلك مَنْ شَكَّ في فرضية الصلاة كفر، لثبوت دليلها بالقطع، فمن أنكر ثبوت ذلك الدليل رد محكم الكتاب القطعي الثبوت القطعي الدلالة، ومن شك بفرض الصيام كفر، فهما قطعيان، بخلاف من لم يصم تكاسلا، فإنه مذنب عاص، إلا أن يكون في قلبه شك في أن الصيام فرض، فيكفر حينها لشكه لا لعدم الصيام.
لذلك، ولخطورتها، وضع علماء الأصول بحث الإمامة أو الخلافة في متن كتب أصول الاعتقاد، وبحثوها هناك،
والأحكام الشرعية هي الأحكام التي تتعلق بالأفعال، فحين يأمر الله بالصلاة فإن إقامة الصلاة فعل، وهو حكم شرعي، وليس بالاعتقاد، وبالنظر في الخلافة نجد أحكاما متعلقة بأفعال مخصوصة، مثل بيعة الخليفة وهو فرض أي هو حكم شرعي، وقطع يد السارق وهو فعل تقوم به الدولة، وأمثاله أحكام شرعية، ثبت دليلها بالقطع، وثبت بالإجماع أنها مما أنيط بالإمام أو من ينيبه، وما يهمنا في هذا الأمر هو أن الخلافة إذ ثبت وجوبها بالدليل القطعي، فإن الاعتقاد بفرضيتها من العقيدة، وتعلو بذا عن أن تكون موضع خلاف، وقد كانت كذلك حتى جاء آخر الزمان بمتفيقهين أنزلوها من عليائها ووضعوها موضع الاستنكار وأهملوا شأنها، فللنظر إذن: هل إقامة الخلافة فرض قطعي؟
[1] وقال عضد الدين الإيجي (في المواقف): نصب الإمام عندنا واجب علينا سمعا… وأما وجوبه علينا سمعا فلوجهين: الأول إنه تواتر إجماع المسلمين في الصدر الأول بعد وفاة النبي امتناع خلو الوقت عن إمام، حتى قال أبو بكر رضي الله عنه في خطبته ألا إن محمدا قد مات ولا بد لهذا الدين ممن يقوم به، فبادر الكل إلى قبوله وتركوا له أهم الأشياء وهو دفن رسول الله، ولم يزل الناس على ذلك في كل عصر إلى زماننا هذا من نصب إمام متبع في كل عصر…
الثاني إنه فيه دفع ضرر مظنون وإنه واجب إجماعا. بيانه إنا نعلم علما يقارب الضرورة أن مقصود الشارع فيما شرع من المعاملات والمناكحات والجهاد والحدود والمقاصات وإظهار شعار الشرع في الأعياد والجمعات إنما هو مصالح عائدة إلى الخلق معاشا ومعادا وذلك لا يتم إلا بإمام يكون من قبل الشارع يرجعون إليه فيما يعن لهم، المواقف، ص 395. والإيجي عاش بين سنة 700 ه وسنة 756 هـ.
[2] نهاية الإقدام في علم الكلام للشهرستاني – القاعدة العشرون، ص 216
[3] يعني: يستوي خطأ من شك في الجنة والنار بخطأ من لم ير فرض الخلافة، فالمخطئ في الجنة والنار أخطأ في الاعتقاد، والمخطئ في شأن فرض الخلافة كأنه يقول: كل ما نزل من الأحكام لم ينزل للتطبيق! فقطع يد السارق ليس الحل الأمثل أو أن الأمة قد تستغني عن النظام الاقتصادي الإسلامي وتستعير الرأسمالية، فهل تجد فرقا بينهما؟ كلاهما رد على الله أحكامه، سواء المتعلقة بالاعتقاد، أو بعدم اعتقاد فرض ما أنزل من الأحكام! أو بأن الحكم قد يكون لغير الله! وحين أَحَلَّ الرُّهبانُ والأحْبَارُ الحَرامَ (أي غيروا الأحكامَ الشرعيةَ وفق اهوائهم) واتبعهم أهل الكتاب في ذلك، وصف الله ذلك الفعل بأنهم اتخذوهم أربابا من دون الله! فالحجة بالغة!