كلمة أمير حزب التحرير العالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشتة حفظه الله لافتتاح المؤتمر الاقتصادي العالمي في السودان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد
أيها الحضور الكرام:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
لقد شهدتم، ولازلتم تشهدون، الأزمة المالية العالمية التي انطلق لهيبها من الولايات المتحدة الأمريكية، ثم امتدت لتصيب دولاً أخرى في العالم بفعل أذرع الرأسمالية، وشظايا العولمة، حتى لم تبق دولة، مهما صغرت ومهما ابتعدت، سالمة من شرر لهيب تلك الأزمة.
ولقد شهدتم كذلك، ولازلتم تشهدون، المعالجات الدولية للأزمة، سواء أكانت تلك المعالجات من دول منفردة، أم كانت منها مجتمعة في قمم ومؤتمرات أو اتحادات، كاجتماعات الاتحاد الأوروبي، أو قمة العشرين في واشنطن، أو قمة ليما، أو مؤتمر قطر… أو غيرها، ولم تقوَ تلك المعالجات على حل تلك الأزمة، بل كان أمثلها طريقة هو الذي استطاع أن يخفف من وطأتها لأيام، بل لساعات أو سويعات، ثم تعود الأزمة سيرتها الأولى فتشتعل مرة أخرى.
الحضور الكرام:
إن المتدبر للطبقة السياسية الحاكمة في الدول الكبرى ولاقتصاديي هذه الدول، يجدهم فريقين من حيث معالجة هذه الأزمة:
الفريق الأول أغمض عينيه عن أسس الرأسمالية الفاسدة التي أنتجت هذه الأزمة، فركز هذا الفريق معالجاته على النتائج، ولم يبحث في علاج الأسس. وهكذا نظر إلى ظواهر الأزمة، فرأى أن المؤسسات المالية فقدت السيولة، فقال إذن نضخ مليارات ومليارات لإيجاد السيولة للمؤسسات. ورأى أن الأسواق المالية والاستثمار قد ركد وتجمد، فقال إذن نخفض الفائدة الربوية على القروض، فنشجع الاقتراض وبالتالي تحريك السوق. ورأى أن الأسهم والسندات والأوراق المالية قد فقدت معظم قيمتها وتجاوزت الخطوط الحمراء، فقال إذن تتدخل الدولة وتشتري الأصول المتعثرة وكثيراً من الأسهم والسندات والأوراق المالية…
وهكذا ركز معالجاته على ظواهر الأزمة، وبقي مغمضاً عينيه عن أسس الرأسمالية الفاسدة والفاشلة في معالجة المشكلة الاقتصادية، وتركها على حالها، ونسي أو تناسى أنها هي السبب في إنتاج الأزمة، ولذلك فإن معالجاته لم تتجاوز التسكين والتخدير بعض بعضِ الوقت، ثم تعود الأزمة سيرتها الأولى، بل هي تشتد أحياناً فوق ما كانت عليه.
إن حال هذا الفريق هو تماماً كحال ذلك الرجل الذي رأى شقوقاً مائلة في جدران بيته، فذهب وأحضر عجينة الأسمنت ودهن تلك الشقوق وغطاها، وظن أنه عالج الأمر ، ثم وضع رجلاً على رجل واستراح! وبعد ساعات أو سويعات انفتحت الشقوق من جديد، ولم يكن ذلك غريبا أو عجيباً، لأن الرجل لم يعالج سبب الشقوق الذي هو من ضعف الأساسات وهبوطها.
وعليه فإن هذا الفريق لم يعالج سبب الأزمة، بل أقصى ما فعل أنه سكَّنها بعض الشيء…
وأما الفريق الثاني فإنه لم يغمض عينه عن أسس الرأسمالية الفاسدة الفاشلة في معالجة المشكلة الاقتصادية، وإنما هو حصر فكره في نظامين لا ثالث لهما: الاشتراكية الشيوعية التي فشلت ثم انهارت، والرأسمالية التي تترنح ولكنها لم تنهر بعد، فرأى أن الرأسمالية على ما فيها من فساد هي أفضل من الاشتراكية الشيوعية، ولذلك توجه نحو منتقدي فشل الرأسمالية في معالجة المشكلة الاقتصادية وفي أنها السبب في إنتاج الأزمة… توجه نحوهم متسائلا: ما هو البديل ؟! وهو يرى أن لا بديل، لأنه مطمئن أنهم لن يجيبوا بأن البديل هو الاشتراكية الشيوعية، ما دام هو واقتصاديوه لا يرون نظاما اقتصاديا إلا هذين: الاشتراكية التي انهارت وسقطت أرضاً، والرأسمالية التي تتسارع في الانحناء نحو الأرض ولكن رأسها لم يصطدم بالأرض بعد!
إن العجيب في أمر هذا الفريق أنه جهل أو تجاهل نظاماً اقتصاديا عريقاً ضاربة جذوره في أعماق التاريخ، عمَّر في الأرض فوق فوق ما عمره أي نظام اقتصادي آخر، وقد عاش الناس في ظله في بحبوحة من العيش، وفي أمن وأمان، وكانوا ينعمون بحياة اقتصادية آمنة خالية من الأزمات مدة جاوزت ثلاثة عشر قرناً، وقد حدث خلالها أن كان يُبحث عن العثور على فقير ليعطوه ما يستحقه من بيت مال المسلمين، ومع ذلك فلا يجدون، في حين أن الفقراء اليوم في أغنى دول العالم يعدون بالملايين بسبب الأنظمة الاقتصادية الاشتراكية أو الرأسمالية التي سببت وتسبب شقاء الإنسان.
إن العجيب في أمر هذا الفريق أنه جهل أو تجاهل هذا النظام الاقتصادي الإسلامي العادل الذي وفر للناس حياة اقتصادية آمنة قرونا وقرونا، دون شقاء ودون استغلال…
لقد بقي هذا الفريق يحصر فكره في أن الأنظمة الاقتصادية هي اثنان، إما الاشتراكية وإما الرأسمالية، وهكذا شأنه في أي بحث اقتصادي، فإذا بحث الملكيات للمادة الاقتصادية حصرها فقط في نوعين: إما أن تملك الدولة كل شيء، فتكون ملكية دولة، وإما أن يملك القطاع الخاص كل شيء، فتكون ملكية خاصة، ولا ثالث لهما! إما أن تملك الدولة الصناعة والزراعة والتجارة، وتكون ملكية اشتراكية شيوعية، وإما أن تملك الشركات والأفراد الصناعة والزراعة والتجارة وتكون ملكية خاصة، وحرية سوق… ولا تدخُّل للدولة في الأسواق المالية!.
ولو نظر هذا الفريق وتدبر في المادة الاقتصادية لوجدها تختلف عن بعضها، فليس امتلاك المناجم في باطن الأرض من معادن وبترول وغاز كامتلاك قطعة أرض أو بيت…، وليس امتلاك مصانع البتروكيماويات أو مصانع الطاقة على أنواعها أو مصانع الأسلحة المدمرة، كامتلاك مصنع غزل ونسيج أو قضبان حديدية لتسليح سقوف المباني، أو مصنع حلويات… وليس امتلاك القطارات والـ “ترلي باص” كامتلاك السيارات…
لو نظر هذا الفريق نظرة موضوعية للنظام الاقتصادي الإسلامي لوجده في تحديده الملكيات قد أخذ في الحسبان واقع المادة الاقتصادية من حيث كيفية ملكيتها، فجعلها الإسلام ثلاثاً:
ملكية عامة يوزع دخلها على الأمة بعد خصم التكاليف، وهذه تتعلق بملكية المناجم، سواء أكانت صلبة كالمعادن، أم سائلة كالبترول، أم غازية كالغاز، ونحوها، فكل ذلك هو ملكية عامة لا يجوز للدولة ولا للأفراد أو الشركات الخاصة امتلاكها، بل هي ملكية عامة لرعية الدولة، يوزع دخلها عليهم عيناً أو خدمات بعد خصم التكاليف…
وملكية دولة تتصرف الدولة في دخلها لتنفقه على مصالحها كاستثمار الدولة في الزراعة والصناعة والتجارة مما هو ليس من الملكية العامة، أو تنفقه لإعادة التوازن بين الناس في تداول الثروة، كما هو مفصل في النظام الاقتصادي الإسلامي.
وملكية خاصة في غير ذلك، تمتلكه الشركات والأفراد في الزراعة والصناعة والتجارة مما هو ليس من الملكية العامة ولا من ملكية الدولة وفق ما هو مفصل كذلك في النظام الاقتصادي الإسلامي.
وقد حدد الإسلام هذه الملكيات تحديدا دقيقا يبهر العقول لدقته وروعته، وسأضرب مثلين على تلك الدقة والروعة:
المثل الأول: المواصلات
لقد فرق الإسلام بين المواصلات التي تسير على سكة أرضية كالقطارات، أو سلك كهربائي فوق الأرض كالـ”ترام واي” والـ”ترلي باص”… ، وبين المواصلات التي تسير على طريق أرضي أسفلتي أو نحو ذلك كالسيارات والباصات العادية…
أما القسم الأول فهو يحتجز احتجازا دائميا جزء من المرافق العامة أي من الطريق، كالسكة الحديد التي تحتجز ما تحتها من الطريق، وكالسلك الكهربائي الذي يحتجز جزء من فضاء الطريق، ولأن الطريق من المرافق العامة الواقعة تحت الملكية العامة، فاحتجاز جزء منها لا يجوز لا للدولة ولا للأفراد والشركات، بل هو ملكية عامة ويبقى كذلك، وعليه فإن القطارات والتراموايات والترلي باصات وأمثالها يجب أن تكون ملكية عامة، تشرف الدولة عليها وتوزع دخلها على أفراد الرعية بعد خصم التكاليف.
وأما الباصات والسيارات فهي تسير على طرق ليست محجوزة بشكل دائمي لها بل يستعملها الآخرون بالسير عليها… وعليه فإن الباصات والسيارات يمكن أن تمتلكها الدولة ويمكن أن يمتلكها الأفراد، أي هي جائزة للدولة وجائزة للشركات وجائزة للأفراد.
والمثل الثاني: الكهرباء
إن الكهرباء تستعمل طاقة في تشغيل المصانع، أي وقودا للمحركات… وكذلك تستعمل للإنارة.
أما استعمالها وقودا في المصانع، فإنه ينطبق علها لفظ النار في الحديث الشريف «الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار»، فالنار وما يقع تحت مدلولها من طاقة ووقود سواء أكان من حرق الخشب أم من الفحم أم من الكهرباء … كل ذلك واقع في الملكية العامة لا يجوز للدولة ولا للأفراد أو الشركات امتلاك مصادر الكهرباء المستعملة طاقة لتشغيل المصانع، بل هذه ملكية عامة تشرف الدولة عليها وتوزع دخلها على رعية الدولة بعد خصم التكاليف.
وأما استعمال الكهرباء للإنارة فهو ليس داخلاً في الملكية العامة، فلا يشمله لفظ النار، وإذن يجوز أن تمتلك الدولة أو الأفراد والشركات مصدراً كهربائياً خاصاً بالإنارة، كأن تمتلك مولداً كهربائياً لإنارة مسكن خاص بها أو مكتب خاص بها، على أن لا تمدد أسلاكها في المرافق العامة، وإلا أصبحت لهذا الاعتبار ملكية عامة.
إنني أكتفي بهذين المثالين لبيان دقة وروعة تحديد الإسلام للملكيات.
وعلى الرغم من أن هذا النظام الاقتصادي ليس نظريات فلسفية في بطون الكتب بل هو قد طبق أكبر مدة عرفها التاريخ لاستمرار نظام اقتصادي واحد، نقول على الرغم من ذلك، فإن هذا الفريق قد أغمض عينيه عنه ولم يبحث فيه.
وهكذا فإن هذا الفريق أيضاً قد فشل في علاج الأزمة لأنه حصر تفكيره في نظامين وضعيين فاشلين، وأغمض عينيه عن النظام الاقتصادي الحق، وكان حاله كمن له بصر لا يبصر به، ولو فتح عينيه لما تساءل عن البديل بل لوجد البديل أمام عينيه.
الحضور الكرام:
نعم أيها الحضور الكرام، إن النظام الاقتصادي الإسلامي في دولة الخلافة، هو وحده الذي يوفر للناس حياة اقتصادية آمنة عادلة خالية من الأزمات.
إنه النظام الذي أنزله الله رب العالمين، فهو الخالق، وهو يعلم ما يصلح مخلوقاته
{أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}، بلى إنه يعلم، جلّ وعلا شأنه.
إني أسأل الله سبحانه لمؤتمركم التوفيق والنجاح، وأن تروا من خلاله أن النظام الاقتصادي الإسلامي هو حقاً الذي يوفر الحياة الاقتصادية الآمنة العادلة الخالية من الأزمات.
والسلام عليكم