خسارة الأمة كبيرة عظيمة بفقدان خلافتها فهل من عامل مُدكر؟!
ما إن غابت شمس الخلافة عن الوجود حتى غاب الحكم بما أنزل الله وتبدل حال المسلمين من العزة والكرامة والحماية من أعدائهم إلى الذل والهوان واستباحة البلاد والحرمات… يحل علينا شهر رجب هذا العام وقد مر على إسقاط دولة الخلافة وغياب حكم الله في الأرض مائة عام هجري، تآمر على دولة الإسلام كفرة الغرب وخونة الترك والعرب ومن لف لفيفهم من المضبوعين بثقافة الأجنبي والآخذين ماله المسموم، فبمساندة من عملائهم في المنطقة أمثال مصطفى كمال وحسين بن علي، كادوا لها وعملوا على إسقاطها في حال ضعف وغفلة من المسلمين.
ولقد كانت سماء الخلافة صافية وشمسها ترسل أشعتها لتضيء للتائهين طريق النجاة، ومنارة للعالم تنشر النور والعدل بين الناس وتحافظ على حياتهم وتعمل على سعادتهم في الدارين، وما إن أسقطت حتى تلبدت السماء بالغيوم واغابت الشمس وراء الأفق فلا تكاد تسمع بعدها إلا بكاء المظلومين وآهات الحيارى وأنين اليتامى والجرحى والثكالى.
ولإدراك أعداء الإسلام حجم وخطر دولة الخلافة على حضارتهم لم تخرج الجيوش البريطانية المحتلة لمضيق البوسفور وإسطنبول إلا بعد أن اطمأنت من إسقاط دولة الخلافة، وإقامة الجُمهورية العلمانية على أنقاضها، وإخراج الخليفة من البلاد.
لقد كان هدم الخلافة بحق أعظم مصيبة حلت بالمسلمين، فبزوال خلافتهم وذهاب سلطانهم توقف العمل بكتاب الله وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام. فبعد أن كانوا يعيشون حياة إسلامية ويطبقون شرع الله في كل مناحي حياتهم وكان القرآن دستورهم كما قال عنهم ربنا عز وجل: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّه﴾ [آل عمران: 110]، تم تعطيل العمل بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم من حياة الناس، وأصبح القرآن مهجوراً، واستُبدلت بشرع الله الأحكام الوضعية التي هي من صنع البشر، وانطبق على حكام المسلمين قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ﴾ [المائدة: 44]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ [المائدة: 45]، ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [المائدة: 47]، وقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ ءَامَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالاً بَعِيداً﴾ [النساء: 60]، وبعد أن طُبِّق الإسلام ثلاثة عشر قرناً من الزمان، أصبح المسلمون اليوم يُحكَمون بأنظمة الكفر التي جرّت على المسلمين الويلات والمصائب، التي لا زالوا يعانون منها حتى الآن في هذه الدنيا، وأصبحت حالهم اليوم وقد غابت دولتهم حوالي مائة عام حالا ذليلة مزرية، غابت أحكام الإسلام عن واقع الحياة كلية وحلت مكانها أحكام الكفر وسيطرت النزعة الرأسمالية على مجتمعات المسلمين وحلت الروابط القومية والوطنية والمصلحية محل رابطة العقيدة بين أبناء الأمة، وإن الواجب على المسلمين بذل قصارى جهدهم لإعادة حكم الله في الأرض بأقصى سرعة، فالله سبحانه يقول: ﴿إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 40].
وبعد أن كان المسلمون يعيشون في بلد واحد يحكمه خليفة واحد، يتكلمون لغة واحدة، ولهم راية واحدة، وجيش واحد، وهوية واحدة، يتنقلون حيث شاءوا، لا تفصل بينهم حدود ولا سدود ولا عوائق أو جوازات سفر، ولا يربطهم إلا قول الله سبحانه: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾ [الحجرات: 10]، بعد كل ذلك مُزِّقت دولة الإسلام إلى أكثر من خمسين كياناً هزيلاً، نصب الكفار على كل كيان منها ناطوراً بل عبداً ذليلاً لهم، يحمي مصالحهم وأفكارهم وينفذ مخططاتهم الخبيثة على أبناء الأمة، وأصبحت الرابطة التي تربط المسلمين هي الرابطة الوطنية أو القومية أو المصلحية، مما زاد الفرقة والأنانية والتمزق بين أبناء الأمة الواحدة حتى نسيت قوله تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].
خسر المسلمون بعدم وجود الخلافة مكانتهم وهيبتهم بين الدول، والتاريخ يشهد أن دولة الإسلام كانت أقوى الدول في شتى المجالات، وكان لها التأثير الواضح في سياسات الدول الأخرى، فبعد أن كانت الدولة الإسلامية مهابة الجانب ذات جيش لا يقهر تتسابق الدول الكافرة لنيل رضاها وإبرام معاهدات الصلح معها، وبعد أن كان المسلمون يحققون الانتصار تلو الآخر، وكانت لهم عزة ما بعدها عزة، أصبحوا الآن وبعد تلاشي دولتهم أذل شعوب العالم وأقلها شأنا بل لم تعد لهم مكانة أصلا ناهيك عن الهيبة، فهذه بلاد المسلمين محتلة وتتوالى المصائب عليهم وكياناتُهم الهزيلة وعلى رأسها الحكام العملاء لا تحرك ساكنا، حتى صار المسلمون يتوقون لطعم الانتصار بعد الهزائم المخزية والنكسات المتكررة، وأضحت كل شعوب العالم لا تحسب للمسلمين حسابا بل وتتسابق في العدوان على أمة الإسلام الجريحة كما قال الرسول ﷺ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا فَقَالَ قَائِلٌ وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ قَالَ بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ فَقَالَ قَائِلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ قَالَ حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ»، وستبقى الحال كذلك إلا أن تهب أمة الإسلام ساعية في طريق عزتها بإقامة دولة الخلافة، خلافة ترعى شؤونهم وتعيد لهم مكانتهم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ [محمد: 7].
كانت دولة الإسلام هي الأولى في العالم في كل شيء؛ سياسياً وعسكرياً وعلمياً وحضارياً، وكانت شمس الحضارة وزهرة الدنيا تحمل النور للعالم وتبدد ظلمات الجهل وتعمل على تحرير الإنسان من ظلم الطواغيت كما وصفها رب العزة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ [آل عمران: 110]، وبعدما كانت قوية يخاطب رؤساؤها ملوك الأرض بكل عزة: “من رسول الله محمد بن عبد الله إلى كسرى الفرس، أسلم تسلم”، “من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نكفور كلب الروم”، “من المعتصم أمير المؤمنين إلى ملك الروم أطلق سراح المرأة المسلمة وإلا جئتك بجيش أوله عندك وآخره عندي”، وغيرها من مواقف الرجال الذين كانوا يقولون وينفذون، فكان للمؤمنين عزة ما بعدها عزة، ولم يكن أي شخص في الدنيا يجرؤ على المساس بأي مسلم أو حتى ذمي من أفراد الرعية، بعد كل هذا أصبحت الأمة اليوم في ذيل الأمم يتحكم في شؤونها عباد الصليب، ينهبون خيراتها ويذبحون أبناءها ويغتصبون نساءها على مرأى ومسمع من العالم ولا أحد يحرك ساكناً، والأدهى من ذلك وأمرّ أن الأمة تستجدي أمريكا وأوروبا لحل مشاكلها بدل أن تنفض عنها الذل والهوان وتسقط أذناب الاستعمار وتعيد لنفسها الهيبة والسؤدد من جديد.
فقد المسلمون السيطرة على ثرواتهم وخيراتهم بزوال الخلافة التي كانت تحكم بما أنزل الله، وتطبق النظام الاقتصادي الإسلامي وفق الأحكام الشرعية فامتلأت خزائن المسلمين بالأموال وحسن التسيير ولم تجد الزكاة مستحقيها في بعض الأحيان، وعم الخير والرخاء وبارك الله للمسلمين في ثرواتهم وخيراتهم لما طبقوا شرعه فاستغنوا وقوي اقتصادهم، وبعد أن كان خليفة المسلمين أحرص الناس على بيت مالهم يحاسب الولاة والمسؤولين، صارت حالنا اليوم بغياب الخلافة حالا يرثى لها، وأضحت أموالنا وثرواتنا تنهب وتسرق سواء من الأجانب الكفار الذين يتكالبون على ثروات المسلمين من نفط وغيره من الخامات الحيوية أو من أبناء جلدتنا الذين لا يقفون عند مسؤولياتهم وينهبون مال الأمة بدون رادع أو زاجر، وأصبحت “دول” المسلمين وشعوبهم مثالاً على الفقر المدقع والاقتصادات الهشة التابعة لدول الكفر الرأسمالية مصداقا لقوله تعالى: ﴿يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ﴾ [البقرة: 276]. فهل كان فقد المسلمين لثرواتهم وانتزاع البركة من حياتهم حتى صار الكثيرون منهم يتضورون جوعاً، إلا لغياب الإمام الجُنّة الذي يجمع شتات الأمة تحت راية الإسلام؟!!
ولقد أدرك العلماء عبر تاريخ الأمة الممتد من العهد النبوي فالراشدي إلى العهد العثماني أنهم هم من يبصّر الأمة الحق ويبعدها عن الزيغ والزلل، فهم من قرأوا وامتثلوا قول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ» وهم من قرأوا قول الحق سبحانه ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ﴾، وهم من سطّروا لنا مواقف المحاسبة وقول الحق والصدع به مهما كانت الصعاب، فمنهم الإمام أحمد بن حنبل الذي ضرب أروع الأمثلة في محاسبة الحكام حتى قال مقولته المشهورة التي تكتب بمداد من ذهب “إذا أجاب العالم تقية والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟!”، ومنهم العز بن عبد السلام بائع الملوك، ومنهم سعيد بن جبير، ومنهم أبو حازم التابعي الجليل، ومنهم ومنهم…
وإدراكاً لهذا الدور المحوري لعلماء الأمة عمد الكافر المستعمر في زماننا إلى شن حملة مقصودة بغرض حرف العلماء عن جادة الحق والصواب، واستخدم لذلك الترهيب والترغيب والتضليل، فالكافر المستعمر أدرك حقيقة أن “صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس، العلماء والأمراء”، وأدرك كذلك أن إحكام قبضته على الحكم في بلاد المسلمين عبر نواطيره لا يمكن له أن يصمد طويلاً في وجه الأعاصير والمتغيرات التي تعصف بهم، جراء فقدانهم لسند الأمة الطبيعي واعتمادهم على سند خارجي، إلا إذا سخر لهؤلاء النواطير جيشاً من العلماء والإعلاميين والكتّاب والصحفيين لكي يسبحوا بحمد السلطان صباح مساء فيضفوا بذلك مسحة الشرعية على هذه الأنظمة الغريبة عن جسم الأمة، ليتقبلها ذلك الجسد بلا مقاومة ظناً منه أنها جزء أصيل منه وما هي سوى مرض عضال يسري في عروقه، ففقدت الأمة بذلك العلماء الربانيين الذين يقولون كلمة الحق ولا يخشون إلا الله وحده.
ورغم هذا وذاك فإن في الأمة علماء أتقياء أنقياء، علماء عاملين مخلصين، أخذوا على عاتقهم إنقاذ أمتهم مما تعانيه والسير بها نحو العلا قدماً، عبر العمل الجاد لإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة وإن كانوا على خطر عظيم، لذا كان على الأمة أن تميز بين علمائها وبين أدعياء العلم فيها، وأن تميز بين من يسعى لنهضتها وسؤددها ومن يسعى لتكريس واقع الذلة والمهانة فيها، وإنا على موعد قريب – بإذن الله – مع عودة دولة الخلافة الراشدة الثانية فيعود الحكم بما أنزل الله وتعود العزة والكرامة والوقاية من العدو ويعود العلماء الربانيون الذين يقولون كلمة الحق لا يخشون إلا الله وما ذلك على الله بعزيز.