العوامل التي أدت إلى هدم الخلافة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْتَفِعَ شَيْءٌ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا وَضَعَهُ».
بنى الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم دولة الإسلام التي عز فيها الإسلام وأهله، واستمر هذا المركب يخوض البحار تلو البحار لما يقارب من ألف وثلاثمئة عام حتى أتاها ما أتى الدول من قبلها فأُسقطت وانتهى أمرها من هذا الوجود.
الملاحظ في وجود الدولة الإسلامية أنها تعرضت للكثير من الأهوال والهزائم العسكرية في تاريخها الطويل لكنها بقيت صامدة صمود الجبال الراسيات حتى جاء العصر الحديث الذي شهد انتهاء وجودها.
ولم يكن هدم الخلافة بسبب عوامل خارجية (عسكرية) فقط بل السبب الحقيقي كان العوامل الداخلية التي نهشت جسدها فكانت تنخرها من الداخل حتى وصلت إلى نقطة اللاعودة. ثم جاءت العوامل الخارجية لتجد أمامها الأرض ممهدة لإنهاء الوجود السياسي للمسلمين والمتمثل بدولة الخلافة العثمانية في ذلك الوقت.
ولو استعرضنا العوامل الداخلية التي أضعفت الدولة لوجدنا هناك الكثير منها، لذا سنتطرق إلى أبرزها، وسردُنا للأسباب هو لمعرفة الداء لنضع له الدواء عند قيام الخلافة الثانية إن شاء الله تعالى عاجلا غير آجل.
كان المسمار الأول في نعش الخلافة هو تحويل مبدأ الشورى في اختيار الخليفة إلى مبدأ الأقوى والأكثر إيثارا لنفسه وأبنائه على من سواهم من المسلمين، وقد بدأت هذه المرحلة بصعود معاوية بن أبي سفيان لسدة الحكم بالقوة والخديعة بعد تحكيم الحكمين ومن ثم زاد الطين بلة حين نصب ابنه رغما عن الناس كولي للعهد مما أدى بعد ذلك إلى قتل سيد شباب أهل الجنة سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما، ومن ثم استباحة المدينة المنورة واستباحة أهلها وقتلهم في وقعة الحرة الشهيرة وبعدها حصار مكة ورجم الكعبة بالمنجنيق!
أما المسمار الثاني فكان استقلال الولاة بولاياتهم بعد ضعف مركز الخلافة في بغداد عن إدارة الدولة من شرقها إلى غربها، فكانت الأندلس أول إقليم استقل عن حكم مركز الخلافة ثم تبعتها ولاية تتلوها ولاية حتى أصبحت الدولة مزقاً كثيرة يسهل على الأعداء التهامها واحدة بعد أخرى.
المسمار الثالث كان سكوت العلماء عما يجري على أرض الواقع – إلا من رحم ربي – فكانوا يرون ضعف السلطان وضعف الدولة وتمزق المسلمين شذر مذر ولم يسعوا من أجل توحيد البلاد والعباد بل كان الكثير منهم إما يسيرون في ركب الحكام ويفتون لهم بما يسرهم حتى لو كانت فتنة في دين المسلمين (فتنة خلق القرآن)، أو مسجوناً بلا حول ولا قوة، أو تاركاً لشؤون السياسة ومنشغلاً بعلمه وطلبته.
المسمار الرابع ركون الحكام إلى حياة اللهو والترف وترك شؤون الحرب والجهاد ونشر الإسلام في ربوع العالم، وهذا أدى إلى تدخل قادة الجيوش في الشؤون السياسية وشاركوا في عشرات العمليات التي أدت إلى سقوط وقتل الخلفاء والولاة مما أدى أيضا إلى ضعف الدرع الحامي لدولة الإسلام لانشغال قادة الجيوش بالمكتسبات الدنيوية.
المسمار الخامس مرتبط بالسبب الأول؛ فحين تم احتكار السلطة في يد عائلة معينة وانتقالها من الأب إلى الابن أو إلى الأخ أو إلى ابن العم لم يعد هنالك وسط سياسي مؤثر في محاسبة الحكام وإيقافهم عند حدهم لتصحيح المسار مما اضطر المسلمين لاستعمال طريقة التمرد على الدولة بالقوة العسكرية، فانشغلت الدولة وانشغل الحكام بإخماد هذه الحركات فنجحوا أحيانا وفشلوا في أحيان أخرى، فكانت جهود جيش المسلمين تفرغ في داخل الدولة بدلا عن تفريغه لأعداء المسلمين في خارج حدود الخلافة.
المسمار السادس كان الجمود الفكري الذي أصاب علماء المسلمين بعد ترجمة الكتب الفلسفية اليونانية والفارسية وغيرها وانشغالهم بنقاشات فكرية عميقة لا تسمن ولا تغني من جوع، ولم يأمرهم الشرع بالبحث فيها أو مناقشتها حتى مع النفس، وهذا أدى إلى اتهام هؤلاء العلماء للمخالفين لهم بالجهل وقلة العلم وأحيانا بالتكفير والخروج عن الملة!
وهذا بدوره أدى إلى جمود فكري خطير جعل العلماء يتفقون على إغلاق باب الاجتهاد والبقاء على ما اجتهد به العلماء في خير القرون، مما جعل الأمة تتخلف بشكل خطير عن مواكبة التطور الذي بدأ يدب بشكل عام في العالم الإسلامي والعالم الغربي على حد سواء، فلم يعرفوا كيف يتصرفون أمام هذه المعضلات.
المسمار السابع إلزام الحكام لرعيتهم بالسير خلف رأي اجتهادي واحد كإلزام الأيوبيين لرعيتهم بالسير خلف اجتهادات الإمام الشافعي وكذلك فعل العثمانيون بالمذهب الحنفي وهذا أدى إلى جمود الحركة الفقهية بشكل عام.
المسمار الثامن كان السماح بدخول السفارات الغربية المعادية للمسلمين إلى داخل الدولة الإسلامية والمكوث بداخلها، وكان العمل الرئيسي لهم هو التجسس على المسلمين وإيجاد نقاط ضعفهم ومن ثم إدخال الجمعيات تحت مختلف التسميات ومختلف التوجهات ومختلف الدول للدخول إلى الحياة العامة للمسلمين ومن ثم العمل على تشكيكهم بدينهم، وكذلك إيجاد بعض المسلمين من أجل أن يعملوا تحت إدارتهم وبتوجيهاتهم (جواسيس وطابور خامس).
المسمار التاسع إرسال أبناء المسلمين غير المؤهلين عقائديا وفقهيا كطلاب إلى جامعات الغرب، فتأثروا بما شاهدوه فضعف إيمانهم الضعيف أصلا، ثم نقلوا كل نجاسات الغرب وتفاهاتهم بالتدريج إلى بلاد المسلمين وبمساعدة بعض الحكام كمحمد علي والي مصر وبعض المتنفذين في بلاط السلطان العثماني.
المسمار العاشر نجاح السفارات والجمعيات الغربية بعد سنوات من العمل الخفي من إدخال الفكر القومي النتن إلى عقول أبناء المسلمين، فأصبحت كل واحدة من هذه القوميات تبحث عن ذاتها فقط دون بقية أبناء أمتها فظهرت الأنانية وحب الذات واحتقار الغير لمجرد اختلافهم في نطق الكلمات التي هي مجرد وسيلة للتفاهم لا غير بين أبناء هذه اللغة أو تلك!
وأعطى هذا الواقع لهم الحق في “التعاون مع الكفار” لقتال إخوانهم في الدين والعقيدة ظنا منهم أن هذا الكافر سيعطيهم بعد ذلك ما يشتهون، لكن هيهات هيهات فمن كذب على الله ألن يكذب على هؤلاء التافهين السطحيين الحمقى؟!
إن الأسباب التي أدت إلى هدم الخلافة داخليا أكثر مما ذكرناه في هذه المقالة لكن ربما كانت هذه الأكثر بروزا وتأثيرا على مجريات الطريق الحتمي لهدم الخلافة، وما بقاء الدولة الإسلامية الأولى لمدة ألف وثلاثمئة عام إلا بسبب قوة العقيدة الإسلامية في نفوس عموم أبناء المسلمين، وبذور هذه العقيدة لا زالت باقية في نفوسهم إن شاء الله تعالى مع ما فيها من دخن وتشويه للإسلام من جميع أعداء الإسلام والمسلمين، فهم لا يتوقفون ليلا ونهارا من تشويه الإسلام وإبراز المسلمين على أنهم مجرد سقط من المتاع لا قيمة ولا وزن لهم وإن غابوا عن الحياة فلن يحس بهم أحد ولن يتأثر بغيابهم أحد! يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾.
ولا زلنا نعتمد على نصر الله وبقوة العقيدة في نفوس المسلمين من أجل إعادة بناء دولة الخلافة الثانية التي ستكون بإذن الله السفينة التي ستنقذ جميع المسلمين بل والإنسانية جمعاء مما هم فيه من ذل وهوان تحت سياط الرأسمالية العفنة.
يقول تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، اللهم هيئ لهذه الأمة من أمرها رشدا…