الخلافة في ذكرى هدمها: ماذا قال علماء الأمة الأفذاذ عن الخلافة؟
سنتطرق لقضية مصيرية يجب اتخاذ إجراء الحياة أو الموت تجاهها، وهذه القضية هي جماع القضايا المصيرية كلها. لقد أدرك المسلمون الأوائل هذه القضية المصيرية فعاشوا في عزة وكرامة وإرضاء للخالق الباري، وعندما غفل المسلمون عن هذه القضية المصيرية تقهقروا وأصبحوا في ذيل الأمم.
هذه القضية هي إعادة الحكم بما أنزل الله، واستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة على منهاج النبوة، فيجب أن يدرك المسلمون اليوم هذه القضية إدراكاً يصل إلى النفوس والأجواء العامة حتى يكون إدراكاً دافعاً أربابه للقيام بما تستوجبه القضايا المصيرية من إجراء الحياة أو الموت.
وسنقف مع أقوال علماء الأمة الأفذاذ في ما سطروه في كتبهم حول الخلافة بالرغم من أنهم عاشوا في ظل الخلافة مدة ثلاثة عشر قرناً، ولم يتصوروا يوماً أن يعيشوا بدونها، كانوا يحيون تحت سلطان الخليفة ولم يفقدوا هذه النعمة ولم يحسوا بمرارة زوالها، فكيف بهم إذا شهدوا هدم دولتهم هل سيقفون مكتوفي الأيدي أم سيصلون ليلهم بنهارهم لاستنهاض همم الرجال الرجال لإعادتها من جديد ويكونوا في مقدمة العاملين؟
فلتكن أقوال العلماء السابقين اليوم نبراساً لشباب المسلمين وعلماء المسلمين، ليقتدوا بهم، وقبل هذا وذاك يستجيبوا لداعي الله الذي أمرهم في كتابه وسنة رسوله بالاحتكام لشريعته؛ فالآيات والأحاديث التي توجب الحكم بما أنزل الله كثيرة مستفيضة لمن أراد أن ينقذ نفسه من إثم القعود عن تحكيم قوانين البشر بدل شريعة رب البشر.
ولكي ندرك أهمية هذا الفرض لدى علماء الأمة السابقين، لنقم بجولة خاطفة في بعض من كتبهم القيمة:
1- الإمام النووي: الخليفة يحمي بيضة الإسلام: يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عند شرحه لحديث الرسول ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ»: “قوله ﷺ: الإمام جنة، أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. ومعنى: يقاتل من ورائه، أي يقاتلُ معه الكفار والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقاً”.
2- الماوردي: الخلافة حراسةٌ للدين وسياسيةٌ للدنيا: يقول الإمام الماوردي في كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية: “أما بعد فإن الله جلت قدرته ندب للأمة زعيماً خلف به النبوة، وحاط به الملة، وفوَّض إليه السياسة، ليصدر التدبير عن دين مشروع، وتجتمع الكلمة على رأي متبوع، فكانت الإمامة أصلاً عليه استقرت قواعد الملة، وانتظمت به مصالح الأمة… الإمامة موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع، وإن شذ عنهم الأصم”.
3- القرطبي: قوام المسلمين بتنصيب خليفة وهو ركن من أركان الدين لا ينكره إلا الأصم: يقول الإمام القرطبي في تفسيره “الجامع لأحكام القرآن” عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، “هذه الآية أصلٌ في نصب إمام وخليفة يسمع له ويطاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة. ولا خلاف في وجوب ذلك بين الأمة ولا بين الأئمة إلا ما روي عن الأصم حيث كان عن الشريعة أصم، وكذلك كل من قال بقوله واتبعه على رأيه ومذهبه، قال: “إنها غير واجبة في الدين بل يسوغ ذلك، وأن الأمة حتى أقاموا حجهم وجهادهم وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحق من أنفسهم، وقسموا الغنائم والفيء والصدقات على أهلها وأقاموا الحدود على من وجبت عليه أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولى ذلك”.”.
4- ابن كثير: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب: جاء في “تفسير القرآن العظيم” لابن كثير عند تفسير قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً﴾: “وقد استدل القرطبي بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.
5- قال أبو المعالي الجويني في (غياث الأمم): “الإمامة: رياسة عامة، وزعامة تامة، تتعلق بالخاصة والعامة في مهمات الدين والدنيا، متضمنها حفظ الحوزة ورعاية الرعية، وإقامة الدعوة بالحجة والسيف، وكف الجنف والحيف، والانتصاف للمظلومين من الظالمين، واستيفاء الحقوق من الممتنعين وإيفاؤها على المستحقين… فإذا تقرر وجوب نصب الإمام فالذي صار إليه جماهير الأئمة أن وجوب النصب مستفاد من الشرع المنقول…”.
6- وقال ابن حجر العسقلاني في (فتح الباري): “وقال النووي وغيره: أجمعوا على انعقاد الخلافة بالاستخلاف وعلى انعقادها بعقد أهل الحل والعقد لإنسان حيث لا يكون هناك استخلاف غيره وعلى جواز جعل الخليفة الأمر شورى بين عدد محصور أو غيره وأجمعوا على أنه يجب نصب خليفة وعلى أن وجوبه بالشرع لا بالعقل”.
7- وقال ابن حجر الهيثمي في (الصواعق المحرقة): “اعلم أيضا أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على أن نصب الإمام بعد انقراض زمن النبوة واجب بل جعلوه أهم الواجبات حيث اشتغلوا به عن دفن رسول الله ﷺ”.
8- وقال ابن خلدون في (المقدمة): “إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين؛ لأن أصحاب رسول الله ﷺ عند وفاته بادروا إلى بيعة أبي بكر رضي الله عنه وتسليم النظر إليه في أمورهم، وكذا في كل عصر من بعد ذلك ولم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، واستقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الإمام”.
9- وقال النسفي في (العقائد): “والمسلمون لا بد لهم من إمام يقوم بتنفيذ أحكامهم وإقامة حدودهم وسدّ ثغورهم وتجهيز جيوشهم وأخذ صدقاتهم وقهر المتغلبة المتلصصة وقطاع الطريق وإقامة الجمع والأعياد وقبول الشهادات القائمة على الحقوق وتزويج الصغار والصغيرات الذين لا أولياء لهم وقسمة الغنائم”.
10- وقال ابن تيمية في (السياسة الشرعية): “يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا قيام للدين إلا بها. فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس حتى قال النبي ﷺ: «إِذَا خَرَجَ ثَلَاثَةٌ فِي سَفَرٍ فَلْيُؤَمِّرُوا أَحَدَهُمْ» رواه أبو داود من حديث أبي سعيد وأبي هريرة … ولأنّ الله تعالى أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يتمّ ذلك إلا بقوة وإمارة”.
11- وقال الشوكاني في (السيل الجرار): “فصل يجب على المسلمين نصب إمام: أقول قد أطال أهل العلم الكلام على هذه المسألة في الأصول والفروع واختلفوا في وجوب نصب الإمام هل هو قطعي أو ظني وهل هو شرعي فقط أو شرعي وعقلي، وجاءوا بحجج ساقطة وأدلة خارجة عن محل النزاع. والحاصل أنهم أطالوا في غير طائل، ويغني عن هذا كله أن هذه الإمامة قد ثبت عن رسول الله ﷺ الإرشاد إليها والإشارة إلى منصبها كما في قوله الْأَئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ وثبت كتابا وسنة الأمر بطاعة الأئمة ثم أرشد ﷺ إلى الاستنان بسنة الخلفاء الراشدين فقال عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ وهو حديث صحيح، وكذلك قوله الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ يَكُونُ مُلْكًا عَضُوضًا، ووقعت منه الإشارة إلى من سيقوم بعده، ثم إن الصحابة لما مات رسول الله ﷺ قدموا أمر الإمامة ومبايعة الإمام على كل شيء، حتى إنهم اشتغلوا بذلك عن تجهيزه ﷺ، ثم لما مات أبو بكر عهد إلى عمر، ثم عهد عمر إلى النفر المعروفين، ثم لما قتل عثمان بايعوا عليا وبعده الحسن، ثم استمر المسلمون على هذه الطريقة، حيث كان السلطان واحدا وأمر الأمة مجتمعا. ثم لما اتسعت أقطار الإسلام ووقع الاختلاف بين أهله واستولى على كل قطر من الأقطار سلطان اتفق أهله على أنه إذا مات بادروا بنصب من يقوم مقامه، وهذا معلوم لا يخالف فيه أحد، بل هو إجماع المسلمين أجمعين منذ قبض رسول الله ﷺ إلى هذه الغاية. فما هو مرتبط بالسلطان من مصالح الدين والدنيا ولو لم يكن منها إلا جمعهم على جهاد عدوهم وتأمين سبلهم وإنصاف مظلومهم من ظالمه وأمرهم بما أمرهم الله به ونهيهم عما نهاهم الله عنه ونشر السنن وإماتة البدع وإقامة حدود الله، فمشروعية نصب السلطان هي من هذه الحيثية، ودع عنك ما وقع في المسألة من الخبط والخلط والدعاوي الطويلة العريضة التي لا مستند لها إلا مجرد القيل والقال أو الاتكال على الخيال الذي هو كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا. ثم من أعظم الأدلة على وجوب نصب الأئمة وبذل البيعة لهم ما أخرجه أحمد والترمذي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحه من حديث الحارث الأشعري بلفظ مَنْ مَاتَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ إِمَامُ جَمَاعَةٍ، فَإِنَّ مَوْتَتَهُ مَوْتَةٌ جَاهِلِيَّةٌ ورواه الحاكم من حديث ابن عمر ومن حديث معاوية ورواه البزار من حديث ابن عباس”.
12- وقال الشيخ الطاهر بن عاشور في (أصول النظام الاجتماعي في الإسلام): “فإقامة حكومة عامة وخاصة للمسلمين أصل من أصول التشريع الإسلامي، ثبت ذلك بدلائل كثيرة من الكتاب والسنة بلغت مبلغ التواتر المعنوي. مما دعا الصحابة بعد وفاة النبي ﷺ إلى الإسراع بالتجمع والتفاوض لإقامة خلف عن الرسول في رعاية الأمة الإسلامية، فأجمع المهاجرون والأنصار يوم السقيفة على إقامة أبي بكر الصديق خليفة عن رسول الله للمسلمين. ولم يختلف المسلمون بعد ذلك في وجوب إقامة خليفة إلا شذوذا لا يعبأ بهم من بعض الخوارج وبعض المعتزلة نقضوا الإجماع فلم تلتفت لهم الأبصار ولم تصغ لهم الأسماع. ولمكانة الخلافة في أصول الشريعة ألحقها علماء أصول الدين بمسائله، فكان من أبوابه الإمامة. قال إمام الحرمين (أبو المعالي الجويني) في الإرشاد: “الكلام في الإمامة ليس من أصول الاعتقاد، والخطر على من يزل فيه يربى على الخطر على من يجهل أصلا من أصول الدين”.”.
13- وقال الجزيري في (الفقه على المذاهب الأربعة): “اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن الإمامة فرض وأنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين وينصف المظلومين من الظالمين وعلى أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان ولا مفترقان”.
هذا ما ذكره بعض من علماء هذه الأمة في مكانة الخلافة والخليفة في الشرع الإسلامي، فهلم يا أبناء خير أمة أخرجت للناس لإعادتها من جديد لتنالوا عز الدنيا والآخرة، فحزب التحرير يعمل بينكم ومعكم فالحقوا بالركب، والله نسأل أن يعجل بنصره للأمة الإسلامية فتعود دولة الخلافة على منهاج النبوة.