المادة -19-
المادة 19 – لا يجوز أن يتولى الحكم أو أي عمل يعتبر من الحكم إلا رجل حرّ، بالغ، عاقل، عدل، قادر من أهل الكفاية، ولا يجوز أن يكون إلا مسلماً.
إن الله تعالى نهى نهياً جازماً عن أن يكون الكافر حاكماً على المسلمين، قال الله تعالى: ((وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)) [النساء] وجعل الكافر حاكماً على المسلم هو جعل سبيل له عليه، وقد نفى الله ذلك نفياً قاطعاً باستعماله حرف “لن” وهو قرينة على أن النهي عن أن يكون للكافر سبيل على المسلمين، أي عن أن يكون الكافر حاكماً على المسلمين هو نهي جازم، فهو يفيد التحريم، وأيضاً فإن الله اشترط في الشاهد على الرجعة أن يكون مسلماً قال تعالى: ((فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)) [الطلاق 2] ومفهومه لا من غيركم، واشترط في الشاهد في الدين أن يكون مسلماً قال تعالى: ((وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ)) [البقرة 282] أي لا من رجال غيركم. وإذا كان مثل هذا الشاهد في هذين الأمرين اشترط الشرع فيه أن يكون مسلماً، فمن باب أولى أنه يشترط في الحاكم أن يكون مسلماً، وأيضاً فإن الحكم هو تنفيذ أحكام الشرع، وتنفيذ أحكام القضاة، وهم مأمورون أن يحكموا بالشرع، وهو يقتضي أن يكون المنفذ مسلماً، لأنه يؤمن بما ينفذ، والكافر لا يؤتمن على تنفيذ الإسلام، ولذلك اشترط أن يكون مسلماً، وأيضاً فإن الحكام هم أولو الأمر والله تعالى حين أمر بالطاعة لأولي الأمر، وحين أمر برد الأمر من الأمن أو الخوف إلى أولي الأمر، اشترط أن يكون ولي الأمر مسلماً. فقال تعالى:((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء 59] وقال: ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ)) [النساء 83]. فقال: “منكم” أي لا من غيركم وقال: “منهم” أي لا من غيرهم. مما يدل على أن ولي الأمر يشترط فيه أن يكون مسلماً. ولم ترد في القرآن كلمة ولي الأمر إلا مقرونة بأن يكون من المسلمين، مما يؤكد اشتراط أن يكون الحاكم مسلماً، وأيضاً فإن الحاكم له على المسلمين الطاعة، والمسلم غير مكلف بطاعة الكافر، لأن تكليفه إنما ورد بطاعة ولي الأمر المسلم قال تعالى: ((أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ)) [النساء 59] فأمر بطاعة أولي الأمر من المسلمين، ولم يأمر بطاعة غيرهم مما يدل على عدم وجوب طاعة ولي الأمر الكافر، ولا حاكم دون طاعة. ولا يقال إن المسلم مكلف بطاعة مدير الدائرة الكافر لأن مدير الدائرة ليس ولي أمر بل هو موظف أي أجير، فطاعته تأتي من أمر ولي الأمر بطاعة مدير الدائرة، والكلام هو في ولي الأمر لا في الأجير. ولهذا لا يصح أن يكون ولي الأمر على المسلمين إلا مسلماً ولا يصح أن يكون كافراً، فلا يجوز أن يكون الحاكم كافراً مطلقاً.
وأما شرط أن يكون الحاكم رجلاً فلما روي عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» أخرجه البخاري فإخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بنفي الفلاح عمن يولون أمرهم امرأة نهي عن توليتها، إذ هو من صيغ الطلب. وكون هذا الإخبار جاء إخباراً بالذم فإنه يكون قرينة على أن النهي نهي جازم، فتكون تولية المرأة الحكم حراماً، ومن هنا كان شرطاً من شروط تولية الحاكم.
وأما اشتراط أن يكون الحاكم عدلاً فلأن الله تعالى اشترط في الشاهد أن يكون عدلاً، قال تعالى: ((وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ)) [الطلاق 2] فمن هو أعظم من الشاهد وهو الحاكم من باب أولى يلزم أن يكون عدلاً، لأنه إذا شرطت العدالة للشاهد فشرطها للحاكم أولى.
وأمـا شـرط أن يكـون حـراً فـلأن الـعـبـد لا يملك التصرف بنفسه فـلا يمـلك أن يرعى شؤون غيره. ثم إن العبودية تقتضي أن يكون وقت العبد ملكاً لسيده.
أما شرط أن يكون بالغاً، فلأنه لا يجوز أن يكون صبياً، لما روى أبو داود عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْـتَـيْقِظَ، وَعَنِ الْمَعْـتُوهِ حَتَّى يَبْرَأَ». وله رواية أخرى بلفظ: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ: عَنِ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَقْلِهِ حَتَّى يَفِيقَ، وَعَنِ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنِ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ»، ومن رفع القلم عنه لا يصح أن يتصرف في أمره، وهو غير مكلف شرعاً، فلا يصح أن يكون خليفة، أو ما دون ذلك من الحكم، لأنه لا يملك التصرفات. والدليل أيضاً على عدم جواز كون الخليفة صبياً ما روى البخاري: «عن أَبي عَقِيلٍ زُهْرَةَ بْنِ مَعْبَدٍ عَنْ جَدِّهِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ هِشَامٍ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَتْ بِهِ أُمُّهُ زَيْنَبُ بِنْتُ حُمَيْدٍ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، بَايِعْهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هُوَ صَغِيرٌ. فَمَسَحَ رَأْسَهُ وَدَعَا لَهُ …». فإذا كانت بيعة الصبي غير معـتبرة، وأنه ليس عليه أن يبـايع غـيره خليفة، فمن باب أولى أنه لا يجوز أن يكون خليفة.
وأما شرط أن يكون عاقلاً فلأنه لا يصح أن يكون مجنوناً؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلاَثَةٍ»، وذكر منها: «الْمَجْـنُونِ الْمَغْلُوبِ عَلَى عَـقْلِهِ حَـتَّى يَفِيقَ». ومن رُفع عنه القلم فهو غير مكلف؛ لأن العقل منـاط التكـلـيف، وشـرط لصـحـة التصـرفـات. والخليفة إنما يقوم بتصرفات الحكم، وبتنفيذ التكاليف الشرعية، فلا يصح أن يكون مجنوناً؛ لأن المجنون لا يصح أن يتصرف في أمر نفسه، ومن باب أولى لا يصح أن يتصرف في أمور الناس.
أما شرط أن يكون قادراً من أهل الكفاية فلأن ذلك من مقتضى البيعة في حق الخليفة، ومن مقتضى عقد التولية في غير الخليفة من المعاونين والولاة والعمال، إذ إن العاجز لا يقدر على القيام بشؤون الرعية بالكتاب والسنة اللذين بويع عليهما أو وفق عقد التولية الذي ولي به.
ومن الأدلة على ذلك:
1 – أخرج مسلم من طريق أبي ذر رضي الله عنه قال: «قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلا تَسْتَعْمِلُنِي؟ قَالَ: فَضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى مَنْكِبِي ثُمَّ قَالَ: يَا أَبَا ذَرٍّ، إِنَّكَ ضَعِيفٌ، وَإِنَّهَا أَمَانَةُ، وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا».
فهي تبين الأمر بأخذها بحقها وأداء الذي عليه فيها أي أن يكون أهلاً لها، والقرينة تفيد الجزم لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال فيمن يأخذها وهو ليس أهلاً لها: «وَإِنَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ خِزْيٌ وَنَدَامَةٌ، إِلاَّ مَنْ أَخَذَهَا …».
2 – أخرج البخاري من طريق أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إِذَا ضُيِّعَتِ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إِذَا أُسْنِدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرِ السَّاعَةَ».
فالحديث كذلك يفيد النهي الجازم عن أن توضع الولاية لمن ليس لها أهلاً. والقرينة الجازمة هي أن ذلك يعني تضييعاً للأمانة وأنها من علامات الساعة للدلالة على عظم تحريم تولية من ليس أهلاً.
أما كيف تحدَّد (الكفاية) فهي تحتاج إلى تحقيق مناط لأنها قد تكون تتعلق بمرض جسماني أو بمرض فكري أو …، ولذلك يترك تحديدها إلى محكمة المظالم فهي التي تقرر مثلاً توفر شروط الانعقاد في المرشَّحين للخـلافة.