بإقامة الخلافة على منهاج النبوة يتحقق التمكين للإسلام والمسلمين
لا يختلف شخصان على الحالة البائسة التي وصل إليها المسلمون، كما لا يختلفان في أن الواقع يحتاج إلى تغيير وأن الطريق إلى التغيير والنهوض يبدأ بالوعي والفكر والتفكير بحال الأمة كيف كانت أمة ناهضة ذات حضارة عريقة امتدت عبر التاريخ الإنساني، وكيف انحدرت الآن إلى هذا الحال البئيس، وما هي الأسباب التي أدت بها إلى هذا الدرك.
إننا نعلم أن كل أمة في الدنيا وكل شعب على وجه الأرض تحتم عليه غريزة البقاء أن تكون له قضايا مصيرية يبذل عندها دمه عن رضا دون أدنى تردد. وهذه القضايا هي القضايا المتعلقة بإزهاق الروح والمحافظة عليها أو بإزالة شعب من الوجود والمحافظة على بقائه، وهي واحدة أو تكاد تكون واحدة عند الناس جميعاً، والإجراءات المتخذة فيها كذلك واحدة عند الناس جميعاً أو متقاربة جداً.
وقد جاء الإسلام وبين للناس القضايا المصيرية وجعل اتخاذ إجراء الحياة أو الموت تجاهها فرضاً لازماً، ولهذا فلا خيار للمسلمين في تحديد قضاياهم المصيرية. والإسلام حين حدد القضايا المصيرية حدد ما يجب على المسلمين من إجراء تجاهها بأنه إجراء الحياة أو الموت فمن ذلك أن الإسلام جعل وحدة الأمة ووحدة الدولة من القضايا المصيرية وجعل الإجراء الذي يتخذ تجاهها هو إجراء الحياة أو الموت، ويتجلى ذلك في مسألتين: إحداهما قضية تعدد الخلفاء، والثانية قضية البغاة. فقد روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: «وَمَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ، فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الْآخَرِ»، وعن أبي سعيد الخدري عن رسول الله ﷺ أنه قال: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا»، فجعل وحدة الدولة قضية مصيرية حين منع تعدد الخلفاء. واليوم الأمة مجزأة إلى دويلات تحكم جميعها بغير ما أنزل الله، فكانت قضية المسلمين المصيرية اليوم هي إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله.
وهكذا فإن المطلوب اليوم من الأمة الإسلامية هو أن تجعل قضية إقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله قضية مصيرية لها وأن تتخذ حيالها إجراء الحياة أو الموت. وهكذا كان حزب التحرير وما يزال يعمل في الأمة ومعها لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة والحكم بما أنزل الله، وقد سار على الطريق نفسه الذي سار فيه الحبيب محمد ﷺ وجعل هذه القضية قضية مصيرية يبذل في سبيلها المهج والأرواح، وهو وبحمد الله وتوفيقه قد أكمل الطريق ووصل إلى نقطة استلام الحكم عن طريق النصرة من أهل القوة والمنعة باعتبار أن النصرة هي الطريقة الشرعية الوحيدة لاستلام الحكم وإقامة الخلافة وتطبيق أحكام الإسلام في الأرض وحمل الإسلام بالدعوة والجهاد إلى العالم، وليس هي مجرد عمل سياسي ناتج عن فهم دقيق للحقائق، وإنما هو حكم شرعي دل عليه عمل النبي ﷺ. ومما يدل على أن طلب النصرة هو السبيل الشرعي الوحيد لاستلام الحكم وإقامة الخلافة هو قيام النبي ﷺ به واستمراره في ذلك وعدم الحيد عنه إلى أي طريق آخر رغم ما كان يلقاه فيه من صد ورد، ورغم أن كل السبل الدنيوية المنظورة قد سدت في وجهه ﷺ.
ويخبرنا النبي ﷺ عندما أمره الله تعالى بطلب النصرة وما كان يلقاه من الناس ومن الذين يطلب منهم النصرة. وما يؤكد أن طلب النصرة كان لإقامة سلطان للإسلام ما ورد في سيرة ابن هشام والسيرة الحلبية وتاريخ الطبري عندما فاوض رسول الله ﷺ أشراف بني عامر بن صعصعة حيث قال أحدهم: “جاءنا فتى من قريش يزعم أنه نبي يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا”، وقال المفاوض من بني صعصعة: “أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «الأَمْرُ إِلَى اللهِ يَضَعُهُ حَيْثُ يَشَاءُ»، فقال له: “أنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه”. وهذا يدل على طلب النصرة كما يدل على عدم قبول النصرة المشروطة. هذه الحادثة لم تكن الوحيدة بل هنالك عشرات الحوادث عن طلب النبي ﷺ للنصرة إلا أنها لم تؤت ثمارها إلا تلك التي كانت من أهل يثرب من الأوس والخزرج الذين أكرمهم الله بأن يكونوا أنصار رسول الله ﷺ.
قد يقول قائل ما الذي يمنع حزب التحرير من بناء قوة عسكرية ليهزموا الباطل ويقيموا الدولة؟ والإجابة عن ذلك: أولاً: هي طريقة مخالفة لطريقة رسول الله ﷺ الذي علمنا كيف نصلي «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وعلمنا كيف نحج «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ»، وهو أيضاً علمنا كيف نقيم سلطان الإسلام في الأرض؛ فقد قام بخطوات عملية التزم بها ولم يقم بغيرها حتى أقام الدولة. وثانياً: هنالك واقعياً حركات حملت السلاح من أجل إزالة الباطل وإقامة دولة الإسلام ورأينا كيف كان مصيرها، فهذه الطريقة غير ممكنة في أرض الواقع، فالمال والسلاح والعسكر والإعلام والأدوات والأجهزة هي كلها بأيدي دولة الباطل. ثم إن هذا الصراع المادي العسكري يجعل حملة الدعوة بحاجة إلى مدد مالي وعسكري وفني، والحصول على ذلك يرهن من يقوم به لمن يقدم له يد العون ويفتح طريق الشيطان للتبريرات ويحرك العملاء والمنافقين المتظاهرين بالتدين ليقدموا مثل هذا العون فتقع الدعوة في شراك الكفر، ولنا في رسول الله ﷺ أسوة حسنة؛ فهو طوال فترة صراعه مع المشركين في مكة حيث كانت السلطة بيد زعماء الكفر نراه لم يقم بأي عمل مادي وإنما التزم بالصراع الفكري والكفاح السياسي.
وهذه الطريقة أي طلب النصرة لا تعتمد على مستحيل أو معجزات ولا على أدوات ووسائل غير متوفرة فهي حل عملي وسبيل فعال للوصول إلى الغاية؛ ولذلك سيظل حزب التحرير يعمل في الأمة ومعها، وبخاصة العلماء والمفكرين والسياسيين والإعلاميين وأهل الرأي، كل في موقعه بجعل إقامة الخلافة على منهاج النبوة غاية يعمل لها الجميع، باعتبارهم مسلمين مأمورين بهذا الفرض العظيم، كما سيظل حزب التحرير يطلب النصرة من أهل القوة والمنعة وبخاصة جيوش المسلمين فهم أبناء هذه الأمة يشعرون بآلامها ويحسون بواقعها الأليم الذي وصلت إليه عبر حكام عملاء ارتضوا أن يكونوا خدماً للغرب الكافر المستعمر، ينفذون مؤامراته في بلاد المسلمين، فلولا هذه الجيوش التي تحمي هذه العروش المهترئة لما بقي حاكم واحد في بلاد المسلمين في حكمه؛ ولذلك نتوجه إلى القادة والضباط والجنود في جيوش المسلمين: إن أشرف مهمة هي نصرة هذا الدين وإنها لشرف عظيم تنالونه في الدنيا والآخرة، فإن الأمة تنتظركم أن تنصروا دينكم بنصرة العاملين للخلافة بنصرة حزب التحرير، نصرة تعيد الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة بعد هذا الملك الجبري الذي نحن فيه، تحقيقاً لوعد الله سبحانه القائل: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾، ولبشرى رسول الله ﷺ بعد هذا الملك الجبري؛ إذ يقول الحبيب ﷺ في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في مسنده: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً عَاضّاً، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكاً جَبْرِيَّةً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةً عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةٍ. ثُمَّ سَكَتَ».