المادة -23-
المادة 23- أجهزة دولة الخلافة ثلاثة عشر جهازاً وهي:
1 – الخليفة (رئيس الدولة).
2 – المعاونون (وزراء التفويض).
3 – وزراء التنفيذ.
4 – الولاة.
5 – أمير الجهاد.
6 – الأمن الداخلي.
7 – الخارجية.
8 – الصناعة.
9 – القضاء.
10 – مصالح الناس. (الجهاز الإداري)
11 – بيت المال.
12 – الإعلام.
13 – مجلس الأمة (الشورى والمحاسبة).
ودليلها فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه قد أقام جهاز الدولة على هذا الشكل فقد كان هو صلى الله عليه وسلم رئيس الدولة، وأمر المسلمين بأن يقيموا لهم رئيس دولة حين أمرهم بإقامة خليفة وبإقامة إمام. قال صلى الله عليه وسلم: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا حُجَّةَ لَهُ، وَمَنْ مَاتَ وَلَيْسَ فِي عُنُقِهِ بَيْعَةٌ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً» أخرجه مسلم أي بيعة خليفة. وقد أجمع الصحابة رضوان الله عليهم على لزوم إقامة خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد موته. وقد ظهر تأكيد إجماع الصحابة على إقامة خليفة من تأخيرهم دفن رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب وفاته وانشغالهم بنصب خليفة له صلى الله عليه وسلم.
وأما المعاونون فالدليل ما رواه أبو داود بإسناد جيد عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِالأَمِيرِ خَيْرًا جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ، إِنْ نَسِيَ ذَكَّرَهُ وَإِنْ ذَكَرَ أَعَانَهُ. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهِ غَيْرَ ذَلِكَ جَعَلَ لَهُ وَزِيرَ سُوءٍ، إِنْ نَسِيَ لَمْ يُذَكِّرْهُ وَإِنْ ذَكَرَ لَمْ يُعِنْهُ“. وما رواه الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ لَهُ وَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ وَوَزِيرَانِ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاءِ فَجِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَأَمَّا وَزِيرَايَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ فَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ“. ومعنى كلمة وزيراي هنا معاونان لي، لأن هذا هو معناها اللغوي، وأما كلمة وزير بالمعنى الذي يريده الناس اليوم فهو اصطلاح غربي، لم يعرفه المسلمون ويخالف نظام الحكم في الإسلام كما هو مبين في بابه.
وأما وزير التنفيذ فهو الذي كان يسمى (الكاتب) على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين، ومهمته معاونة الخليفة في التنفيذ والملاحقة والأداء. روى البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت «أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَمَرَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ كِتَابَ الْيَهُودِ حَتَّى كَتَبْتُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم كُتُبَهُ وَأَقْرَأْتُهُ كُتُبَهُمْ إِذَا كَتَبُوا إِلَيْهِ». وروى ابن إسـحـق عن عبد الله بن الزبير “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَكْتَبَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الأَرْقَمِ بْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، وَكَانَ يُجِيبُ عَنْهُ المُلُوكَ …“. وروى الحاكم في المستدرك وصححه ووافقه الذهبي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: “أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كِتَابُ رَجُلٍ، فَقَالَ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الأَرْقَمِ: أَجِبْ عَنِّي. فَكَتَبَ جَوَابَهُ ثُمَّ قَرَأَهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَصَبْتَ وَأَحْسَنْتَ، اللّهُمَّ وَفِّقْهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ كَانَ يُشَاوِرُهُ“.
وأما الولاة فقد روى البخاري ومسلم عن أبي بردة: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَبَا مُوسَى وَمُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ إِلَى الْيَمَنِ، قَالَ: وَبَعَثَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى مِخْلافٍ، قَالَ: وَالْيَمَنُ مِخْلافَانِ». وفي رواية عند مسلم عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَنْ أَوْ لاَ نَسْتَعْمِلُ عَلَى عَمَلِنَا مَنْ أَرَادَهُ، وَلَكِنِ اذْهَبْ أَنْتَ يَا أَبَا مُوسَى أَوْ يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، فَبَعَثَهُ عَلَى الْيَمَنِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ». وعند البخاري ومسلم عن عمرو بن عوف الأنصاري: “… وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ صَالَحَ أَهْلَ الْبَحْرَيْنِ وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ الْعَلاءَ بْنَ الْحَضْرَمِيِّ“. وقال ابن عبد البر في الاستيعاب: «وَوَلَّى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بنَ العاصِ على عُمانَ فلم يَزَلْ عليها حتى قُبِضَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم».
وأما أمير الجهاد فدليله من السنة:
روى ابن سعد في الطبقات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “أَمِيرُ النَّاسِ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَجَعْفَرُ بْنُ أَبِي طَالِبَ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَوَاحَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَلْيَـرْتَضِ الـمُـسْـلِمُونَ بَيْنَهُمْ رَجُـلاً فَيَجْعَلُوهُ عَلَيْهِمْ” وروى البخاري عن عبد الله بن عمر قال: “أَمَّرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ …” وروى البخاري في حديث سلمة بن الأكوع قال: “غَزَوْتُ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم سَبْعَ غَزَوَاتٍ وَغَزَوْتُ مَعَ ابْنِ حَارِثَةَ اسْتَعْمَلَهُ عَلَيْنَا“. وروى البخاري ومسلم عن عبد الله بن عـمـر رضي الله عنهما قال: “بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَعْثًا وَأَمَّرَ عَلَيْهِمْ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَطَعَنَ بَعْضُ النَّاسِ فِي إِمَارَتِهِ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَنْ تَطْعُنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ كُنْتُمْ تَطْعُنُونَ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ، وَايْمُ اللَّهِ إِنْ كَانَ لَخَلِيقًا لِلإِمَارَةِ …”. وروى مسـلم عـن بريـدة قال: “كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ …“.
وأما الأمن الداخلي فهذه الدائرة يرأسها صاحب الشرطة ومهمتها حفظ الأمن في دار الإسلام، فإن عجزت تولى ذلك الجيش بإذن الخليفة. دليلها ما رواه البخاري عن أنس “كَانَ قَيْسُ بْنُ سَعْدٍ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِمَنْزِلَةِ صَاحِبِ الشُّرَطِ مِنْ الأَمِيرِ“.
وأما الخارجية فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يُقِيم العلاقات الخارجية مع الدول والكيانات الأخرى. وقد أرسل صلى الله عليه وسلم عثمان بن عفان ليفاوض قريشاً، كما فاوض هو صلى الله عليه وسلم رسل قريش، وكذلك أرسل الرسل إلى الملوك، كما استقبل رُسل الملوك والأمراء، وعقد الاتفاقات والمصالحات. وكذلك كان خلفاؤه مِن بعده يُقيمون العلاقات السياسية مع غيرهم من الدول والكيانات. كما كانوا يُولّون من يَقوم عنهم بذلك، على أساس أن ما يقوم به الشخص بنفسه له أن يُوكِل فيه عنه، وأن يُنيب عنه من يقوم له به.
وأما الصناعة فدليلها الكتاب والسنة: قال تعالى: ((وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآَخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ )) [الأنفال 60]. وأما السنة فروى ابن سعد في الطبقات عن مكحول “أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم نَصَبَ المِنْجَنِيقَ عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ أَرْبَعِينَ يَوْماً“. وقال الواقدي في المغازي: “وَشَاوَرَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَصْحَابَهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ الفَارِسِيُّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَرَى أَنْ تَنْصُبَ المِنْجَنِيقَ عَلَى حِصْنِهِمْ، فَإِنَّا كُنَّا بِأَرْضِ فَارِسَ نَنْصُبُ المِنْجَنِيقَاتِ عَلَى الحُصُونِ وَتُنْصَبُ عَلَيْنَا. فَنُصِيبُ مِنْ عَدُوِّنَا وَيُصِيبُ مَنَّا بِالمِنْجَنِيقِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ المِنْجَنِيقُ طَالَ الثِّواءُ؛ فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَعَمِلَ مِنْجَنِيقاً بِيَدِهِ، فَنَصَبَهُ عَلَى حِصْنِ الطَّائِفِ …“. وقـال ابن إسحق في سيرته: “حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ الشَّدْخَةِ عِنْدَ جِدَارِ الطَّائِفِ، دَخَلَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَحْتَ دَبَّابَةٍ، ثُمَّ زَحَفُوا بِهَا إَلَى جِدَارِ الطَّائِفِ لِيَخْرُقُوهُ …“. ثم إن إعداد ما يرهب العدو واجب ولا يكون هذا الإعداد إلا بالتصنيع فكان التصنيع واجـباً مـن بـاب (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب)، ويديره الخليفة أو من ينيبه.
وأما القضاء فقد كان صلى الله عليه وسلم يتولى القضاء بنفسه، ويقلد غيره القضاء بين الناس. أما توليه القضاء بنفسه فعن أم سلمة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ وَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ شَيْئًا فَلاَ يَأْخُذْ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النَّارِ” رواه الشيخان واللفظ للبخاري. وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد الجهني قالا: “جَاءَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ. فَقَامَ خَصْمُهُ فَقَالَ: صَدَقَ، اقْضِ بَيْنَنَا بِكِتَابِ اللَّهِ …” رواه الشيخان واللفظ للبخاري. وأما تقليده غيره فدليله ما رواه الحاكم وقال صحيح على شرط الشيخين ووافقه الذهبي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “بَعَثَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِلَى اليَمَنِ عَلِيّاً فَقَالَ: عَلِّمْهُمُ الشَّرَائِعَ وَاقْضِ بَيْنَهُمْ. قَالَ: لاَ عِلْمَ لِي بِالقَضَاءِ. فَدَفَعَ فِي صَدْرِهِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ اهْدِهِ لِلْقَضَاءِ“. وما رواه الحاكم أيضاً وصححه ووافقه الذهبي عن علي رضي الله عنه قال: “بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى اليَمَنِ فَقُلْتُ: تَبْعَثُنِي إِلَى قَوْمٍ ذَوِي أَسْنَانٍ وَأَنَا حَدَثُ السِّنِّ! قَالَ: إِذَا جَلَسَ إِلَيْكَ الخَصْمَانِ فَلاَ تَقْضِ لأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ مِنَ الآخَرِ كَمَا سَمِعْتَ مِنَ الأَوَّلِ. قَالَ عَلِيٌّ: فَمَا زِلْتُ قَاضِياً“.
وأما الإجماع فقد حكاه الماوردي في الحاوي قال: “وقدْ حَكَمَ الخلفاءُ الراشدون بين الناسِ وقَلَّدوا القُضاةَ والـحُـكّامَ … فصارَ ذلك من فِعْلِهم إجماعاً“. وحكاه ابن قدامة في المغني قال: “وأَجْمَعَ المسلمون على مَشْرُوعِيَّةِ نَصْبِ القُضاة“.
وأما مصالح الناس (الجهاز الإداري) فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير المصالح ويعين كتاباً لإدارتها، فكان عليه الصلاة والسلام يدير مصالح الناس في المدينة، يرعى شؤونهم، ويحل مشاكلهم، وينظم علاقاتهم، ويؤمن حاجاتهم، ويوجههم فيها لما يصلح أمرهم. وكل هذه من الشؤون الإدارية التي تيسر عيشهم دون مشاكل أو تعقيد:
ففي أمور التعليم، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء الأسرى من الكفار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل الفداء هو من الغنائم، وهي ملك للمسلمين؛ فكان تأمين التعليم مصلحة من مصالح المسلمين.
وفي التطبيب، أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيب فجعله للمسلمين، فكون رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته هدية فلم يتصرف بها، ولم يأخذها، بل جعلها للمسلمين، دليل على أن التطبيب مصلحة من مصالح المسلمين. وقد صح عن عائشة رضي الله عنها في الحديث المتفق عليه، قالت: «أُصِيبَ سَعْدٌ يَوْمَ الْخَنْدَقِ رَمَاهُ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ يُقَالُ لَهُ ابْنُ الْعَرِقَةِ رَمَاهُ فِي الأَكْحَلِ فَضَرَبَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم خَيْمَةً فِي الْمَسْجِدِ يَعُودُهُ مِنْ قَرِيبٍ …»، فاعتناء الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو رئيس دولة، بسعد في مرضه داخل المسجد يفهم منه أن التطبيب مصلحة من مصالح المسلمين ترعاها الدولة. وقد سار على ذلك الخلفاء الراشدون. أخرج الحاكم في المستدرك عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: (مرضت في زمان عمر بن الخطاب مرضاً شديداً فدعا لي عمر طبيباً فحماني حتى كنت أمص النواة من شدة الحمية).
وفي شؤون العمل، فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يشتري حبلاً ثم فأساً، ويحتطب ويبيع للناس بدل أن يسألهم، هذا يعطيه وهذا يرده، كما في الحديث الذي أخرجه أبو داود وابن ماجه ، وجاء فيه: «… وَاشْتَرِ بِالدِّرْهَمِ الآخَرِ قَدُوماً فَائْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُوداً بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ: اذْهَبْ وَاحْتَطِبْ وَبِعْ، فَلاَ أَرَيَنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَفَعَلَ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَـشْـرَةَ دَرَاهِـمَ …» وقـال رسـول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري: «لَأَنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلَهُ فَيَأْتِيَ بِحُزْمَةِ الْحَطَبِ عَلَى ظَهْرِهِ فَيَبِيعَهَا فَيَكُفَّ اللَّهُ بِهَا وَجْهَهُ خَـيْـرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ النَّاسَ أَعْطَوْهُ أَوْ مَنَعُوهُ». فكان حَلُّ مشاكل العمل كذلك مصلحةً للمسلمين.
وفي شؤون الطرق، فقد نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطرق في وقته بأن جعل الطريق سبعة أذرع عند التنازع. روى البخاري في (باب الطريق الميتاء) من طريق أبي هريرة «قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَبْعَةِ أَذْرُعٍ»، وروايـة مسـلم «إِذَا اخْـتَلَفْـتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَبْعَ أَذْرُعٍ» وهـو تنظـيم إداري في ذلك الوقـت، وإذا كانت الحاجة لأكثر كان، كما في مذهب الشافعي.
وفي الزراعة، فقد اختلف الزبير رضي الله عنه ورجل من الأنصار في السقي من سيل ماء يمر من أرضهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» متفق عليه واللفظ لمسلم.
وهكذا كان صلى الله عليه وسلم يدير مصالح الناس، وسائرُ الخلفاء الراشدين من بعده يديرونها أو يعينون من يديرها.
وأمـا بيـت المـال، فـإن الأدلـة متضـافـرة على أن بيت المال كان تابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم مباشرةً، أو للخليفة، أو لمن يولَّى عليه بإذنه، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يباشر بنفسه أحياناً خزن المال، وكانت له خزانة. وكان يباشـر قبـض المال، وتوزيعه، ووضـعـه مواضعه. وأحياناً كان يولي غيره هذه الأمور. وكذلك كان يفعل خلفاؤه الراشدون من بعده، حيث كانوا يتولون بأنفسهم أمور بيت المال أو ينيبون عنهم غيرهم.
فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع المال إما في المسجد، كما روى البخاري عن أنس قال: «أُتِيَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِمَالٍ مِنَ الْبَحْرَيْنِ فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ» وإما في حُجْرَةٍ من حُجَرِ زوجاته، كما روى البخاري عن عقبة قال: «صَلَّيْتُ وَرَاءَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم بِالْمَدِينَةِ الْعَصْرَ، فَسَلَّمَ ثُمَّ قَامَ مُسْرِعًا، فَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ إِلَى بَعْضِ حُجَرِ نِسَائِهِ، فَفَزِعَ النَّاسُ مِنْ سُرْعَتِهِ، فَخَرَجَ عَلَيْهِمْ، فَرَأَى أَنَّهُمْ عَجِبُوا مِنْ سُرْعَتِهِ، فَقَالَ: ذَكَرْتُ شَيْئًا مِنْ تِبْرٍ عِنْدَنَا، فَكَرِهْتُ أَنْ يَحْبِسَنِي، فَأَمَرْتُ بِقِسْمَتِهِ».
وفي عهد الراشدين صار المكان الذي يحفظ فيه المال يسمى بيت المال، ذكر ابن سعد في الطبقات عن سهل بن أبي حثمة وغيره: «أن أبا بكر كان له بيت مال بالسنح ليس يحرسه أحد، فقيل له: ألا تجعل عليه من يحرسه؟ قال: عليه قفل. فكان يعطي ما فيه حتى يفرغ. فلما انتقل إلى المدينة، حوّله فجعله في داره». وروى هناد في الزهد بإسناد جيد عن أنس قال: «جاء رجل إلى عمر فقال: يا أمير المؤمنين، احملني فإني أريد الجهاد، فقال عمر لرجل: خذ بيده فأدخله بيت المال يأخذ ما يشاء …».
وأما الإعلام فدليله الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعالى: ((وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ)) [النساء 83]. وموضوع الآية الأخبار.
وأما السنة فحديث ابن عباس في فتح مكة عند الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبي وفيه: «وقد عميت الأخبار على قريش، فلا يأتيهم خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يدرون ما هو صانع». ومرسل أبي سلمة عند ابن أبي شيبة وفيه: ثُمَّ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِعَائِشَةَ: «جَهِّزِينِي وَلاَ تُعْلِمِي بِذَلِكَ أَحَداً، … ثُمَّ أَمَرَ بِالطُّرُقِ فَحُبِسَتْ، فَعَمَّى عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ لاَ يَأْتِيهِمْ خَبَرٌ».
وهذا يدل على أن الإعلام المتعلق بأمن الدولة مرتبط بالخليفة أو بجهاز ينشئه لهذا الغرض.
وأمـا مجـلس الشـورى فإن الرسـول صلى الله عليه وسلم لم يكن له مجلس معين دائماً، بل كان يستشير المسلمين في أوقات متعددة استجابةً لقوله سبحانه: ((وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ))، ومن هذه المشاورات ما رواه مسلم عن أنس يوم بدر “أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَاوَرَ حِينَ بَلَغَهُ إِقْبَالُ أَبِي سُفْيَانَ. قَالَ: فَتَكَلَّمَ أَبُو بَكْرٍ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، ثُمَّ تَكَلَّمَ عُمَرُ فَأَعْرَضَ عَنْهُ، فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ فَقَالَ: إِيَّانَا تُرِيدُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا الْبَحْرَ لأَخَضْنَاهَا، وَلَوْ أَمَرْتَنَا أَنْ نَضْرِبَ أَكْبَادَهَا إِلَى بَرْكِ الْغِمَادِ لَفَعَلْنَا. قَالَ فَنَدَبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَانْطَلَقُوا حَتَّى نَزَلُوا بَدْرًا” ومنها ما رواه البخاري يوم الحديبية من طريق المسور ومروان قالا “وَسَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى كَانَ بِغَدِيرِ الأَشْطَاطِ أَتَاهُ عَيْنُهُ، قَالَ إِنَّ قُرَيْشًا جَمَعُوا لَكَ جُمُوعًا، وَقَدْ جَمَعُوا لَكَ الأَحَابِيشَ، وَهُمْ مُقَاتِلُوكَ وَصَادُّوكَ عَنِ الْبَيْتِ، وَمَانِعُوكَ. فَقَالَ: أَشِيرُوا أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيَّ، أَتَرَوْنَ أَنْ أَمِيلَ إِلَى عِيَالِهِمْ وَذَرَارِيِّ هَؤُلاءِ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَصُدُّونَا عَنِ الْبَيْتِ؟ فَإِنْ يَأْتُونَا كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدْ قَطَعَ عَيْنًا مِنَ الْمُشْـرِكِينَ وَإِلاَّ تَرَكْنَاهُمْ مَحْـرُوبِينَ. قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ خَرَجْتَ عَامِدًا لِهَذَا الْبَيْتِ لا تُرِيدُ قَـتْلَ أَحَـدٍ وَلا حَرْبَ أَحَدٍ، فَتَوَجَّهْ لَهُ فَمَنْ صَدَّنَا عَنْهُ قَاتَلْنَاهُ. قَالَ امْضُوا عَلَى اسْمِ اللَّهِ …“. إلا أنه صلى الله عليه وسلم مع جمعه للمسلمين واستشارتهم كان يدعو أشخاصاً معينين بشكل دائمي يستشيرهم، وكانوا من نقباء القوم، وهم حمزة، وأبو بكر، وجعفر، وعمر، وعلي، وابن مسعود، وسليمان، وعمار، وحذيفة، وأبو ذر، والمقداد، وبلال. فكانوا بمثابة مجلس شورى له صلى الله عليه وسلم لاختصاصه إياهم دائماً بالشورى. وكذلك كان الخلفاء الراشدون يشاورون الناس بعامة، ويخصون بالمشاورة أعداداً، فقد كان أبو بكر رضي الله عنه يخص رجالاً من المهاجرين والأنصار يرجع إليهم لأخذ رأيهم إذا نزل به أمر يكونون كأهل الشورى لديه. وكان أهل الشورى في عهد أبي بكر رضي الله عنه هم العلماء وأصحاب الفتوى. أخرج ابن سعد عن القاسـم: «أن أبا بكر الصـديـق كان إذا نزل به أمر يريد مشاورة أهل الرأي وأهل الفقه فيه، دعا رجالاً من المهاجرين والأنصار، دعا عمر، وعثمان، وعلياً، وعبد الرحمن بن عوف، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وزيد بن ثابت»، وكل هؤلاء كان يفتي في خلافة أبي بكر، وإنما تصير فتوى الناس إلى هؤلاء، فمضى أبو بكر على ذلك، ثم وليَ عمر فكان يدعو هؤلاء النفر.
كل ذلك يدل على اتخاذ مجلس خاص ينوب عن الأُمة في الشورى الثابتة بنص القرآن والسنة، يطلَق عليه: مجلس الأُمة لأنه نائب عن الأُمة في (الشـورى). ويكون عمله كذلك (المحـاسـبة) للأدلة الواردة فيها. روى مسلم «سَتَكُونُ أُمَرَاءُ فَتَعْرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ عَرَفَ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِـيَ وَتَابَعَ، قَالُوا: أَفَلاَ نُقَاتِلُهُمْ؟ قَـالَ: لاَ مَا صَلَّوْا». والصلاة هنا كناية عن الحكم بالإسلام.
ومن المحاسبة إنكار المسلمين أول الأمر، وعلى رأسهم عمر، على أبي بكر عزمه على محاربة المرتدين، فقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «لَمَّا تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، وَكَفَرَ مَنْ كَفَرَ مِنَ الْعَرَبِ، فَقَالَ عُمَرُ رضي الله عنه: كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، فَمَنْ قَالَهَا فَقَدْ عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّهِ، وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ. فَقَالَ: وَاللَّهِ، لأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ، لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا. قَالَ عُمَرُ رضي الله عنه فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلاَّ أَنْ قَدْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَ أَبِي بَكْرٍرضي الله عنه فَعَرَفْتُ أَنَّهُ الْحَقُّ».
كما أنكر بلال بن رباح والزبير وغيرهم على عمر عدم تقسيمه أرض العراق على المحاربين. وكما أنكر أعرابي على عمر حمايته لبعض الأرض، فقد روى أبو عبيد في الأموال عن عامر بن عبد الله بن الزبير أحسبه عن أبيه قال: «أتى أعرابي عمر فقال: يا أمير المؤمنين، بلادنا قاتلنا عليها في الجاهلية، وأسلمنا عليها في الإسلام، علام تحميها؟ قال: فأطرق عمر، وجعل ينفخ ويفتل شاربه، وكان إذا كربه أمر فتل شاربه ونفخ، فلما رأى الأعرابي ما به جعل يردد ذلك عليه، فقال عمر: المال مال الله، والعباد عباد الله، والله لولا ما أحمل عليه في سبيل الله ما حميت من الأرض شبراً في شبر» وكان عمر قد حمى لخيل المسلمين بعض أراضي الملكية العامة. وكما أنكرت عليه امرأة نهيه عن أن يزيد الناس في المهور على أربعمائة درهم، فقالت له: ليس هذا لك يا عمر: أما سمعت قول الله سبحانه: ((وَآَتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً)) [النساء 20] فقال: أصابت امرأة وأخطأ عمر.
وهكذا فإنه يتبين من شـرح هذه المادة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام جهازاً معيناً للدولة على شكل مخصوص، وظل يسير بحسبه إلى أن التحق بالرفيق الأعلى، ثم جاء خلفاؤه من بعده فساروا على ذلك، يحكمون حسـب هـذا الجهـاز الذي أقامه الرسـول صلى الله عليه وسلم بعـيـنه، وكان ذلك على مرأىً ومسمع من الصحابة، ولهذا فإنه يتعين أن يكون جهاز الدولة الإسلامية على هذا الشكل.