تداعيات سورة المسد على قريش والمسلمين الأوائل وعلى طغاة اليوم وحملة الدعوة
خَرَجَ النبي ﷺ إلى البَطْحَاءِ، فَصَعِدَ إلى الجَبَلِ فَنَادَى: «يا صَبَاحَاهْ» فَاجْتَمعتْ إلَيْهِ قُرَيْشٌ، فَقالَ: «أرَأَيْتُمْ إنْ حَدَّثْتُكُمْ أنَّ العَدُوَّ مُصَبِّحُكُمْ أوْ مُمَسِّيكُمْ، أكُنْتُمْ تُصَدِّقُونِي؟» قالوا: نَعَمْ، قالَ: «فإنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ» فَقالَ أبو لَهَبٍ: ألِهذا جَمَعْتَنَا تَبّاً لَكَ، فأنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ * مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ * سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ﴾.
نزلت هذه السورة في مكة عندما أراد النبي ﷺ أن يعلن عن نزول الوحي لقريش من خلال تذكيرهم أولاً بأمانته وصدقه، ولكن قام الأقرب إليه عمه أبو لهب بالإهانة والتخريب الصريحين لخطابه في الوادي. اشتهر أبو لهب بعدائه لابن أخيه الذي كان عادة ما يحبط خطاب الرسول ﷺ وهو يحمل رسالة التوحيد إلى قريش. وزوجته أم جميل كانت متآمرة على النبي ﷺ حيث كانت تعرف باسم حمالة الحطب كما جاء في سورة المسد بسبب ضررها للنبي بإلقاء الأشواك والخشب في طريقه. كتب الحسن البصري وقتادة أنها كانت ترتدي قلادة ثمينة وكانت تقول: “واللات والعزى، سأبيع هذا العقد وأنفق ثمنه لإشباع عدائي ضد محمد”. كما جادل العلماء بأن هذا وصفها بأنها ناشرة الإشاعات كما اعتادت أن تنشر افتراءً خبيثاً للإضرار بالرسول ﷺ في جميع أنحاء مكة.
وهكذا عندما شتم أبو لهب النبي ﷺ، أُنزلت الآيات فلعنه الله سبحانه وتعالى هو وزوجته، وتليت هذه الآيات بجرأة من رسول الله ﷺ إلى زعيم قريش الثري والمؤثر، وهذا لم يُعثر محمداً ﷺ ولا أخافه. إن هذه الآيات تكررت من كل من سمع السورة بمن فيهم المؤمنون وغير المؤمنين، سورة قصيرة ولكنها قوية؛ فقد توعدت بهلاك أبي لهب وزوجته في نار جهنم، وأن لا ثروته ولا حتى أولاده الذين يتباهى بهم أمام قبيلته لن يكونوا شفعاء له يوم القيامة.
وقد أثر تكرار الناس لهذه السورة على الرأي العام لأنها كانت اتفاقاً من الله سبحانه وتعالى الذي دافع عن رسوله من توبيخ العم الشرير. لقد مات أبو لهب بالفعل موتاً مُهَرّياً وبشعاً في عزلة، بل إن دفنه كان أمراً مخزياً. هذه هي الحقيقة التي أخبر عنها الله لتشهد عليها كل مكة. فشعر المسلمون بالطمأنينة من الآيات القرآنية وشهد المشركون تحذيرا للنخبة القبلية.
ومنذ ذلك الوقت، تعرض المسلمون للذم والتهجم من أولئك الذين يعارضون رسالة التوحيد. ونحن نرى الملاحقة والمضايقات ضد تلك الدعوة للإسلام، فهي مستمرة ودائمة وتأتي في جميع الأشكال من الأساليب التقليدية إلى الاعتداء والقذف والسجن، إلى أكثرها معاصرة كحجب المواقع الإعلامية ورقابة المنشورات على الإنترنت.
من هم أبو لهب وزوجته في عصرنا هذا؟
هم يظهرون بأشكال مختلفة، من أفراد حاقدين إلى أنظمة مستبدة إلى ثأر قديم لا يزال يشن حرباً ضد حملة الإسلام. ولا يوجد فرق في التعقيد والتواطؤ في بلاد المسلمين أو في البلاد غير الإسلامية، حيث إن الأفراد الذين يديمون حملة الكراهية والدمار يتغلغلون عبر جميع الحدود. ويتجلى ذلك في الأجندات الغربية الاستعمارية التي تقوم على إزالة الإسلام من حياة المسلمين لحصرهم بشكل صارم في ممارسة العبادات الفردية في الحياة الخاصة مع خنقهم القمعي لعامة الناس والموارد الطبيعية.
واجه رسول الله ﷺ وأصحابه رضي الله عنهم عقبات صارمة في طريق نشر دعوة الله سبحانه وتعالى من العزلة والنفي والتعذيب والافتراء والملاحقة والقيود المختلفة في الحركة والرزق بسبب تمسكهم بدينهم الجديد. وهذا أيضاً يُشاهد اليوم مع حملة الدعوة، وخاصة مع أعضاء ومؤيدي حزب التحرير، من المؤسس والجيل الأول ومن تلاهم من أعضاء تحملوا التعذيب والملاحقة والموت في سبيل الله والإسلام.
في عهد قريش، رفض المسلمون الأوائل الممارسات والمعتقدات الجاهلية، ودعوا إلى التوحيد والإيمان بالله ورسوله ﷺ وعابوا عبادة الوثنية والممارسات العربية الشائعة في عصر الجاهلية. وبعد هدم دولة الخلافة، عاب المسلمون اللاحقون المبادئ التي صنعها الإنسان من الشيوعية والاشتراكية والرأسمالية، وإحكام قبضة الأنظمة الملكية والديكتاتورية التي أقيمت في جميع أنحاء البلاد الإسلامية التي أرستها الأنظمة الغربية لتأكيد هيمنتها من بعيد. وفي كلتا الحالتين، واجه المسلمون رد فعل عنيف من مثل هذه المعارضة لأنها أخلت بالوضع الراهن للمتنفذين والأثرياء في كلا العصرين. وكما ذُكر أعلاه، فإن التكتيكات المستخدمة تكاد تكون معكوسة لمنع انتشار الدعوة إلى الإسلام ولإخماد تأثير دعوتهم على الجمهور، أي التأثير على الرأي العام.
مثلما تليت سورة المسد على قريش التي أثارت جنوناً في مجتمعهم وحادثة بحث زوجة أبي لهب عن الرسول ﷺ حاملة حجراً بيدها ولم تر سوى أبي بكر رضي الله عنه، فانظروا إلى حملة الدعوة اليوم يقرؤون السورة نفسها في مواجهة الأخطار والمفاسد. قبل ذلك كان في مواجهة المشركين، عبدة الأصنام، الباعة المتجولون بالربا الذي يقصم الظهر إلى الأعمال البذيئة للمجتمع في الجاهلية. في حين إن حملة الدعوة اليوم يعارضون أتباع وأركان الأنظمة الوضعية والمشرعين والأتباع الجشعين للإمبريالية.
على سبيل المثال، أبو لهب المعاصر يشمل استئصال مصطفى كمال الهائل للدولة الإسلامية إلى مجازر عبد العزيز بن سعود، والقذافي الليبي، الطاغية الشهير الذي حكم بقبضة من حديد لمدة 40 عاماً، وصدام حسين العراقي الذي شن حرباً ضد المسلمين بمن فيهم الأكراد بلا رحمة، وكريموف من أوزبيكستان الذي ترسل مستعمرات السجون سيئة السمعة رعشة إلى أسفل العمود الفقري. والمجازر الكاملة التي ارتكبها حافظ الأسد (40 عاماً من الطغيان في سوريا) وغيرهم من الحكام سيئي السمعة أيضاً. والقائمة تطول منذ عام 1919 إلى اليوم من الحكام المجرمين الذين لا يرحمون أحداً من المسلمين. كما فرضت الحكومات الغربية بما في ذلك دول الاتحاد السوفيتي السابق عقوبات على المسلمين وتعبيرهم مثل القانون الجنائي الروسي الذي ينص على أن مختلف النصوص الإسلامية محظورة ولها عواقب وخيمة على حركة الشباب والمسلمين التابعين لحزب التحرير من جراء أحكام السجن اللاإنسانية الطويلة. والحرب الأمريكية على الإرهاب بعد أحداث 11 أيلول/سبتمبر والمملكة المتحدة 7 تموز/يوليو مهدت الطريق لإضفاء الشرعية على استهداف المسلمين والإسلام من إقامة الأمن الداخلي والمنع وفقا لذلك، جاءت هذه مع نتائج كارثية، وضرب الأمثلة كثير ولكن لا تقتصر على إنشاء معسكر الاعتقال في خليج غوانتنامو والقواعد العسكرية، وشن الحروب المروعة في العراق، وأفغانستان، وأكثر من ذلك. ومع ذلك، فإن هؤلاء وغيرهم الكثير من المسلمين عارضوا نظامهم ويدعون إلى تطبيق الإسلام بالكامل بدلاً من أنظمتهم، تخيلوا عواقب هذه المواقف الجريئة. لقد واجه العديد من المسلمين موتهم نتيجة التضحية بأرواحهم الغالية في سبيل الله.
ما هو نوع الشخصية اللازمة لتكون قادرة على معارضة مثل هذه المؤسسات عميقة الجذور في الماضي أو الحاضر؟ ما هي الشخصية التي يجب أن تكون قادرة على تلاوة سورة المسد أمام الطغاة؟ وأن تكون قادرة على الالتزام بحديث الحبيب ﷺ: «يَا عَمُّ، وَاللهِ لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي وَالقَمَرَ فَي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ الله أَوْ أَهْلُكَ فِيهِ مَا تَرَكْتُهُ».
عندما تلا النبي ﷺ الآيات، لم تكن لديه سلطة حقيقية ولا حماية من غضب المشركين واستمر هذا لثلاثة عشر عاماً في مكة. وقد تكرر هذا بعد عام 1924م، ولم يكن للمسلمين سلطة حتى اليوم. مائة عام بدون درع حام إلا أن شباب حزب التحرير يقرأون هذه الآيات ومئات الآيات الأخرى بجرأة كل يوم دون خوف أو كلل. لدينا جموع من المسلمين يتأقلمون مع وضعهم الراهن ويندمجون في المجتمعات الغربية، ومع ذلك فإن هناك مجموعة منفصلة وتظل قائمة تدعو إلى إعادة تطبيق الإسلام من خلال إقامة دولة الخلافة لاستعادة العدالة والمجد الذي كان من قبل. إن حزب التحرير، حزب سياسي مبدؤه الإسلام، تأسس عام 1953 على يد الشيخ تقي الدين النبهاني رحمه الله. إن عمل حزب التحرير هو حمل الدعوة الإسلامية من أجل تغيير أوضاع المجتمع الفاسد ليتحول إلى مجتمع إسلامي، وما يتجلى في هذه التصرفات السياسية هو تربية الأمة على الثقافة الإسلامية لصهرها بالإسلام وتطهيرها من العقائد الفاسدة والأفكار الباطلة والمفاهيم الخاطئة بما في ذلك تأثير أفكار الكفر وآرائه.
يجب أن تستلزم صفات المسلمين القناعة الحقيقية بعقيدة الإسلام بأن الله تعالى رب العالمين وأننا عباد مخلصون لتطبيق قانون الله وسنة الرسول ﷺ. ويجب تطوير العقلية بشكل كامل للحفاظ على الإيمان بأن الحياة والرزق بيد الله وحده للسماح بالتوكل الكامل على الله والتحرر من الخوف والخنوع على أيدي الطغاة. حتى قبل ذلك، يجب أن يأتي نظام الحياة من الخالق لأن الأنظمة الوضعية من صنع الإنسان جلبت فقط البؤس للبشرية، لذلك يجب أن تعود شؤون الأمة إلى أصلها تحت درع الخلافة، وهي أمور تُحكم وتُقاس بمعايير إسلامية خالصة خالية تماماً من قوانين الكفر المستحدثة. ويجب أن يؤخذ القرآن على أنه الدستور والبوصلة للمسلمين. علاوة على ذلك، يجب أن يكتنف حامل الدعوة الإسلامية الصبر والمرونة والصمود والرضا في المسار الذي يسلكه المسلم حيث ستجزى جميع المصاعب بالأجر والثواب يوم لا ينفع مال ولا بنون. يجب أن تكون خصائص الاستقامة والثبات موجودة، وإلا فقد يتعثر المرء ويتردد في مواقف المواجهة، فلا يكفي مجرد الإيمان دون اختبار. قال رسول الله ﷺ «الساكت عن الحق شيطان أخرس». يجب أن يكون لدى حملة الدعوة سلوك لا هوادة فيه أمام اللمعان الزائف للأنظمة، وبما أن المجتمع قد يؤثر
عليه أو يبطئ أخلاقيات عملهم؛ حب دعوة الإسلام يجب أن يشعر به المحيطون بحامل الدعوة، أن يشعروا بصدق الدعوة، أن يشعروا برعاية الأمة الإسلامية القريبة والبعيدة دون أي نوايا أو مصلحة ذاتية، ليدعو إلى أن يكون الحكم لله وحده.
كل هذا لتمكين حامل الدعوة من الانخراط في صراع فكري وسياسي ليكون جزءاً من حزب من أجل تحقيق هدف مثلما أحاط الصحابة رضوان الله عليهم بالرسول ﷺ، وثقافته سمحت للصحابة بالصمود أمام كل المصاعب مع اليقين التام بتحقيق وعد الله وأن يكون الصحابة رجال دولة المستقبل بعد أن غُرست فيهم العقيدة كاملة. ولم تكن هناك عودة إلى الوراء بعد أن جاءت الآية لإعلان الإسلام علانية لقريش. بينما اليوم يوجد هجوم عالمي لا يمكن إنكاره على الإسلام والمسلمين، كما يمكن رؤيته في كل بلد مسلم بشكل أو بآخر. وبالتالي، لكي يبلغ المسلمون هدف المجتمع الإسلامي، يجب أن يكون هناك حزب مبدئي سياسي يثقّف أعضاءه ليكونوا مثل الصحابة الكرام الذين قرأوا آيات الله تعارض المجتمعات والزعماء الظالمين. يجب أن يجمع هذا الحزب بين الفكر والطريقة لتحقيق مثل هذا التغيير الجذري.
بينما نتلو آيات التحدي والمعارضة وإنكار الكفر وطرقه، فإن هذا يحتاج إلى أن يكون حافزاً للتغيير والنهضة الإسلامية وإلا فإننا نقرأ ببساطة دون فهم متدبر. يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾. ويقول: ﴿إِنَّ هَـٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً﴾. ويقول أيضا: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـٰذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُوراً﴾.
من القرآن الكريم، نحن كحملة دعوة، نأخذ قوتنا وتوجيهنا لتجميع أنفسنا وننحاز إلى الحقيقة ومواجهة أبي لهب اليوم وغدا ونعمل بجد لإعادة تأسيس مجتمع إسلامي من خلال إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة. هذه الأعمال سوف تشهد لنا يوم القيامة حيث لا ينفع مال ولا بنون. ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّـهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ * وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ﴾.