في ظلال سورة النور – الأسرة بين نور الله وظلمات القوانين الوضعية
لن تجد بناء أقوى وأمتن من بناء الأسرة في الإسلام، فقد اعتنى بها الشرع من وقت اختيار الزوج، فقال الرسول ﷺ: «فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»، إلى تربية الأبناء فقال ﷺ: «مَنْ كَانَ لَهُ ثَلَاثُ بَنَاتٍ أَوْ ثَلَاثُ أَخَوَاتٍ أَوْ ابْنَتَانِ أَوْ أُخْتَانِ فَأَحْسَنَ صُحْبَتَهُنَّ وَاتَّقَى اللَّهَ فِيهِنَّ فَلَهُ الْجَنَّةُ»، إلى طبيعة العلاقة بين الزوجين، فقد قال الله عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
وكانت هذه الأحكام من مهمات خليفة المسلمين يرعى بها الناس، ويحفظهم بها، ويحاسبهم على مخالفتها، ويفض النزاعات بينهم على أساسها. وقد عهد بها النبي ﷺ إلى الخلفاء بعده، فقد قال ﷺ: «فَالْإِمَامُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ». فأصبحت الأسرة المسلمة منتجة للعلماء الأفذاذ والمجاهدين الأبطال والقادة الفاتحين.
لقد استمر هذا الحال الرائع يحرس به الخليفة المجتمع والأسرة، حتى هدمت دولة الإسلام وانهار بنيانها قبل مئة عام. ومنذ تلك اللحظة والغرب الكافر منقض على الأسرة المسلمة يحاربها ويحارب طهارتها وعفتها، يريد أن ينزع عنها كل ما اتصل بشرع الله، يريد أن يلبسها ثوب الفجور ويفككها كما تفككت أسره، ويهدم بنيانها كما انهدمت مجتمعاته. وهو في حربه هذه حتى يومنا هذا، حيث يريد سلخ الأسرة عن الدين تحت مظلة قانون حماية الأسرة؛ ذلك القانون الذي يريدون أن يضعوا الأسرة المسلمة من خلاله في قفص الأفكار الغربية، وينزعوا سلطة الأب من بيته، ويمنعوه من تربية أبنائه، لتصبح الأسرة المسلمة لا تنتج إلا مسوخا لا يردعهم دين ولا تحفظهم مروءة. يريدون بهذا القانون أن يهدموا ما استقر في قلوب المسلمين من أنوار رب العالمين التي أنزلها من فوق سبع سماوات.
فقد أنزل الله لنا نورا لنهتدي به، وجعله كنور الشمس إذا طلعت أطفأت كل ضوء دونها وأبانت كل سبيل، ﴿قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾. وقد جعل الله عز وجل في هذا النور نورا آخر فأنزل فيه سورة النور؛ سورة تخاطب الأسرة المسلمة وتخاطب الرجل والمرأة ليكون كل منهما مشعل نور في الدنيا، فإذا اجتمعا وكونا أسرة كانت شمس هداية ودفء وعطاء. تلك السورة لا بد لنا من وقفات فيها نتفقه منها لشؤون أسرنا.
هي سورة ابتدأت بنبذ الرجس، فلا يجتمع الرجس مع العفة أبدا، فقد وقفت وقفة حازمة صلبة مع من يريد أن يبني الأسرة المسلمة على غير سبيل الهدى بل من خلال الزنا والخنا والفحش، وقفت لتعلن أن هذا الفعل هو جريمة تستحق العقوبة الشديدة. ولا يصح لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يتعاطف مع هذا المجرم الذي يريد أن تكون علاقته بالمرأة من خلال الزنا. ثم انطلقت لتعلن حربها على جريمة أخرى تفتك بالمجتمعات؛ وهي تناقل الأحاديث التي تتهم الناس في أعراضهم، فقد توعد الله من يقذف المحصنات باللعنة في الدنيا والآخرة والعذاب العظيم. فلما نفت السورة هذه الجرائم انطلقت لتؤسس البيت على التقوى، فالطيبات للطيبين والطيبون للطيبات، فهم حين يبنون البيت على التقوى سيكون هذا البيت طيبا كطيبتهم، ولكن هذا البيت لا بد له من تحصين، فانطلقت السورة مباشرة تركز على أحكام الاستئذان، فلا يجوز لأحد أن يتسور البيوت فيكشف سترها. وقد شدد الرسول ﷺ على ذلك حيث قال: «وَمَنْ أَدْخَلَ عَيْنَيْهِ فِي بَيْتٍ بِغَيْرِ إِذَنِ أَهْلِهِ فَقَدْ دَمَّرَ».
ولكن حتى وإن كان قد تأسس البيت على التقوى فإن النوازع البشرية ما تزال موجودة فيه، فكان لزاما أن ينضبط أهل هذا البيت فلا تقفز أنظارهم إلى ما عند غيرهم فتشتعل تلك الغرائز فقال الله لهم مخاطبا: ﴿قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ﴾ وقال عز وجل: ﴿وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ﴾. فلما دعت السورة الرجال والنساء إلى ذلك، كان لا بد لها من تنظيم هذه الغرائز، فأطلقتها دعوة عريضة إلى الزواج والتيسير فيه، حتى إنها دعت إلى تزويج الإماء والعبيد، فأما من لا يجد قدرة على ذلك فأرشدته إلى العفاف إلى أن يأذن الله له بالزواج. وقد انطلقت السورة في بيان أحكام الاستئذان للصبية، وقد حددت الأوقات التي ألزمتهم فيها بالاستئذان على أهلهم، حتى إن السورة ذهبت تعالج ما تعلق بالقواعد من النساء من أحكام، أولئك النسوة اللاتي انقطع أملهن بالزواج، حتى لا يخرج من هذا الباب فرصة ولو ضئيلة لإفساد المجتمع.
ومن روائع هذه السورة أن وسطها كان كوسط المصباح، فهو نور في سورة النور، في تنزيل من النور ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾. فهل يمكن أن نجد نورا يهدينا الطريق غير نور الله وأحكامه؟ فهل سيحل مشاكلنا قانون مستورد من الغرب مثل قانون حماية الأسرة؟ وقد ساق الله لنا مقارنة بين نوره وأحكامه، وبين أحكام البشر، فقد وصف الله أحكام البشر بالظلمات والسراب: ﴿أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ﴾.
وقد وسّط الله عز وجل هذه السورة بالحديث عن السلطان المسلم الذي يطبق هذه الأحكام ويأمر بطاعة الله عز وجل ويحفظ الأسرة المسلمة، فهلم إلى طاعة الله وإقامة حكم الله وشرعه، فقد طال البعد، أفلا تكفينا مئة عام؟!
﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُم مَّا حُمِّلْتُمْ وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ * وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾