كيف ينصر الله المؤمنين عند الجهاد في سبيله
لماذا قضى شهداء الأخدود كلهم؟! كان من الممكن أن يكذبوا على الملك ويُخفوا إيمانهم ويسكتوا عن الصدع بالحق، في سبيل “مصلحة الدعوة والدين”، هل سيستفيد الدين من موتهم؟! ومن ينشر الحق بعدهم؟! لماذا لم يستسلموا لأنهم في فترة استضعاف وعاشوا لكي يقوموا بتربية جيل النصر؟!
لماذا لم يستسلم سيدنا إبراهيم عليه السلام للنمرود بن كنعان الذي كان يمتلك القوة والبطش والظلم والسجون وأدوات التعذيب؟
لماذا لم يستسلم عبد الله بن حذافة رضي الله عنه لكسرى الذي أغراه بملذّات الدنيا وعذّبه برؤية الأسرى وهم يُسلخون في الزيت المغلي؟
لماذا لم يتراجع ابن تيمية أمام ظلم الحاكم وسجنه فترة طويلة من عمره حتى مات في السجن؟
ولماذا لم يتراجع العز بن عبد السلام عن قول الحق أمام أمراء المماليك؟
ولماذا لم يتراجع الإمام أحمد بن حنبل أمام فتنة خلق القرآن؟
لماذا أنطق الله الطفل الرضيع حينما فكرت أمه مجرد تفكير أن تتراجع كي لا يُلقى ابنها الرضيع في النار التي أعدها فرعون؟ أنطقه الله ليقول لها (اثبتي فأنتِ على الحق)، لماذا لم تتراجع حتى تنعم بابنها وتربّيه وتصنع منه جيل النصر؟ لكن الله يأبى إلا أن تصدع بالحق وتستشهد دونه.
تعتقد لو تراجعوا، هل كان سيخرج منهم جيل النصر؟! كلا، بل كان سيخرج جيلٌ يخاف أن يصدع بالحق ويركن إلى الجحور التي تربّوا فيها، ويتحول الدين من الصدع بالحق الخالص لوجه الله، لدين محاولة التعايش مع الظلم والكفر، والتنازل عن الدين، لكنها كانت لحظة فارقة، النصر فيها هو الثبات على الحق والصدع به أياً كانت العواقب. لحظةٌ لا يصلح فيها السكوت أو الحيادية! لحظة كفرٍ أو إيمان، لا يوجد وسط ولا يصح أن يكون هنا وسط. إما أن تموت ثابتاً على الحق وهذا هو النصر، وإما أن تتنازل وهذا هو أصل كل هزيمة. فهل ضاع الدين بعد موتهم؟! وهل انتصر الكفر عليهم؟!
اجتمع لرسول الله ﷺ في غزوة حنين، اثنا عشر ألفاً. يقول القرآن عنهم: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً﴾، إذ قالوا: لن نُغلب اليوم من قلة. وقعت الغزوة بعد فتح مكة، فشارك فيها جمع كبير من حديثي الإسلام، والمتحمسين للقتال ممن دخلوا في الإسلام بعد أن بسط سلطانه على جزيرة العرب. تحمسوا للقتال تحت سلطان الإسلام لما كان هو الطرف الغالب، فإذ بهم بعد لحظات من بدء القتال وميل كفته لصالح المشركين، يقول أمثلهم طريقة: ألا بطل السحر اليوم، ويصرخ آخر: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر، يعني المسلمين.
هذه الجموع بهذه النفسيات الانهزامية التي تسقط عند أول هبة ريح، كانت لتسبب هزيمة ساحقة للمسلمين لولا الحنكة العسكرية، ورباطة جأش رسول الله ﷺ.
في هذا الموقف العصيب، يقف رسول الله بكل شجاعة ينادي في الجيش: أنا النبي لا كذب، أنا ابن عبد المطلب. وموقفه يومئذ قمة الشجاعة إذ يخاطر بانكشاف موقعه للعدو، وقمة الثبات إذ فر عنه اثنا عشر ألفاً فلم يبق معه المئة فنزل عن بغلته صوب العدو، وقمة الحنكة العسكرية إذ وعى أهمية رفع معنويات الجيش وربط نفسيات القوم برباط قوي يجعلهم مستعدين للعودة للقتال بعد انهزامهم. ولولا موقفه ذاك لكانت نهاية المسلمين في تلك الموقعة.
وأمر رسول اللّه ﷺ عمه العباس – وكان جَهِيَر الصوت – أن ينادي الصحابة، قال العباس: فقلت بأعلى صوتي: أين أصحاب السَّمُرَة؟ قال: “فوالله لكأن عَطْفَتَهُم حين سمعوا صوتي عَطْفَة البقر على أولادها، فقالوا: يا لبيك، يا لبيك. ويذهب الرجل ليثني بعيره فلا يقدر عليه، فيأخذ درعه، فيقذفها في عنقه، ويأخذ سيفه وترسه، ويقتحم عن بعيره، ويخلي سبيله، فيؤم الصوت”.
يقول عباس محمود العقاد في كتابه عبقرية محمد: “وكان نابليون يقول إن نسبة القوة المعنوية إلى الكثرة العددية كنسبة ثلاثة إلى واحد، والنبي ﷺ كان عظيم الاعتماد على هذه القوة المعنوية التي هي في الحقيقة قوة الإيمان. وربما بلغت نسبة هذه القوة إلى الكثرة العددية كنسبة خمسة إلى واحد في بعض المعارك… ومعجزة الإيمان هنا أعظم جدّاً من أكبر مزية بلغها نابليون بفضل ما أودع رسول الله نفوس رجاله من صبر وعزيمة… وكل فضل هنا فهو فضل العقيدة والإيمان”.
القوة المعنوية، والتي هي لدى المسلمين: إيمانهم أن النصر بيد الله، وأنه ﴿إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ﴾ هي التي جعلتهم يتفوقون على عدوهم في جميع المعارك التي خاضوها إذا طبقوا شرط النصر الأوحد ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرتَ﴾.
لا يحب المسلمون أحداً أكثر من الله ورسوله، وإن توجب فالمسلم يضحي بحياته لنصرتهما. وإذا أساءت فرنسا للنبي الكريم ﷺ، فإنها تواجه ملياري مسلم مستعدين لبذل أرواحهم رخيصة لنيل شرف الدفاع عنه. واليوم نحتاج فعلاً لأن نستلهم نماذج مشرفة في الانتصار لرسول الله، نماذج ترسم خطا النصر الذي يليق بأمة قائدها هو فخر الكائنات وخير الرسل.
نستلهم نموذج الخليفة أبي بكر وحروب الردة، وسيدنا عمر يوم قال لرسول الله: “بل الآن لأنت أحب إلي من نفسي”، وسلطان المسلمين وآخر خلفائهم عبد الحميد الثاني يوم منع مسرحية تسيء لرسول الله من العرض في فرنسا.
المسلمون الذين يتشوقون لمثل هذه النماذج المشرفة، وهم يقولون: إنك يا رسول الله أغلى من أنفسنا، لديهم نموذج مشرف لنصرة رسول الله: إقامة دولته وتحكيم شريعته؛ وذلك بالعمل الجاد المجد لنشر الوعي على هذه الفكرة والمطالبة بتطبيقها من كل من يستطيع نصرة هذه الدعوة، دون النظر لما سيترتب عليها من تبعات ومخاطر أو تتكبده من مشاق، ودون النظر لأي من حسابات تخالف شعار ﴿كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾.
فالخوف من قوة الغرب العسكرية، يخالف الإيمان بالقوة المطلقة لله وعظمته. والخوف من مكر العدو وكيده، يصادم الإيمان بأن الله هو خير الماكرين. ومن يحسب حساباً لكثرة العراقيل يغيب عنه أن المطلوب هو أن تموت على الدرب لا أن تحصد الثمار.
وإيماننا بالله يحتم علينا الإيمان بحتمية إقامة الخلافة الراشدة الثانية، وحتمية تحرير القدس وكل فلسطين وعودتها للمسلمين، وفتح روما وانتشار الإسلام ليكون له السلطان في الأرض مهيمناً على ما سواه. وهذا الإيمان يلزمنا بالعمل. أما التذرع بالظروف وضعف المسلمين الراهن، فإن الأصل أن يكون هذا الضعف مدعاة للعمل للتغيير لا الاستكانة.
﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾