في فقد الخلافة لم يبارحنا الحزن والظلم
نحن نعيش مراحل مظلمة من التاريخ، تشبه مراحل الحياة الجاهلية في مكة المكرمة. مراحل ظلام بلغت حدا تجاوز فيه الانحلال الخلقي كل دركات الانحطاط، وهضم فيه القوي حق الضعيف، زمان عرف للظالم فيه الحق والامتياز، تماما كذلك الزمان الذي عاشته مكة قبل مجيء الإسلام، زمان حالك استمرأ الناس فيه الظلم واتخذوا من دون الله أربابا.
لكن استمرار الفتنة والظلم لا يلبثان يزولان بظهور الحق، كما يزول الظلام المخيم بانبلاج الصبح المستنير. وكذلك انتشر الشفق في مكة وتبدد الظلام وتعالى نور الصباح بحدوث النور الأول الذي وقع على غار حراء فبدد الظلام بنزول الوحي. لكن العقول التي اعتادت الظلام دائما ما تناصب النور والضياء العداء، وهو عين ما حدث في مكة، حيث إن الذين اعتادوا على التحكم بالناس عن طريق منظومة الفساد التي أسسوها في ظلام الجاهلية، لم يكونوا ليأذنوا بانهيار أنظمتهم ولا بزوال سلطانهم من بين أيديهم.
ولهذا السبب استمرأوا كل أنواع الظلم في حق الرسول ﷺ وصحبه حيث كان الرسول ﷺ يعمل على إعلاء حكم الإسلام في مكة. وحشد مشركو مكة في الهجوم جميع ما يمكنهم، ونظروا إلى الأمر باعتباره مسألة حياة أو موت.
لكن صاحب هذا النور وهو الله سبحانه وتعالى بدد ظلام الليل به، وأذن بأن يعم الضياء وجه الأرض، وما كان الله بعد هذا الإذن ليمكن تلك الزمرة التي اعتادت الظلمة من تغطية نوره، وما كان له أن يذر من نصر دينه بلا سند وظهير.
وهكذا كان، فقد تحولت مكة إلى مركز من مراكز الظلم، وجمدت على حالة الكفر، حتى أذن الله سبحانه وتعالى بفتح باب المدينة المنورة. فبينما صدت كثير من القبائل رسول الله ﷺ عندما راح يطلب النصرة لديها، جاءت طليعة الأنصار بنفسها من المدينة إلى رسول الله ﷺ. وكانت هذه اللقاءات بداية الحركة التي ستغير حال المسلمين خصوصا وتاريخ الإنسانية عموما. وهكذا ابتدأت رحلة الهجرة العظمى، وقام المسلمون بقيادة رسول الله ﷺ بإنشاء أول دولة أقاموا بها الحياة الإسلامية.
ومع إمكان تطبيق الإسلام في الحياة عن طريق هذه الدولة، أخذت الشعوب تنال شرف الاستضاءة بنور الإسلام أفواجا أفواجا بصورة سريعة، في البلاد التي انتشر فيها. وكما استمر هذا الحال طوال الحياة التي عاشها رسول الله ﷺ، فقد استمر بعد موته على الشكل نفسه خلال حكم خلفائه الراشدين.
وقد طبق الخلفاء الراشدون أحكام السياسة العامة التي أخذوها عن رسول الله ﷺ على وجه التمام، حتى إن عدالة الإسلام وعزته ورحمته وقدرته أخذت بالانتشار في القارات خلال فترة قصيرة من الزمن، وصار الإسلام أملا وخلاصا للشعوب التي رزحت تحت الظلم دهورا، ولم تكن ثمة قوة تستطيع الوقوف في وجه الجيوش التي لا تخاف شيئا سوى الله، ولا تنحني إلا له سبحانه، ولا ترجو أجرا من أحد سواه، وتقدم الرغبة في الحياة الأخرى عن الرغبة في هذه الدنيا. وكانت جميع الجيوش التي واجهت جيوش الإسلام تُهزم شر هزيمة. وبسبب معرفة الخلفاء التامة بالإدارة وقضية تطبيق الإسلام، كانت رسالة رسول الله ﷺ تنتشر انتشارا سريعا، حتى إنه لم يكد يمر يوم من غير أن تنضم قطعة جديدة من البلاد إلى دار الإسلام عن طريق الدعوة والجهاد.
كان الكفاح يرفع شعار “حتى يكون الدين على هذه البسيطة لله”، وكان هذا الشعار يمكن أصحابه من كفاح العدو بلا توقف ولا خوف ولا تعب، كما كان – بسبب ما يضيفه الإسلام من بصيرة سياسية – يبدد جميع حيل الأعداء وخدعهم. ونحن اليوم نرى ونفهم بصورة أوضح كم كان الخلفاء واعين وهم يديرون شؤون الدولة بناء على هذا الأساس. وبينما كانت دولة الخلافة تمثل مصدر الرعب للكفار وهي تقدم إلى العالم نظامها دهورا طويلة، كانت كالقلعة المنتصبة في مواجهة ظلمهم. ومهما امتد عمرها فلن يرى أي نظام للكفر شكلا من أشكال الراحة. نعم! لقد كان هؤلاء واعين على هذه الحقيقة، لذلك فقد تفننوا في استخدام أحط الأساليب على طول مئات السنين، حتى هدموا دولة الإسلام التي تأسست في السنة الأولى من الهجرة الموافقة لسنة 622 للميلاد، باستخدام العصابة التي استقطبوها في سنة 1342ه – 1924م.
وبمثل ما ارتفع قدر المسلمين بإنشاء الدولة الإسلامية حين جعلت حفظ دمائهم وأنفسهم وأموالهم مقاصد لها، فقد فقدوا بمثل ذلك عزتهم وهيبتهم حين هدمت. وبينما كانت الأمة الإسلامية إلى وقت قريب مضى هي مصدر الأمن والأمان لجميع بني الإنسان، صارت اليوم عاجزة حتى عن حماية نفسها. وبينما كان الجهاد في الأمس يعلن إذا امتدت يد عديم رجولة إلى حجاب امرأة مسلمة، انحط فيها أناس إلى دركة صاروا يدافعون فيها اليوم عن سفورها وتحررها من الحجاب بحجة الحريات.
إنه من الطبيعي أن يكون أول وأكبر ما خسرناه بفقد الخلافة هو فقداننا تطبيق الإسلام في واقع الحياة، هذا الحال الذي أشرع جميع أبواب المصائب والبلايا على مصاريعها. وعندما حرم المسلمون الدولة التي تحميهم، خضعوا لجميع أنواع عقائد الكفر، ودنست أراضيهم ببساطير الكفار، وديس شرفهم بالأقدام، ومنعت رايتهم من أن تخفق فوق ربوع أرضهم، وعُدّ العمل لتحكيم الإسلام جرماً، ودفع المجتمع نحو الانحطاط الخلقي دفعا، وتعرضت قلعة العائلة وحصانة النسل إلى الانتهاك في كل يوم، وأخذت حمم القذائف تتساقط كالمطر كل يوم فوق رؤوس أبناء الأمة، وأخذ الموت والخراب مأخذ الأحداث المعتادة، كما أخذت كل أنواع الظلم والفتنة تحيط بالعالم من جوانبه.
وهكذا صار الذي يشكل وجهة حياة المسلمين ليس الإسلام، بل الأفكار المنحطة والعقائد الباطلة. كما أحاطت مشاعر الخجل من قيمنا، وأعمال تقليد الغرب أول ما أحاطت بالفئة المثقفة منا وأصحاب الرأي، حتى عمت أجيالنا بعد ذلك. بل صار حتى علماؤنا يخجلون من الصدع بالحق خشية التعارض مع المعاصرة والحداثة المزعومتين، ولم يعد السياسيون قادرين على أخذ قرارات سياسية واقتصادية ذاتية مبنية على أحكام الإسلام وقيم المسلمين، بل صاروا يفتخرون بتقليد وتطبيق قوانين الغرب ومخرجاتهم.
وبينما كنا في الأزمنة السابقة لا ننبس ببنت شفة أمام هجمات الغرب على مقدساتنا وقيمنا، صرنا نحن من يهاجم هذه المقدسات والقيم بمرور الزمان! وصارت الأجيال التي نشأت على عداوة قيمها سهاما موجهة إلى نحور المسلمين!! لقد بعثرت أنظمة الكفر التي شرعت المحرمات جميع مقاييسنا وخطوطنا الحمراء. والذين زعموا أنهم تصدروا المشهد لتنشئة جيل متدين مؤمن، تجردوا للدفاع عن شياطين الخلاعة والضلالة.
وبينما الخلافة تقدم نظاما للعالم أجمع، نكص القوم على أعقابهم يدافعون اليوم عن الأفكار والأنظمة الناتجة عن حضارة الغرب العفنة. وبينما كنا أمة تقتفي الأمم آثارها في الإبداع والتكنولوجيا وسائر فروع العلم، صرنا مثالا للتخلف والتبعية.
وفي النتيجة، لم يعد لنا شيء من القيم والمبادئ والقدوة والخطوط الحمراء، وبسبب غياب الإسلام اليوم عن تقويم جميع مناحي حياتنا، فلم يعد شيء من أعمالنا يسير بشكل صحيح ولا قامة من قاماتنا معتدلة. أحاط الظلم والمظالم بكل الأنحاء، صار العصر الذي فقدنا فيه الخلافة ليس سوى عصر حزن ومظالم على الأمة، ولن يزول هذا الحزن ولن تزول هذه المظالم إلا بعودة الخلافة.