تطبيق الإسلام في دولة الخلافة وحده يعود بذلك “الزمن الجميل”
كان جدي رحمه الله يحدثنا عن الحياة التي عاشها في أوائل القرن العشرين مع الأهل والأقارب والأصدقاء والأصحاب والجيران، فيحكي عن زمن جميل تتعارف فيه جميع الأُسر ولا يمر اليوم إلا وتفقد الناس أحوال بعضهم بعضا، فالعلاقات في المجتمع كانت علاقات وطيدة، لا تحكمها المصالح المادية بل الاحترام المتبادل والأخوة الإسلامية والالتزام بصلة الرحم والإحسان إلى الجار، ذلك الزمن الجميل الذي كان يُترك فيه باب البيت مفتوحاً للترحيب بمحتاج أو بضيف، فالجميع يتسابق لقضاء حوائج الناس لتزداد الألفة بين المسلمين، بل وغير المسلمين، لنيل الأجر عند رب العالمين. فالكرم سائد والصدق والثقة هما الأساس في التعاملات ولا مكان لكذاب أو محتال أو لص. ونادراً ما كان يُسمع في ذلك “الزمن الجميل” عن جرائم كثيرة تُرتكب ولا عن ارتفاع في أسعار السلع الغذائية إلى حد تجويع الناس، ولا يُسمع عن أناس مشردين ومتسولين، فجميع الناس يبحثون عن أحوال الآخرين وعن “البركة” في الطعام والوقت وفي العلم وفي الأموال التي كانت تكفي ولو بسيطة.
وكنا نسمع قصص جدي رحمه الله ونقارنه بما نعيشه اليوم! فمن الذي يتجرأ على ترك باب بيته مفتوحا مع كثرة المشبوهين الذين يجوبون الطرقات وإنعدام الأمن؟! وكان يحدثنا جدي عن إخوان لهم من الأتراك ومن المصريين حين عاشوا في السودان، ويتحدث عن الخير الذي عَمّ بقدومهم وزواج الكثيرين من أبناء السودان من بنات مصر وتركيا بسهولة حين كان يبحث الأهل عن الخلق والدين، ونحن نتصور اليوم صعوبة الزواج أساساً من البلد نفسه ناهيك عن بلاد المسلمين الأخرى لارتفاع تكاليفه المفجعة في زمننا هذا… يتحدث جدي عن الطِيبة والثقة في النظام والالتزام والأخلاق والصلاة في المسجد (لا تجد من لا يصلي في الحي ولا يُترك هذا المنكر بدون إنكار! أما اليوم فإن بعض الشباب لا يتقبل النصح بحجة “الحرية الشخصية”) والصوم والإفطار معاً في الطريق وحفظ القرآن كاملاً على أنه تحصيل حاصل بين الناس، تحدث جدي عن بساطة الزراعة وتعميم الخيرات، عن الصناعة وعن التجارة، عاش جدي رحمه الله حياة لها طعم ولون كان الأساس فيها تقوى الله والسعي إلى تحكيم شريعته في العلاقات، لقد كان “الزمن الجميل”؛ زمن جميل هو زمن امتداد لدولة الخلافة ثم هدمها واجتياح الاستعمار الغربي الكافر بلاد المسلمين والاستيلاء على الحكم وتمزيق جسد الأمة وتحكيم الطاغوت في الدستور والقوانين.
كان الزمن جميلاً ما قبل هذا الدمار الشامل الذي يعيشه المسلمون اليوم، كانت حياة الناس حقيقية وُزعت فيها الأدوار والمسؤوليات التي تم إعداد الناس لحملها منذ صغرهم في البيوت وفي المدارس حيث تعلموا مقومات الشخصية الإسلامية القويمة وإتقان الأعمال المنوطة بهم فكبروا شخصيات سوية مثقفة تسعى للنهضة وللتقدم وللتعمير، واعين على هويتهم الإسلامية الحقيقية والقيام بالواجبات الشرعية طاعة وعبادة (جيل الرجال المحترمين والنساء المستورات)، فلم يتعد إنسان على حدود الله بسهولة كما هو الآن، كما كان حب رسول الله ﷺ يردع المسلم عن ارتكاب الفواحش، وكان الالتزام بالحلال والحرام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تحصيل حاصل.
عاشوا حياة وسعادة حقيقية ليست مصطنعة كالتي يعيشها الناس اليوم، حياة فقدت طعمها ولونها وعمت فيها فوضى الطواغيت والحكم بغير ما أنزل الله وتطبيق القوانين العلمانية الغربية وانقلبت فيها الثوابت والموازين بسبب الأنظمة الحاكمة التي نصبها الاستعمار الغربي الكافر بعد “استقلال” مزعوم، يشعر بذلك الناس اليوم ويتألمون في صمت، يتوقون إلى عودة ذلك الزمن الجميل والعيش الطبيعي بدلاً عن الحالة المستمرة من عدم الاستقرار فلا يشعرون بسعادة حقيقية ولا راحة حقيقية داخل الأسرة والأبناء ولا في إنجازاتهم العملية ولا في الخدمات ولا في الأكل والشرب والسفر. دائماً السائد حالة من الإرهاق والتعب والفقر والجهل والمرض والاستغلال والربح الفاحش، الإحساس بالإرهاق والاستنزاف المستمر عقلياً ونفسياً وصحياً ومادياً، شعور ينغص على الناس أجمل ما في الحياة؛ الزمن الذي لم تفقد فيه الحياة معانيها الحقيقية؛ لم يكن مطروحاً ارتكاب الذنوب والمعاصي، فالأصل التقوى والأخلاق الحسنة.
اليوم مشاعر القلق والتوجس والخوف غلبت على مشاعر الرعاية والحب حتى لأقرب الناس، كثرة الشكوى، المشاكل عامة ومتكررة بين مجرم يقتل روح الجماعة اسمه الرأسمالية الغربية ومجرم يقتل روح الالتزام بأحكام الإسلام اسمه العلمانية المدنية الغربية التي تُطبق في القوانين والدساتير الاستعمارية اليوم في بلاد المسلمين! وضع اقتصادي حالك وأوضاع اجتماعية مزرية وسياسة قذرة وتعليم متدن وإعلام فاسد وجيوش تقتل شعوبها وتنبطح لأعدائها! فالأنظمة الحاكمة هي أُس البلاء؛ فالحكم بغير ما أنزل الله قد سبَّب الظلم بأنواعه والقهر وضنك العيش، وانتشرت اللامبالاة والكُفر والإلحاد وشذوذ البشرية عن طريق الإيمان والعودة إلى زمن الجاهلية بعد أن ارتفع طائر الإسلام عالياً عندما كان القرآن والسنة مطبقين كدستور وقوانين في دولة الخلافة الواحدة التي حكمت العالم وعاشت الأمة الإسلامية والبشرية أروع الأزمان في التاريخ.
إن العودة إلى ذلك “الزمن الجميل” تكون بالعودة إلى تحكيم الشرع في حياة المسلمين والعيش على أساس الحكم بما أنزل الله في جميع مناحي الحياة والتخلص من هيمنة الكفار على النظام السياسي والاجتماعي والاقتصادي ومناهج التعليم والقيام برعاية الشؤون التي تحفظ الدين، والنفس، والمال، والعِرض، والعقل لصيانة الكرامة الإنسانية على أساس القرآن والسنة فقط، وإن العمل لذلك الاستخلاف على الأرض هو فرض على كل مسلم ومسلمة، وذلك هو الزمن الجميل؛ في الدنيا، قال تعالى في سورة النور: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾، وهو الفوز برضوان الله تعالى والزمن الجميل في الآخرة، قال تعالى في سورة السجدة: ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
كتبته لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
غادة محمد حمدي – ولاية السودان