دولة الخلافة ترعى كل شئون الرعية
في إحدى حروب الردة يوم اليمامة، كثر القتل في حفاظ القرآن الكريم ما دفع بعمر بن الخطاب لمشاورة الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما في جمع الصحف المكتوبة من القرآن، مخافة ضياع بعض آياته بموت الحفاظ، وكان الرسول ﷺ التحق بالرفيق الأعلى والقرآن مكتوب على اللحاف والعسب والأكتاف في ذلك الوقت، فرفض أبو بكر الفكرة إلا أن عمر ظل يراجعه حتى استجاب، فأمر بجمع الصحف التي كُتبت بين يدي الرسول ﷺ ثم أمر الخليفة أبو بكر زيد بن ثابت أن يتتبع القرآن ويجمعه. وقد كانت مهمة جمع القرآن التي أوكلت لسيدنا زيد بلغت من الصعوبة عبر عنها هو بنفسه حين قال: “فوالله لو كانوا كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن”.
هذا الموقف تحديداً أظهر لنا أثر البطانة الصالحة التي تحيط بخليفة المسلمين من الخوف والحرص على عدم ضياع القرآن، رغم علمهم أن هذا القرآن محفوظ بحفظ الله له من الضياع أو التحريف، وقد استجدت مشكلة أخرى كادت تعصف بوحدة الأمة وكيانها المتين، وذلك في السنة الثانية من خلافة عثمان بن عفان، فجاء حذيفة بن اليمان إليه رضي الله عنهما في المدينة وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينيا وأذربيجان مع أهل العراق، فوجد حذيفة الناس مختلفين في قراءة القرآن الكريم، ويكفر بعضهم بعضاً، وقد اختلف اثنان في آية من سورة البقرة، قرأ أحدهما ﴿وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ﴾ وقرأ الآخر (وأتموا الحج والعمرة للبيت) فغضب حذيفة، فجاء إلى عثمان فقال: “يا أمير المؤمنين أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود والنصارى”، فأدرك الخليفة عثمان رضي الله عنه خطورة مقالة حذيفة، وما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع إذا لم يعالج الأمر فأرسل إلى السيدة حفصة وطلب منها الصحف التي كتبت بين يدي الرسول ﷺ، والتي قام أبو بكر بجمعها وكانت محفوظة عندها، وكلف كلاً من زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث بن هشام، فنسخوها في سبعة مصاحف وأرسلت النسخ الجديدة التي اعتمدها وأمر بحرق كل نسخ القرآن التي تخالف هذه النسخة الجديدة في مختلف الأمصار إلى سبعة اتجاهات؛ إلى مكة والشام والبحرين والبصرة والكوفة وواحد بالمدينة.
هذا العمل العظيم الذي قام به خليفة المسلمين عثمان رضي الله عنه أدى إلى حفظ وحدة الأمة من الاختلاف والتفرقة والتشرذم، ومنع حدوث الانشقاق بين المسلمين في قرءاة القرآن نتيجة الاختلاف في وجوه القرآن حين كانوا يقرأونه بلغاتهم على اتساع اللغات، فأدى ذلك بهم إلى تخطئة بعضهم بعضا فخشي عثمان من تفاقم الأمر فنسخ تلك الصحف في مصحف واحد.
هذان مثالان فقط نسلط الضوء من خلالهما على الدولة الإسلامية، التي دأبت على رعاية شؤون الأمة ومصالحها الحيوية، وهذه هي طبيعة الدولة عندما تكون قائمة على أساس مبدأ صحيح، دولة أسمى غاياتها أن تتمتع رعيتها بأعلى درجات السمو الإنساني، وقد بلغ الإنسان في كنف دولة الخلافة من الرقي ما لم تبلغه شعوب اليوم التي تدعي التحضر والرقي، فقد أظهرت رسالة أحد زعماء الغرب زمن العصور الوسطى مدى ما تمتع به الناس في ظل دولة الرعاية الخلافة، جاء فحوى الرسالة لخليفة المسلمين تقول: (إلى صاحب العظمة خليفة المسلمين هشام الثالث الجليل المقام من جورج الثاني ملك إنجلترا والسويد والنرويج إلى الخليفة ملك المسلمين في مملكة الأندلس هشام الثالث الجليل المقام؛ بعد التعظيم والتوقير نفيدكم أننا سمعنا عن الرقي العظيم الذي تتمتع بفيضه الصافي معاهد العلم والصناعات في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه الفضائل لتكون بداية حسنة في اقتفاء أثركم لنشر أنوار العلم في بلادنا التي يحيط بها الجهل من أركانها الأربعة وقد وضعنا ابنة شقيقنا الأميرة دوبانت على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز لتتشرف بلثم أهداب العرش والتماس العطف لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم، وقد زودت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة لمقامكم الجليل أرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص.. خادمكم المطيع جورج الثاني) انتهى
هذه هي الخلافة يا سادة، الخلافة التي يفتقدها العالم، ففي زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز الخليفة الراشد فوجئ بشكاوى الناس من كل الأمصار، وكانت الشكوى من عدم وجود مكان لتخزين الخير والزكاة، ويسألون ماذا نفعل؟ فقال رحمه الله: أرسلوا منادياً ينادي في ديار الإسلام: أيها الناس من كان عاملاً للدولة وليس له بيتٌ يسكنه فليـبن له بيت على حساب بيت مال المسلمين. يا أيها الناس: من كان عليه دينٌ لا يستطيع قضاءه، فقضاؤه على حساب بيت مال المسلمين. يا أيها الناس، من كان في سن الزواج ولم يتزوج، فزواجه على حساب بيت مال المسلمين، فتزوج الشباب الأعزب كلهم، وانقضى الدين عن المدينين، وبني بيت لمن لا بيت له، وصرف مركب لمن لا مركب له، ولكن المفاجأة الكبرى في الأمر هي أن الشكوى ما زالت مستمرة بعدم وجود أماكن لتخزين الأموال والخيرات، فأرسل عمر إلى ولاته “جودوا ببعض خيرنا على أبناء اليهود حتى يستكفوا”، فأعطوهم، ولا يزال في المال بقية! فقال: “اشتروا به قمحاً وانثروه في رؤوس الجبال حتى لا يقال جاع طيرٌ في بلاد المسلمين”.
هذه هي الخلافة يا سادة، أليس حرياً بنا إعادتها راشدة على منهاج النبوة؟!
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مجاهد آدم – ولاية السودان