خنساء فلسطين!
مشاهد لأرض فلسطين الجريحة، واحتلال قاسٍ لم يبقِ شيئاً إلا وطالته أيدي يهود، فقد استطاعت أن تجعل من غزة ركاما محطما، لكنها لم تستطع كسر إرادة هذه النفوس التي صقلها الإسلام، نفوس جعلت من عقيدته منهجا لها، تقاتل من أجله. نعم نفوس تربت على العز والفداء والتضحية بالغالي والنفيس من أجل دينها وكرامتها.
ومن خلال هذه المشاهد التي تنقلنا إلى مشاهد أسلافنا العظام لتعيد لنا ذكرياتهم المشرفة التي نستلهم منها الدروس والعبر، تلك النسوة اللاتي سطرن بتاريخهن المشرف أروع مشاهد التضحية والبذل في سبيل الله.
رأينا كيف استطاع الإسلام أن يصنع من المجتمع الجاهلي نسوة يقدمن لنا أروع الأمثلة في التضحية في سبيل الإسلام، تلك الصورة التي لا زالت عالقة في ذاكرة الزمن، إنها الصحابية الجليلة، تماضر بنت عمرو من قبيلة سليم، المشهورة بالخنساء، تلك المرأة التي عاشت حقبتين من الزمن؛ حقبة في الجاهلية بعد وفاة شقيقها صخر حتى أبكت الصخر في رثائها عليه، ولكن ما إن دخلت الإسلام حتى قدّمت لهذا الدين أبناءها الأربعة دون جزع، وهي صابرة محتسبة تتلقى خبر استشهادهم وتحمد الله على هذه البشرى!
يا لعظمة هذا الدين ويا لرفعة هذا التحول الذي حول الجزع صبرا وبشرى! لقد تغلبت مفاهيم الجهاد في سبيل الله على مظهر الأمومة… واليوم المشهد يعيد نفسه في نساء غزة المسلمات الصابرات المجاهدات، فالصور التي نشاهدها من خلال الفضائيات ربما تكون أبلغ من الكلام؛ وجدنا أماً تستقبل نبأ استشهاد فلذة كبدها بالفرح داعية الله سبحانه أن يجمعها به في جنات النعيم، ووجدنا الأم التي تشارك في حمل جثمان ولدها الشهيد وهي تودعه بالقبل والزغاريد.
يا لروعة هذا الدين العظيم الذي يهون في سبيله الغالي والنفيس! والمشاهد كثيرة وكثيرة… ولكن مما راعني وشدني ذلك الموقف الذي لم أتمالك نفسي إجلالا لهذا المشهد؛ أم ثكلى تودع ولدها الرابع الذي التحق بقافلة إخوته الثلاثة الشهداء وهي تقول له: سميتك أيوب تبركاً بنبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام.
هذه وتلك المواقف المشرفة التي صاغتها المفاهيم الإسلامية في عقول ونفسيات نساء غزة العزة، الصابرات المحتسبات في سبيل الله يقدمن الغالي والنفيس… هكذا يثبتن بصبرهن وثباتهن أن حالة الشاعرة العربية الخنساء هي حالة غير منقطعة، بل هي فكرة متكررة ظهرت وتظهر في كثير من النساء المسلمات وإن لم يأخذن شهرة كشهرة الخنساء.
فسلوك الإنسان مرتبط بمفاهيمه، ونحن أمة صنعها دينها وعقيدتها، لذلك تبقى تلك الصور تتكرر على مر الزمان في فلسطين وغيرها من البلاد الإسلامية كلما وطأت أرضَها أقدامُ المحتلين، مع أنها ترزح تحت حكم الطغاة.
إن هذه الحياة دار فناء، وإنها ممر وليست مستقراً، وإنها مخلوقة لله عز وجل، وإن هناك بعثاً وحساباً، جنة أو ناراً، وإن من يستشهد في سبيل الله مصيرهم أحياء عند ربهم يرزقون.
فطوبى لمن رزق الشهادة، وهنيئا لكل أم أو أب صابر محتسب قدم ولده في سبيل الله، وهذه بشرى رسول الله ﷺ إليكم يا من قدمتم أبناءكم شهداء في سبيل الله، إذ يقول ﷺ: «يُشَفَّعُ الشَّهِيدُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» رواه ابن حبان.
أسأل الله العزيز أن يعيد لهذه الأمة عزها ورفعتها، وأن يعيد لنا دولتنا الإسلامية التي بها تصان الحقوق وتحفظ النفوس.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
مؤنس حميد – ولاية العراق