جريدة الراية ردٌّ على الدكتور أحمد الريسوني في إنكاره وجوب الخلافة (1)
2015-04-08م
ما أن أعلن “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” الخلافة مطلع رمضان الفائت سنة 1435 هجرية حتى توالت ردود الفعل من شتى الجهات الإسلامية ببيان عدم شرعيتها وعدم توفر شروطها وأنها مجرد لغو، وهذا صحيح.
وقد اتخذ العلمانيون هذا الأمر ذريعةً للتهجم على فكرة الخلافة وللافتراء على الإسلام وتاريخه ولرفض فكرة إقامة الدولة الإسلامية وتطبيق الشريعة.
لا يُستغرب صدور هذا الأمر عن العلمانيين وعن المدسوسين على قضايا الأمة، فهم مهزومون أمام تنامي قوة الفكر الإسلامي، وقانطون إزاء إقبال الأمة عليه.
ولا يستحقون الالتفات إلى ضلالاتهم، وبخاصة عندما يصورون بجهالاتهم أن الإسلام لم ينص على دولة ولا على أنظمة حكم أو اقتصاد أو غير ذلك… وتجاهلهم طبيعي إذ إنهم في حالة ذبول وأفول، وما هم على شيء، وكما يقال: الضرب في الميت حرام.
أما أن يأتي الكلام نفسه من أشخاص معدودين في العلماء ومن الموجهين في الحراك الإسلامي، فهذا لا يصح السكوت عليه، إذ هو يعرقل الدعوة الإسلامية ويطيل أمد التبعية والانحطاط.
فقد نشر الدكتور أحمد الريسوني مقالاً له على موقع الجزيرة نت تحت عنوان “الخلافة على منهاج النبوة والخلافة على منهاج داعش” أتى فيه بافتراءات مستغربة ومستنكرة، وأُرفقت مقالته على الموقع بصورة تشير إلى حزب التحرير، بما يوهم بالربط بين حزب التحرير ومنهاج تنظيم الدولة حسب تعبيره، علماً بأن حزب التحرير قد أعلن موقفه من تلك الخلافة المزعومة فور إعلانها وبيَّن أنها لغو.
وتلقفت بعض المواقع تلك المقالة بهدف محاربة فكرة الخلافة والنعي على توجه الأمة إليها كمطلب وبديل عن النظم القائمة التي عم بلاؤها وظهر فسادها وثار الناس عليها، وروّجت لها ولصاحبها بأوصاف منها أنه عالم مقاصدي وتجديدي وما شاكل ذلك.
ينفي الدكتور وجوب الخلافة في الإسلام، ويخوض في ذلك وكأنه لا يوجد بشأن الخلافة سوى حديثين ينفي أحدهما الآخر، وأنهما من مرتبة الحديث الحسن، والحديث الحسن لا يُبني عليه شيءٌ مهمٌ! يقول: “عمدة الحالمين بالخلافة وعودتها، هو الحديث الذي رواه الإمام أحمد وغيره، وهو عن حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء الله أن يرفعها، ثم تكون ملكا عاضا، فيكون ما شاء الله أن يكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكا جبرية، فتكون ما شاء الله أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج نبوة».
وهذا الحديث، أولا: لا يخلو من هشاشة في ثبوته وصحته، وأقصى ما يقوله فيه أهل الاختصاص هو أنه “حَسَنُ الإسناد”. ومثل هذا لا يبنى عليه شيء من الأحكام الغليظة والأمور الجسيمة، وقصارى ما يصلح له هو التبشير وبث الأمل، أما إذا جد الجد وعظمت الأمور، فلا بد من أدلة صحيحة متينة، وإلا فلا.
وثانيا: هناك حديث آخر في الموضوع، وهو في مثل درجة هذا أو أعلى منه، وأعني به حديثَ سفينةَ رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي اللهُ مُلكه من يشاء». فهذا الحديث لم يذكر خلافة ثانية تأتي وتكون على منهاج النبوة بعد الخلافة الأولى.” انتهى
حقاً إن المرء ليأخذه الذهول وهو يطالع مثل هذه الفِرى ويستغرب هذه الجرأة على الدين! أفلم يجد الدكتور الريسوني في القرآن أو في السنة أو في أعمال الصحابة وتاريخ الخلفاء الراشدين ما ينقض أقواله هذه!
يكفي للرد على الدكتور الريسوني الإشارة إلى بعض البدهيات الشرعية:
أولاً: إن الحديث الحسن معمول به في أحكام الشرع بلا خلاف، وفي كل الأمور. أما قوله: “إذا جد الجد وعظمت الأمور، فلا بد من أدلة صحيحة متينة، وإلا فلا” فليس له قيمة شرعية. وحديث حذيفة بن اليمان الذي يبشر بالخلافة، حسّنه بعض علماء الحديث وصحّحه بعضهم، والأخذ به واجب في الحالين.
ثانياً: حديث سفينة الذي استدل الريسوني بأنه لم يذكر خلافة ثانية، لا يتعارض مع حديث حذيفة، وعدم ذكره خلافة ثانية ليس نفياً لها، وهذا استدلال بما لا يدل، وليس هو من العلم في شيء، وأعجب لعالِم يلقي الكلام هكذا على عواهنه ويمضي، كأنه لا يدرك أن في الناس من يدقق في الكلام ويحاكمه.
ثالثاً: أليس في قوله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾ [سورة النور: 55]، إثبات البشرى بالخلافة التي يحاول أن ينفيها؟!
رابعاً: استهزأ بالقائلين بوجوب الخلافة فسماهم حالمين. وقال إن حديث حذيفة هو عمدة الحالمين بوجوب الخلافة، وهذا غير صحيح. فحزب التحرير مثلاً ذكر أدلة عدة على وجوب الخلافة، وليس من بينها هذا الحديث. وهاك بعضها:
عن ابن عمر قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «… ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتةً جاهلية» رواه مسلم، والبيعة لا تكون إلا للخليفة.
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي، وستكون خلفاء فتكثر»، قالوا فما تأمرنا؟ قال: «فوا ببيعة الأول فالأول، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم» رواه مسلم، وفي هذا دلالة على وجوب بيعة الخليفة ووجوب الوفاء بها.
وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «… فإنه ليس أحدٌ من الناس خرج من السلطان شبراً فمات عليه إلا مات ميتةً جاهلية» رواه مسلم، فهذا إيجاب لاستمرارية البيعة للخليفة.
خامساً: إن الإجماع منعقد على وجوب الخلافة من لدن الصحابة رضوان الله عليهم، وأئمة العلم والفقه على هذا.
هذا غيض من فيض مما افتراه الريسوني بإنكاره وجوب الخلافة ومن الرد عليه، والعجب كل العجب من جهله بهذه الأدلة وغيرها أو تجاهلها.
يتبع إن شاء الله…
بقلم: محمود عبد الكريم حسن ـ لبنان
المصدر: جريدة الراية