جريدة الراية ردٌّ على الدكتور أحمد الريسوني في إنكاره وجوب الخلافة (2)
2015-04-15م
بينا في الحلقة السابقة إنكار الدكتور أحمد الريسوني لوجوب الخلافة، بمقال نشره على موقع الجزيرة نت تحت عنوان “الخلافة على منهاج النبوة والخلافة على منهاج داعش” ورددنا مزاعمه التالفة بأدلة مشتهرة بين أهل العلم، ونتابع في هذه الحلقة الثانية والأخيرة بيان بعض شطحاته والرد عليها.
ابتدأ الدكتور الريسوني مقاله بالمدح والإشادة بحال الناس في العقود الثلاثة التي سبقت اندلاع الثورات في بعض البلاد العربية، لأنهم – بزعمه – كانوا قد ابتعدوا عن مطلب الخلافة، هكذا! ثم يبدأ هجومه على فكرة الخلافة بالنعي على حال الأمة بسبب توجهها الذي ظهر جليّاً إبان الثورات إلى مطلب الحكم بما أنزل الله وإقامة دولة الخلافة، فكأن الخلافة نكسة بالنسبة له! يقول: “على مدى العقود الثلاثة الأخيرة خاصة، نجد رؤية هذا الجيل تترسخ في صفوف الحركات الإسلامية قديمها وجديدها، وتمضي ناسخة أو مغيِّبة شعار الخلافة الإسلامية والدولة الإسلامية، ومركزة على المحتويات لا على المصطلحات، وعلى المعاني لا على المباني. وفجأة في الأيام الأخيرة، عاد هذا الشعار إلى الساحتين الإعلامية ثم العلمية، وانفجر السجال على أشده حول “مسألة الخلافة”، وعاد أمل الخلافة وحلمها يخيمان على الآلاف من الشباب المسلمين عبر العالم، فمنهم من بايع، ومنهم من أيد من بعيد، ومنهم من يهفو وينتظر.”
ويُبدي الريسوني دهشته بسبب جملة وردت في بيان “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين” هي: “إننا كلنا نحلم بالخلافة الإسلامية على منهاج النبوة، ونتمنى من أعماق قلوبنا أن تقوم اليوم قبل الغد”.
غريب ومستنكر هذا التحامل على الخلافة، مثلما هو غريب ومستنكر تجاهل الأدلة المؤكدة لوجوبها، وأشد غرابةً ونكارة الاستهزاء بوجوبها وإنكاره بينما هو قطعي، فإقامتها فرض قطعي بل هي تاج الفروض الذي به تتم سائر الفروض ويُقام الدين، فما سر هذا الموقف من الدكتور الريسوني ضد الخلافة؟ الأمر يثير تساؤلات!
نقول رداً عليه: أن تعود الخلافة مطلباً للأمة، وهدفاً تسعى إليه وتتشوق هو أمر محمود ودليل صحوة وعودة إلى الله، وهو انتصارٌ على الكفار وعملائهم، وبشرى بانتصار أعظم عند قيامها فعلاً. وهذا مما يفرح به وله المؤمنون المحبون لله ورسوله ودينه، ولا يسع مؤمناً يحب الله ورسوله ودينه أن يأسف لهذا الأمر بل أن يذمه، ويسخر منه.
لن يكون مفاجئاً بعد الذي بيناه من أمر الدكتور الريسوني حجمُ الغفلة عن بدهيات الشريعة التي تجعله يتجرأ فيقول: “والشرع … لم يفرض علينا أبدا أن نقيم شيئا نسميه الخلافة، أو الخلافة الإسلامية، أو دولة الخلافة، ولا فرض علينا أن نقيم شكلا معينا ولا نمطا محددا لهذه الخلافة أو لهذه الدولة، ولا أمرنا – ولو بجملة واحدة – أن نسمي الحاكم خليفة، وأن نسمي نظام حكمنا خلافة.”
هكذا، ينكر أدلة الشرع الصحيحة والكثيرة والمتعاضدة على حكم الخلافة وأنها قطعية الوجوب، فيخالف إجماع الصحابة، والعلماء والأمة، عبر العصور – إضافةً إلى ما سبق ذكره – ويكرر أقوال العلمانيين أعداء الإسلام فيقول بأن الخلافة ليست واجبة، ويدعي أن الشريعة لم تبين نظام حكم وبأنه لا ضرورة لوجود الخلافة، بل ويتحدى من يقول بوجوبها!
وليت شعري، ماذا كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد الهجرة، ألم يكن رئيس الدولة! ألم يوجه المجاهدين ويعقد المعاهدات ويقضِ بين الناس، ألم يطبق العقوبات ويرعَ الشؤون العامة كلها، ويفصل في الخصومات، ويَجْبِ الزكاة ويُعْطِ الفقراء؟ هذا نموذج من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وحكمه، فأين ذهب الريسوني بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [سورة الأحزاب: 21]؟ وبقوله تعالى: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ… ﴾ [سورة آل عمران: 31]؟
وماذا فعل الصحابة بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ ألم يبايعوا الخليفة بعد الخليفة بعد الخليفة… وماذا فعل أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم؟ ألم يكونوا حكاما وخلفاء وقادة دولة حكموا بالإسلام وفتحوا البلدان وحملوا إليها الإسلام، وأخرجوا الناس من الظلمات إلى النور، أليس هؤلاء الخلفاء الراشدون هم القدوة للمسلمين في الحكم؟
عن العرباض بن سارية رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «… فَإِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا، فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيينَ، عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» رواه أبو داود والترمذي وقال حديث حسن صحيح. وهذا من النبي صلى الله عليه وسلم ومن الخلفاء الراشدين زمنَ الصحابة رضوان الله عليهم يردُّ جهل الجاهلين وافتراء المفترين في أنه ليس هناك نظام حكم في الإسلام.
وأين ذهب الريسوني بمقاصد الشريعة التي يزعم العلم بها وهي تؤكد وجوب الخلافة التي تحفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال والكرامة والأمن ووحدة الدولة والأمة؟ ألم يطلع الدكتور الريسوني على ما قرره شيخ المقاصد الشاطبي – رحمه الله – في الموافقات عندما قرر عِظمَ شأن الخلافة في أعظم مقصد من مقاصد الشريعة وهو حفظ الدين، ومثل ذلك قال في الجهاد، وكلاهما الخلافة والجهاد من الوسائل، (أي من الطريقة)، ومع ذلك فكلاهما عنده من الضروريات. فمالِ هذا الريسوني يجهل المقاصد عندما تُقرِّر وجوب الخلافة وأنها من الضروريات؟
وعليه، تسقط مزاعم الريسوني، ويسقط تبعاً لذلك ما افتراه من تبديل وتحريف بسبب أهواء يسميها مقاصد الشريعة وما هي إلا مقاصد الحكام، ومن ذلك قوله المنكر: “ولذلك أقول: لو اختفى لفظ “الخلافة والخليفة” من حياة المسلمين إلى الأبد، ما نقص ذلك من دينهم مثقالَ ذرة ولا أصغرَ منها. ولكن إذا اختفى العدل، واختفت الشورى، وشرعية الحكم ليوم واحد، فتلك طامة كبرى.”
ولعمري، إن هذا القول لهوَ من الغش للأمة، وهو باطل يؤصِّل لتحريف الشريعة وتبديلها، فماذا لو اختفى لفظ الصلاة والطهارة، ولفظ الصيام والتقوى، ولفظ الإيمان والجهاد من حياة المسلمين، وبقي العدل والشورى وحرية الانتخاب والتشريع؟ أفليس هذا من التحايل في الكلام والتبديل لشرع الله؟ بلى والله وإنه لمن الاختلاف الكثير الذي حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم ومن محدثات الأمور التي نهى عنها. ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ * وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ﴾ [سورة القلم: 7-9]. والحمد لله رب العالمين.
بقلم: محمود عبد الكريم حسن – لبنان
المصدر: جريدة الراية