المادة -72-
المادة 72 – أبـرز مـا يهـدد الأمـن الداخـلي الذي تـتـولى دائرة الأمن الداخلي معالجته هو: الردة، البغي والحـرابة، الاعتداء على أموال الناس، التعدّي على أنفس الناس وأعراضهم، التعامل مع أهل الرِّيَب الذين يتجسسون للكفار المحاربين.
إن عمل دائرة الأمن الداخلي هو حفظ الأمن الداخلي للدولة. والذي يمكن أن يؤدي إلى تهديد الأمن الداخلي أعمال عدة:
منها الردة عن الإسلام، والبغي أي الخروج على الدولة، إما بأعمال الهدم والتخريب، كالإضرابات، والاحتلالات للمراكز الحيوية في الدولة والاعتصام فيها، مع التعدّي على ممتلكات الأفراد، أو ممتلكات الملكية العامة، أو ممتلكات الدولة. وإما بالخروج على الدولة بالسلاح لمحاربتها.
ومن أعمال تهديد الأمن الداخلي كذلك الحِرابة، أي قطع الطرق، والتعرض للناس لسلب أموالهم، وإزهاق أرواحهم.
وكذلك فإن من أعمال تهديد الأمن الداخلي الاعتداء على أموال الناس بالسرقة، والنهب، والسلب، والاختلاس، والتعدي على أنفس الناس بالضرب والجرح والقتل، وعلى أعراضهم بالتشهير والقذف والزنا.
كما أن من أعمال دائرة الأمن الداخلي التعامل مع أهل الريب، ودفع خطرهم وضررهم عن الأمة وعن الدولة.
هذه أبرز الأعمال التي تؤدي إلى تهديد الأمن الداخلي. ودائرة الأمن الداخلي تقوم على حماية الدولة والناس من جميع هذه الأعمال؛ ولذلك فإن من يرتدّ، ويحكم عليه بالقتل إن لم يرجع بعد أن يُستتاب، تقوم هي بتنفيذ القـتل فيه، وإذا كان المرتدون جماعة فلا بد من مكاتبتهم، وطلب أن يَرجعوا إلى الإسلام، فإن تابوا ورجعوا والتزموا بأحكام الشرع سُكِت عنهم، وإن أصَرّوا على الردة يقاتلون، فإن كانوا جماعة قليلة، ويمكن للشرطة وحدها أن تُقاتلهم قامت بمقاتلتهم، وإن كانوا جماعة كبيرة، ولا تستطيع الشرطة أن تقدر عليهم، عليها أن تطلب من الخليفة أن يزودها بقوات عسكرية لمساعدتها، فإن لم تكفِ القوات العسكرية، طلبت من الخليفة أن يأمر الجيش بمساعدتها.
هذا بالنسبة للمرتدين. وأما بالنسبة للبغاة فإن كانت أعمالهم غير مسلحة، بأن اقتصرت على الهدم والتخريب، بالإضرابات والتظاهرات والاحتلالات للمراكز الحيوية، مع التعدّي على ممتلكات الأفراد والدولة والملكـية العامـة وتحـطـيـمـهـا، فإن دائرة الأمن الداخلي تقتصر على اسـتخـدام الشرطة لإيقاف هذه الأعمال الهدامة، فإن لم تستطع بها أن توقف هذه الأعمال طلبت من الخليفة أن يمُدّها بقوات عسكرية، حتى تستطيع أن توقف أعمال الهدم والتخريب، التي يقوم بها هؤلاء البغاة الخارجون على الدولة.
وأما إن خرج البغاة على الدولة، وحملوا السلاح، وتحيّزوا في مكان، وكانوا قوة لا تتمكن دائرة الأمن الداخليّ بالشرطة وحدها من إرجاعهم، والقضاء على تمرّدهم وخروجهم، فإنها تطلب من الخليفة أن يمُدّها بقوات عسكرية، أو بقوة من الجيش حسب الحاجة، لأجل أن تجابه الخارجين. وقبل أن تُقاتلهم تراسلهم، وترى ما عندهم، وتطلب منهم الرجوع إلى الطاعة، والدخول في الجماعة، والكفّ عن حمل السلاح، فإن أجابوا وتابوا ورجعوا والتزموا بأحكام الشرع كفّتْ عنهم، وإن امتنعوا عن الرجوع، وأصَرّوا على الخروج والمقاتلة، قاتلتهم قِتال تأديب، لا قِتال إفناء وتدمير، حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويتركوا الخروج، ويرموا السلاح. كما قاتل الإمام عليّ رضي الله عنه الخوارج. فإنه كان يدعوهم أولاً، فإن تركوا الخروج كفّ عنهم، وإن أصرّوا على الخروج قاتلهم قتال تأديب حتى يرجعوا إلى الطاعة، ويتركوا الخروج، وحمل السلاح.
وأما المحاربون، وهم قُطّاع الطرق، الذين يتعرضون للناس، ويقطعون الطريق، ويسلبون الأموال، ويزهقون الأرواح، فإن دائرة الأمن الداخلي ترسل لهم الشرطة لمطاردتهم، وإيقاع العقوبة عليهم بالقتل والصَّلْب، أو القتل، أو قطع أيديهم وأرجلهم من خِلاف، أو نفيهم إلى مكان آخر، حسب ما جاء في الآية الكريمة: ((إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ)) [المائدة 33]. ويكون قِتالهم ليس كقِتال البُغاة الخارجين على الدولة. فقتال البُغاة قتال تأديب، ولكن قِتال قُطّاع الطرق قِتال قَتْل وصَلب، يقاتلون مُقبلين ومُدْبرين، ويُعامَلون كما ورد في الآية. فمَنْ قَتَلَ وأخذ المال يُقتل ويُصلب. ومَنْ قَتَلَ ولم يأخذ المال يُقتَل ولا يُصلَب. ومَنْ أخذ المال ولم يقتُل تُقطَع يده ورجله من خِلاف، ولا يُقتَل. ومن أظـهـر السلاح، وأخاف الناس، ولم يَقتُل، ولم يأخذ المال، لا يُقتَل، ولا يُصـلَب، ولا تُقطَع له يدٌ ولا رِجل، وإنما يُنفى مِن بلده إلى بلد آخر بعيد داخل الدولة.
ودائرة الأمن الداخلي تقتصر على استخدام الشرطة في مُحافظتها على الأمـن، ولا تسـتخـدم غير الشرطة، إلا في حالة عجز الشرطة عن إقـرار الأمـن، فتطلب عند ذلك من الخليفة أن يمدها بقوات عسكرية أخرى، أو بقوة من الجيش، حسب ما تدعو الحاجة إليه.
أما التعدي على الأموال بالسرقة والاختلاس والسلب والنهب، وعلى الأنفس بالضرب والجرح والقتل، وعلى الأعراض بالتشهير والقذف والزنا، فإن دائرة الأمن الداخلي تقوم بمنعها بواسطة يقظتها وحراساتها، ودورياتها، ثم بتنفيذ أحكام القضاة على مَن يقومون بالتعدي على الأموال، أو الأنفس، أو الأعراض. وكل ذلك لا يحتاج فيه إلا إلى استخدام الشرطة فقط.
ويعهد إلى الشرطة بحفظ النظام، والإشراف على الأمن الداخلي، والقيام بجميع النواحي التنفيذية؛ لحديث أنس المار في جعل النبي صلى الله عليه وسلم قيسَ بن سعد بين يديه بمنزلة صاحب الشُرطَة، فإنه يدل على أن الشُرطَة يكونون بين يَدَيِ الحكام، ومعنى كونهم بين يديهم هو قيامهم بما يحتاجه الحكام من قوة التنفيذ، لتنفيذ الشرع، وحفظ النظام، وصيانة الأمن، وتقوم كذلك بالعسس، وهو الطواف بالليل، لتتبع اللصوص، وطلب أهل الفساد، ومن يُخشى شرهُم. وقد كان عبد الله بن مسعود أميراً على العسس في عهد أبي بكر، وكان عمر بن الخطاب يتولى بنفسه العسس، وكان يصطحب معه مولاه، وربما استصحب عبد الرحمن بن عوف. ولذلك كان من الخطأ ما يُفعَل في بعض البلدان الإسلامية من إقامة أصحاب الحوانيت حراساً في الليل يحرسون بيوتهم، أو إقامة الدولة حراساً على نفقة أصحاب الحوانيت؛ لأن هذا من العسس، وهو على الدولة، وهو من وظائف الشُرطَة، فلا يُكلَّف به الناس، ولا يُكلَّفون بنفقاته.
أما التعامل مع أهل الرِّيَب، وهم الذين يُخشى منهم ضرر وخطر على كيان الدولة أو الجماعة أو حتى الأفراد، هذا النوع من الرِّيب يجب تتبعه من قبل الدولة، ومن اطلع على شيء منه وجب عليه التبليغ عنه. والأدلة على ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال: «كُنْتُ فِي غَزَاةٍ، فَسَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ أُبَيٍّ يَقُولُ: لاَ تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِهِ، وَلَئِنْ رَجَعْنَا مِنْ عِنْدِهِ لَـيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِعَمِّي أَوْ لِعُمَرَ، فَذَكَرَهُ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَدَعَانِي، فَحَدَّثْـتُهُ …» الحديث، وفي رواية مسلم «فأتيتُ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فأخبرتُه بذلك». وابن أبيّ كان معروفاً تردُّدُه على الكفار المحاربين، وكذلك معروفة علاقاته معهم مثل ما كان مع اليهود حول المدينة، وأعداء الإسلام. وهنا يجب التعامل بكل دقة مع هذا الموضوع، حتى لا يختلط بالتجسس على الرعية الذي هو محرم؛ لقوله تعالى: ((وَلَا تَجَسَّسُوا)) [الحجرات 12] ولذلك يقتصر هنا فقط على أهل الرِّيب.
وأهل الرِّيب هم الذين يترددون على الكفار المحاربين فعلاً أو حكماً؛ وذلك لأن التجـسـس جـائـز على الكفار المحاربين من باب السياسة الحربية، ومنع الضرر على المسلمين، وللأدلة الشرعية الواردة في ذلك، وهي تشمل كل أهل الحرب؛ لأنهم إن كانوا حربيين فعلاً فواضح وجوبه على الدولة، وإن كانوا حربيين حكماً فكذلك جائز؛ لأن الحرب متوقعة معهم في كل وقت.
ويكون بذلك كلُّ فرد من أفراد الرعية يتردد على الكفار المحاربين، واقعاً تحت الريبة لاتصاله بالذين يجوز التجسس عليهم، أي الكفار المحاربين.
وتفصيل ذلك على النحو التالي:
1 – التجسس على الكفار المحاربين فعلاً واجب على الدولة، وتؤكده بالإضافة إلى ما سبق قاعدة: (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب) حيث إن معرفة قوة العدو وخططه وأهدافه ومواقعه الاستراتيجية ونحو ذلك، أمور لازمة لهزيمة العدو، وتتولاه دائرة الحربية، ويشمل كذلك الرعايا الذين يتصلون بالكفار المحاربين فعلاً؛ لأن الأصل أن لا يكون اتصال معتاد من الرعايا مع المحاربين فعلاً، حيث العلاقة معهم علاقة حرب.
2 – التجسس على المحاربين حكماً جائز ويكون واجباً على الدولة في حالة الضرر كأن يخشى مساعدتهم للمحاربين فعلاً، أو الانضمام لهم. والكفار المحاربون حكماً نوعان:
الأول: الكفار المحاربون حكماً الذين في بلادهم، وهؤلاء تتولى التجسس عليهم دائرة الحربية.
الثاني: الكفار المحاربون حكماً الذين يدخلون بلادنا، كالسفراء والمعاهدين ونحوهم، وهؤلاء تتولى مراقبتهم والتجسـس عليهم دائرة الأمن الداخلي.
وتتولى دائرة الأمن الداخلي المراقبة والتجسس على من يترددون من الرعية على المسؤولين الكفار المحاربين حكماً أو ممثليهم في بلادنا، كما أن دائرة الحربية تتولى ذلك على من يترددون من الرعية عل المسؤولين الكفار المحاربين حكماً أو ممثليهم في بلادهم، ولكن بشرطين:
الأول: أن يظهر، نتيجة مراقبة دائرة الحربية ودائرة الأمن الداخلي للمسؤولين الكفار المحاربين حكماً أو ممثليهم، أنَّ تردد الرعايا على هؤلاء الكفار، سواء أكان في الخارج أم في الداخل، أمر غير عادي ولافت للنظر.
والثاني: أن يعـرض ما يظـهـر للدائرتين المذكورتين على قاضي الحسـبة، ويـرى قاضي الحسـبة من ذلك أنَّ في هـذا التردد ضرراً متوقعاً على الإسلام والمسلمين.
فإن كان الأمر كذلك جاز لدائرة الأمن الداخلي التجسس على ذلك الصنف من الرعية الذي يتردد على المسؤولين الكفار المحاربين حكماً وممثليهم في بلادنا، وجاز لدائرة الحربية التجسس على أفراد الرعية الذين يترددون على المسؤولين الكفار المحاربين حكماً وممثليهم في بلادهم. والأدلة المتعلقة بكل ما سبق هي ما يلي:
1 – إن التجسس على المسلمين حرام بنص الآية ((وَلَا تَجَسَّسُوا)) [الحجرات 12] وهذا نهي عام عن الجاسوسية، فيبقى على عمومه ما لم يرد دليل التخصيص. ويؤكد هذا الحديث الذي أخرجه أحمد وأبو داود بسنده عن المقداد وأبي أمامة قالا: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ الأَمِيرَ إِذَا ابْتَغَى الرِّيبَةَ فِي النَّاسِ أَفْسَدَهُمْ» ولذلك فالتجسس على المسلم حرام، والحكم نفسه ينطبق على أهل الذمة من رعايا الدولة. فيحرم التجسس على الرعية، مسلمين كانوا أم غير مسلمين.
2 – التجسس على الكفار الحربيين فعلاً، كمن نحن وهم في قتال، وعلى الكفار المحاربين حكماً كالذين يدخلون بلادنا معاهدين ومستأمنين كالسـفـراء ونحـوهـم، أو الكفار المحاربين حكماً في بلادهم، فالتجسس على هؤلاء جـائـز بل هو واجب على المحاربين فعلاً، وعلى المحاربين حكماً في حالة الضرر.
والأدلة واضحة في سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها:
جاء في سيرة ابن هشام عن سرية عبد الله بن جحش، حيث كتب الرسول صلى الله عليه وسلم كتاباً، وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين، فلما سار عبد الله بن جحش يومين، فتح كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنظر فيه، فإذا فيه: «إِذَا نَظَرْتَ فِي كِتَابِي هَذَا، فَامْضِ حَتَّى تَنْزِلَ نَخْلَةً بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، فَتَرَصَّدْ بِهَا قُرَيْشاً، وَتَعَلَّمْ لَنَا مِنْ أَخْبَارِهِمْ».
وجاء في سيرة ابن هشام في أحداث غزوة بدر: قال ابن اسحق: «رَكِبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هُوَ وَأَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنَ العَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّـيْخُ: لاَ أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: إِذَا أَخْـبَرْتَنَا أَخْبَرْنَاكَ. قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكْ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ الشَّيْخُ: … وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشاً خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْـبَرَنِي صَدَقَنِي، فَهُمُ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ قُرَيْشٌ، فَلَمَّا فَرِغَ مِنْ خَبَرِهِ قَالَ: مِمَّنْ أَنْـتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم نَحْنُ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ، قَالَ يَقُولُ الشَّـيْخُ: مِنْ مَاءٍ، أَمْ مِنْ مَاءِ العِرَاقِ؟
ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا أَمْسَى بَعَثَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَالزُّبَيْرَ بْنَ العَوَّامِ وَسَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ فِي نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، رِضْوَانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، إِلَى مَاءِ بَدْرٍ يَلْتَمِسُونَ الْخَبَرَ عَلَيْهِ، أَيْ عُـيُوناً عَلَى قُرَيْشٍ».
وكذلك أورد ابن اسحق: فيما نقله ابن هشام تحت عنوان: بَسْبس بن عمرو وعدي بن أبي الزغباء يتجسـسان الأخبار، حتى قال: وسمع عدي وبسبس ذلك (أي ما قالت الجاريتان على الماء من أخبار قريش) فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا.
وهذه الأدلة وإن كانت تجاه قريش، وهي كانت محاربة فعلاً، إلا أن الحكم كذلك ينطبق على المحاربين حكماً لتَوَقُّع الحرب معهم. إنما الفرق فقط هو من حيث كونه واجباً في حالة المحاربين فعلاً؛ لأن السياسة الحربية لهزيمة العدو تقتضي ذلك، وهو جائز تجاه المحاربين حكماً لتوقع الحرب معهم. فإنْ كان يُخشى الضرر، أي يُتوقَّع مساعدتهم أو انضمامهم للمحاربين فعلاً، فقد أصبح واجباً على الدولة كذلك.
وهكذا فإن التجسـس على الكفار المحاربين، جائز للمسلمين، وواجب على الدولة توفيره، بدليل أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقيام به كما سبق من أدلة. وهو كذلك واقع تحت (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).
فإذا تردد أفراد الرعية، سواء أكانوا مسلمين أم ذميين، على الكفار المحاربين، فعلاً أو حكماً، في بلادنا أو في بلادهم، فهؤلاء أهل ريبة يجوز التجسس عليهم وتتبع أخبارهم؛ وذلك لأنهم يترددون على من يجوز التجسس عليهم، ولأنه يخشى منهم ضرر على الدولة إن تجسسوا للكفار.
ولكن حتى يجوز التجسس على أفراد الرعية هؤلاء يجب تحقق الشـرطـين اللذيـن ذكرناهما، فإن لم يتحقق الشرطان فإنه يحرم التجسس على الرعية سواء أكانوا مسلمين أم أهل ذمة للنصوص الصريحة الواردة في ذلك والمذكورة آنفاً.
وتتولى دائرة الحربية التجسس على الرعية الذين يترددون على المحاربين فعلاً، وكذلك على الرعية الذين يترددون في بلاد الكفار على المسؤولين الكفار المحاربين حكماً وممثليهم. كما أن دائرة الأمن الداخلي تتولى التجسس على أفراد الرعية الذين يترددون على المسؤولين الكفار المحاربين حكماً وعلى ممثليهم في بلادنا.