المادة -78-
المادة 78 – يشترط فيمن يتولى القضاء أن يكون مسلماً، حراً، بالغاً، عاقلاً، عدلاً، فقيهاً، مدركاً لتنـزيل الأحكام على الوقائع. ويشترط فيمن يتولى قضاء المظالم زيادة على هذه الشروط أن يكون رجلاً وأن يكون مجتهداً.
دليلها ما سبق من دليل قاضي القضاة، إلا أنه لا يشترط في القاضي الذي يفصل الخصومات ولا قاضي الحسبة أن يكون رجلاً، بل يجوز أن يكون امرأة؛ لأنه ليس بحاكم وإنما هو قاض، أي هو مخبر عن الحكم الشرعي وليس منفذاً له؛ ولذلك لا ينطبق عليه حديث: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» أخرجه البخاري فإن ذلك في الولاية وهي الحكم، وسبب الحديث حادثة تمليك فارس عليهم امرأة ملكاً. عن أبي بكرة قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس ملكوا عليهم بنت كسرى قال: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» أخرجه البخاري. فسبب قول الحديث موضوع معين جاء صريحاً في نص الحديث وهو الحكم أي السلطان، والقضاء ليس سلطاناً، فيكون الحديث خاصاً بالحكم ولا يشمل القضاء. وذلك لسببين:
أحدهما: إن النص الذي يقال في موضوع معين هو كالنص الذي هو جواب سؤال، فإنه يجب تخصيصه في موضوع السؤال أو الحادثة، ولا يصح أن يكون عاماً في كل شيء؛ لأن السؤال معاد في الجواب، ولأن الكلام في موضوع معين، فيجب أن يقصر على ذلك الموضوع؛ لأن لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم معلق بالسؤال أو بالحادثة، فيكون الحكم معلقاً بذلك. وهذا بخلاف ما لو قال الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ابتداء، فإنه حينئذ يكون عاماً ومتعلقاً بالعموم. أما لو قاله تعليقاً على حادثة معينة، أو جواباً لسؤال معين، فإن الحال تختلف، إذ يكون النص أي كلام الله أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم متعلقاً قطعاً بالسؤال أو بالحادثة، فيكون الحكم متعلقاً بذلك من غير شك. وهذا بالنسبة للموضوع الذي جاءت به الحادثة أو السؤال. وليس بالنسبة للسائل أو من وقعت معه الحادثة. فإن العبرة فيهما بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ولذلك يفرق بين السبب والموضوع، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ لأن اللفظ ليس متعلقاً بالسبب فيبقى على عمومه، بخلاف الحادثة أو السؤال، أي بخلاف الموضوع الذي تضمنته الحادثة، أو الموضوع الذي تضمنه السؤال، فإن اللفظ متعلق به قطعاً، ولا توجد أية شبهة في ذلك؛ لأن الحديث إنما كان له، ومن أجله، ولهذا كان خاصاً بالموضوع، ولم يكن عاماً. وعليه فإن حديث: «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً» خاص بالحكم، ولا يشمل القضاء.
هذا هو السبب الأول، أما السبب الثاني فإن كلمة “ولوا أمرهم” من الولاية، وهي ولاية الأمر، والقاضي ليس والياً، ولا ولياً للأمر؛ ولذلك لا يدخل تحت هذا الحديث؛ فلا يشمل الحديث القضاء. هذا من حيث دلالة الحديث، أما من حيث إباحة أن يكون القاضي امرأة، فإنه أجير كباقي الموظفين، والأجير جائز أن يكون رجلاً وجائز أن يكون امرأة: ((فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآَتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ)) [الطلاق 6] إذ هو معين ليقوم بعمل حسب الشرع، أي ليخبر المتخاصمين بالحكم الشرعي على سبيل الإلزام، وليس معيناً لتنفيذ الشرع؛ ولهذا فهو ينطبق عليه تعريف الإجارة بأنها عقد على المنفعة بعوض، بعكس الحاكم فإنها لا تنطبق عليه؛ لأنه لم يعقد معه على منفعة معينة، بل جعل له أمر تنفيذ الشرع، ولهذا لم يجز أن يكون الحاكم امرأة؛ لأنه ولي أمر، وجاز أن يكون القاضي امرأة؛ لأنه أجير وليس بحاكم. أما باقي الشروط التي تشترط في القاضي فقد سبقت أدلتها في أدلة شروط الخليفة. وكذلك شرط أن يكون فقيهاً دليله حديث “القضاة ثلاثة” إلى أن يقول: «وَرَجُلٌ قَضَى لِلنَّاسِ عَلَى جَهْلٍ فَهُوَ فِي النَّارِ» أخرجه أصحاب السنن والحاكم عن بريدة وصححه.
وهذا في قضاء الحسبة والقضاء الذي يفصل الخصومات فإنه يجوز أن يكون امرأة، أما قاضي المظالم فيشترط أن يكون رجلاً كقاضي القضاة؛ لأن عمله قضاء وحكم، فهو يحكم على الحاكم، وينفذ الشرع عليه، ولذلك يشترط أن يكون رجلاً علاوة على باقي شروط القاضي التي منها أن يكون فقيهاً. إلا أنه يشترط فيه فوق ذلك أن يكون مجتهداً؛ لأن من المظالم التي ينظر فيها هو أن يكون الحاكم قد حكم بغير ما أنزل الله، بأن حكم بحكم ليس له دليل شرعي، أو لا ينطبق الدليل الذي استدل به على الحادثة، وهذه المظلمة لا يستطيع أن يفصل فيها إلا المجتهد، فإذا كان غير مجتهد كان قاضياً عن جهل، وهو حرام لا يجوز؛ ولذلك يشترط فيه زيادة على شروط الحاكم وشروط القاضي أن يكون مجتهداً.