المادة -96-
المادة 96 – إدارة شؤون الدولة ومصالح الناس تتولاها مصالح ودوائر وإدارات، تقوم على النهوض بشؤون الدولة وقضاء مصالح الناس.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدير المصالح ويعين كتاباً لإدارتها، فكان عليه الصلاة والسلام يدير مصالح الناس في المدينة، يرعى شؤونهم، ويحل مشاكلهم، وينظم علاقاتهم، ويؤمن حاجاتهم، ويوجههم فيها لما يصلح أمرهم. وكل هذه من الشؤون الإدارية التي تيسر عيشهم دون مشاكل أو تعقيد:
ففي أمور التعليم، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فداء الأسرى من الكفار تعليم عشرة من أبناء المسلمين، وبدل الفداء هو من الغنائم، وهي ملك للمسلمين؛ فكان تأمين التعليم مصلحة من مصالح المسلمين.
وفي التطبيب، أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم طبيب فجعله للمسلمين، فكون رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءته هدية فلم يتصرف بها، ولم يأخذها، بل جعلها للمسلمين، دليل على أن التطبيب مصلحة من مصالح المسلمين.
وفي شؤون العمل، فقد أرشد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً أن يشتري حبلاً ثم فأساً، ويحتطب ويبيع للناس بدل أن يسألهم، هذا يعطيه وهذا يرده، فكان حل مشاكل العمل كذلك مصلحة للمسلمين. أخرج أبو داود وابن ماجه «أَنَّ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُهُ، فَقَالَ: أَمَا فِي بَيْتِكَ شَيْءٌ؟ قَالَ: بَلَى … قَالَ: ائْتِنِي بِهِمَا، قَالَ: فَأَتَاهُ بِهِمَا، فَأَخَذَهُمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ وَقَالَ: مَنْ يَشْـتَرِي هَذَيْنِ؟ … قَالَ رَجُلٌ: أَنَا آخُذُهُمَا بِدِرْهَمَيْنِ، فَأَعْطَاهُمَا إِيَّاهُ وَأَخَذَ الدِّرْهَمَيْنِ، وَأَعْطَاهُمَا الأَنْصَارِيَّ وَقَالَ: اشْـتَرِ بِأَحَدِهِمَا طَعَامًا فَانْبِذْهُ إِلَى أَهْلِكَ، وَاشْتَرِ بِالآخَرِ قَدُومًا فَأْتِنِي بِهِ، فَأَتَاهُ بِهِ، فَشَدَّ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عُودًا بِيَدِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُ: اذْهَبْ فَاحْـتَطِبْ وَبِعْ، وَلا أَرَيَـنَّكَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْماً، فَذَهَبَ الرَّجُلُ يَحْـتَطِبُ وَيَبِيعُ، فَجَاءَ وَقَدْ أَصَابَ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ …». وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه البخاري من طريق أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «لَأَنْ يَحْتَطِبَ أَحَدُكُمْ حُزْمَةً عَلَى ظَهْرِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَلَ أَحَدًا فَيُعْطِيَهُ أَوْ يَمْنَعَهُ».
وفي شؤون الطرق، فقد نظم رسول الله صلى الله عليه وسلم الطرق في وقته بأن جعل الطريق سبعة أذرع عند التنازع. روى البخاري من طريق أبي هريرة «قَضَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا تَشَاجَرُوا فِي الطَّرِيقِ بِسَـبْعَةِ أَذْرُعٍ»، ورواية مسلم «إِذَا اخْـتَلَفْـتُمْ فِي الطَّرِيقِ جُعِلَ عَرْضُهُ سَـبْعَ أَذْرُعٍ». وأخرج أحمد عن طريق ابن عباس قَالَ: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَالطَّرِيقُ الْمِيتَاءُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ»، وفي رواية أخرى لأحمد من طريق عبادة ابن الصامت « وَقَضَى صلى الله عليه وسلم فِي الرَّحَبَةِ تَكُونُ بَيْنَ الطَّرِيقِ ثُمَّ يُرِيدُ أَهْلُهَا الْبُنْيَانَ فِيهَا فَقَضَى أَنْ يُتْرَكَ لِلطَّرِيقِ فِيهَا سَبْعُ أَذْرُعٍ»
وهو تنظيم إداري في ذلك الوقت، وإذا كانت الحاجة لأكثر كان، كما في مذهب الشافعي.
وكذلك منع الرسول صلى الله عليه وسلم العدوان على الطريق، أخرج الطبراني في الصغير «مَنْ أَخَذَ مِنْ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ شِبْراً طَوَّقَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ مِنْ سَـبْعِ أَرَضِينَ».
وفي الزراعة، فقد اختلف الزبير رضي الله عنه ورجل من الأنصار في السقي من سيل ماء يمر من أرضهما، فقال صلى الله عليه وسلم: «اسْقِ يَا زُبَيْرُ ثُمَّ أَرْسِلِ الْمَاءَ إِلَى جَارِكَ» متفق عليه واللفظ لمسلم.
وهكذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يدير مصالح المسلمين ويحل مشاكلهم الإدارية بسهولة ويسر، وكان يستعين ببعض الصحابة في ذلك. فتكون مصالح الناس جهازاً يتولاه الخليفة أو يعين له مديراً كفؤاً يتولاه، وهذا ما جرى تبنيه هنا، تخفيفاً للعبء عن الخليفة، وبخاصة وقد تشعبت المصالح وتكاثرت، فيكون هناك جهاز لمصالح الناس يتولاه على وجهه مدير كفؤ بأساليب ووسائل تيسر على الرعية عيشها، ويوفر لها الخدمات اللازمة دونما تعقيد بل بسهولة ويسر.
وهذا الجهاز يتكوّن مِن مصالح، ودوائر، وإدارات. والمصلحة هي الإدارة العليا لأية مصلحة مِن مصالح الدولة، كالتابعية، والمواصلات، وسك النقود، والتعليم، والصحة، والزراعة، والعمل، والطرق، وغيرها. وهذه المصلحة تتوَلّى إدارة المصلحة ذاتها، وما يتبعها مِن دوائر وإدارات. والدائرة هي التي تتوَلّى شؤون الدائرة نفسها، وما يتبعها من إدارات. والإدارة هي التي تتوَلّى شؤون الإدارة ذاتها، وما يتبعها من فروع وأقسام.
وهذه المصالح والدوائر والإدارات إنما تُنشَأ وتُقام لأجل النهوض بشؤون الدولة، ولأجل قضاء مصالح الناس.
وجعل الجهاز الإداري على هذا النحو المبين أسلوب من أساليب القيام بالفعل، ووسيلة من وسائله، فلا يحتاج إلى دليل خاص به، ويكفي الدليل العام الذي يدل على أصله، ولا يقال إن هذه الأساليب أفعال للعبد فلا يصح أن تجري إلا حسب الأحكام الشرعية؛ لا يقال ذلك لأن هذه الأفعال جاء الدليل الشرعي على أصلها عاماً، فيشمل كل ما يتفرع عنها من الأفعال، إلا أن يأتي دليل شرعي على فعل متفرع عن الأصل فحينئذٍ يتبع حسب الدليل، فمثلاً قال تعالى: ((وَآَتُوا الزَّكَاةَ)) وهو دليل عام. وجاءت الأدلة على الأفعال المتفرعة عنها، لمقدار النصاب، وللعاملين، وللأصناف التي تؤخذ منها الزكاة، وكلها أفعال متفرعة عن: ((وَآَتُوا الزَّكَاةَ)) ولم تأتِ أدلة لكيفية قِيام العمال بجمعها، هل يذهبون راكبين أو ماشين؟ هل يستأجرون معهم أجراء لمساعدتهم أو لا؟ وهل يحصونها بدفاتر؟ وهل يتخذون لهم مكاناً يجتمعون فيه؟ وهل يتخذون مخازن لوضع ما يجمعونه فيها؟ وهل تُوضع هذه المخازن تحت الأرض أو تُبنى كالبيوت للحبوب؟ وهل زكاة النقد تجمع بأكياس أو بصناديق؟ فهذه وأمثالها أفعال متفرعة عن: ((وَآَتُوا الزَّكَاةَ)) ويشملها الدليل العام؛ لأنه لم تأت أدلة خاصة بها. وهكذا جميع الأساليب. فالأسلوب هو الفعل الذي يكون فرعاً لفعل قد جاء له – أي للأصل – دليلٌ عام. ولم يأت لهذا الفرع دليل خاص به؛ فيكون دليل أصله العام دليلاً عليه.
ولذلك فإن الأساليب الإدارية يمكن أخذها من أي نظام، إن كانت مناسبةً لتيسير عمل الأجهزة الإدارية وقضاء مصالح الناس؛ لأن الأسلوب الإداري ليس حكماً يحتاج إلى دليل شرعي؛ ولهذا فقد أخذ عمر رضي الله عنه أسلوب الديوان، في تسجيل أسماء الجند والرعية، من أجل توزيع الأموال عليهم من الملكية العامة أو ملكية الدولة كأعطيات أو رواتب.
روى عابد بن يحيى عن الحارث بن نُفْيل أن عمر رضي الله عنه استشار المسلمين في تدوين الدواوين، فقال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: تَقسِم كل سنة ما اجتمع إليك مِن المال، ولا تُمسِك منه شيئاً. وقال عثمان بن عفان رضي الله عنه أرى مالاً كثيراً يسع الناس، فإن لم يُحصَوا حتى يُعرَف مَن أخذ ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فقال الوليد بن هشام بن المغيرة: قد كنت بالشام، فرأيت ملوكها قد دَوَّنوا ديواناً، وجَنَّدوا جنوداً، فَدوِّن ديواناً، وجَنّد جنوداً، فأخذ بقوله، ودعا عَقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل، وجبير بن مطعم، وكانوا من نُسّاب قريش، وقال: «اكتبوا الناس على منازلهم».
ثم بعد ظهور الإسلام في العراق، جرت الدواوين على ما كانت عليه من قبل. فكان ديوان الشام بالرومية؛ لأنه كان من ممالك الروم. وكان ديوان العراق بالفارسية؛ لأنه كان من ممالك الفرس. وفي زمن عبد الملك بن مروان نقل ديوان الشام إلى العربية سنة إحدى وثمانين هجرية. ثم تتابع إنشاء الدواوين حسب الحاجة، وما تقتضيه مصالح الرعية. فكانت الدواوين التي تختص بالجيش من إثبات وعطاء، وكانت الدواوين التي تختص بالأعمال من رسوم وحقوق، وكان الديوان الذي يختص بالعمال والولاة من تقليد وعزل، وكانت الدواوين التي تختص ببيت المال من دَخل وخَرج، وهكذا. فكان إنشاء الديوان متعلقاً بالحاجة إليه، وكان أسلوبه يختلف من عصر إلى عصر، لاختلاف الأساليب والوسائل.
وكان يُعيَّن للديوان رئيس، ويُعيَّن له موظفون، وكانت تُسنَد لهذا الرئيس صلاحية تعيين موظفيه في بعض الأحيان، ويُعيَّنون له تعييناً في أحيان أخرى.
وعلى ذلك فإنه يُـتَّـبَعُ في إنشـاء إدارة المصالح، أو ما يسمى بالديوان، الحاجةُ، وما ينهض بأعباء هذه الحاجة من أساليب العمل، ووسـائل القيام به، ويجوز أن تختلف في كل عصر، وأن تختلف في كل ولاية، وأن تختلف في كل بلد.