الخلافة مصطلح شرعي… وليست مصطلحًا اجتهاديًا!!
كتب الدكتور رحيل الغرايبة مقالا بعنوان: “الخلافة ليست تابوتا من السماء”، وأبرز ما جاء في مقالته:
(- الخلافة مصطلح اجتهادي، تم إطلاقه على رئاسة الدولة بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
– مسألة رئاسة الدولة من حيث التنظيم والإدارة تحتاج طريقة منظمة بالاختيار، وطريقة منظمة بالمراقبة والتقويم.
– اختيار رئيس الدولة أمر دنيوي بشري محض، وطريقة الاختيار تخضع للاجتهاد البشري.
– التعامل مع شأن الخلافة بطريقة دينية ساذجة، أو بعقلية ضيقة أمر يسيء للإسلام.)
بداية نقول: تشهد الساحة الإسلامية اليوم نقلة نوعية في الوعي السياسي على مفهوم الخلافة حيث كانت سابقًا محل سخرية وتندر حتى من بعض الحركات الإسلامية وللأسف!! ولكن ما نشهده اليوم أن مطلب الخلافة أصبح رأيًا عامًا تشتاق له الأمة بمجموعها، وترنو لها أفئدة المؤمنين، بل إن ثورة الشام رفعت راية ولواء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وصدعت حناجر المتظاهرين في الشام بهتاف: “غَصْبِنْ عَنَّكْ أُوبَامَا …رَحْ تِرْجَعْ إسلامِيَّهْ ..!”
وخرجت المسيرات والمظاهرات تطالب بتطبيق الشريعة، والمناداة بإقامة دولة الإسلام… دولة الخلافة، مما جعل العالم أجمع يسمع عن الكيان السياسي للمسلمين، المنبثق عن عقيدة هذه الأمة، وتراثها وأحكام ربها، حتى صرح سياسيو العالم، وقادة دول الغرب من: بوش، وأوباما، ويوشن، وبريطانيا، وفرنسا للتحذير من إقامة دولة الخلافة، وكتب مفكرو الغرب عن إمكانية حدوثها قريبًا، وأن أي قوة عالمية لن تستطيع أن تغلب فكرة آن أوانها، ولن تقف في وجهها قوة؛ لأنها دولة الإسلام الثانية التي على منهاج النبوة!! وليست مجرد إعلانٍ على ورق، أو ادعاءٍ على باطل، أو لغوٍ في الحديث، حتى رأينا الكتاب في العالم أجمع، ومنه العالم الإسلامي يكتبون عن الخلافة، سواء كتبوا بإيجابية أو سلبية… مدحًا أو قدحًا… تبشيرًا أو تحذيرًا، فما كتبوا إلا بما فرضته فكرة الخلافة من قوة على أرض الواقع!! حتى بدأ الحديث عن السلطان، والسيادة في الإسلام، والبيعة وأحكامها، وشروط انعقاد الخلافة وأحكامها، وشروط الانعقاد للخليفة، وشروط اعتبار الدار دار إسلام، وأحكام أهل الذمة، وحكم السلطان المتغلب بين الرفض والقبول بشروط، والوحدة والضم وإزالة حدود سايكس بيكو، بديلا عما كان يكتب سابقًا من ترهات الفكر الرأسمالي الفاسد من حريات ديمقراطية ودولة مدنية!!
وتعقيبًا على قول الدكتور رحيل الغرايبة نقول وبالله التوفيق:
أولاً: إن مقولة “الخلافة مصطلح اجتهادي بشري” فغريب من أستاذنا الدكتور أن ينطق بها… فلفظ “الخلافة” و”الخليفة” و”الإمام” مما جاءت به الأدلة الشرعية. فقد ورد في القرآن قوله تعالى: ﴿لَيستَخلِفَنَّهُمْ فِي الأَرضِ﴾. [النور: 55] وورد في السنة قوله صلى الله عليه وسلم:«تكون خلفاء فتكثر…» وقوله: «…. ثم تكون خلافة على منهاج النبوة». وقوله: «من بايع إمامًا ….». فهذه الألفاظ ليست تعبيرًا اصطلاحيًا، بل هي مما جاءت به الأدلة الشرعية!! لقد عرَّف العلماء الخلافة بتعاريف تدل على شرعيتها، فكما عرفها ابن خلدون: “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي”. فإن كانت بمقتضى النظر العقلي المصلحي فليست خلافة على الإطلاق!! ولقد عَرَفَ الإسلام أنظمة الحكم في شتى بقاع العالم من امبراطوريات وملكيات، بل وخاطبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بألقابهم في بلدانهم، فكانت معلومة ولم تكن مجهولة ومنها: “عظيم الروم، وكسرى وقيصر، وملك الحبشة”. ولكن الإسلام لم يأخذ بما كان عليه القوم، بل حدد لفظًا شرعيًا للكيان السياسي في الإسلام وهو لفظ “الخلافة”. وسَمَّى الحاكم الذي يلي أمر المسلمين “الخليفة” أو “الإمام”. أما لفظ “أمير المؤمنين” المركب تركيبًا إضافيًا بإضافة كلمة أمير إلى كلمة المؤمنين، فهو ليس اصطلاحًا كما قُلتَ، بل هو من الأدلة الشرعية فعمر بن الخطاب رضي الله عنه أمير للمؤمنين، وإنكاره على عمرو بن العاص هذا اللفظ، واستغرابه منه لهو دليل على أن التسمية ليست مطلقة أو اصطلاحية كما ذهبتَ، بل هي نتاج أدلة شرعية نطق بها الصحابة فقالوا: ” نحن المؤمنون وأنت أميرنا” كما ذكر في الروايات.
ثانيًا: إن مقولة: “المجتمع الإسلامي مجتمع بشري” مقولة صحيحة، فالدولة الإسلامية دولة بشرية وليست دولة دينية أو إلهية، بل الخليفة وجهاز الحكم فيها من البشر، وليسوا آلهة أو ملائكة. هذه الدولة بشرية يحكمها البشر بكتاب الله، وسنة رسوله، يجوز عليهم ما يجوز على البشر من الخطأ والنسيان، بل جاء في الأحاديث أن الحاكم قد يظهر الكفر البواح، وقد يخطئ في الحكم. فقد ورد في الحديث عَنْ جُنَادَةَ بْنِ أَبِي أُمَيَّةَ قَالَ: دَخَلْنَا عَلَى عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ وَهُوَ مَرِيضٌ قُلْنَا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ حَدِّثْ بِحَدِيثٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِ سَمِعْتَهُ مِنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: «دَعَانَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَبَايَعْنَاهُ فَقَالَ: فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنْ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ». (رواه البخاري) وورد في الحديث عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا قَالَتْ قَال رَسُول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«ادْرَءُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الإْمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعُقُوبَةِ». (ذكره الحاكم في المستدرك، وضعفه الألباني، وقيل: هو قول لعمر بن الخطاب رضي الله عنه). ومن هنا أوجب الإسلام على الأمة المحاسبة للحاكم ومراقبته ومتابعته، حتى قالوا للخليفة عمر رضي الله عنه: “والله لو رأينا فيك اعوجاجًا لقومناه بحد سيوفنا”. وليس معنى كون الدولة الإسلامية دولة بشرية أنها تحتكم إلى البشر، بل تحتكم إلى الشرع والوحي، فالسلطان للأمة صحيح، معناه أن تختار الأمة من ينوب عنها في تطبيق أحكام شرع ربها عليها، ولكن السيادة للشرع لا للأمة قال تعالى: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لله﴾.
ثالثًا: أما طريقة أخذ الحكم فهي من خلال البيعة، والبيعة هي الطريقة الشرعية لاستلام الحكم، والبيعة لا تكون إلا على كتاب الله وسنة رسوله. أما كيفية أخذ البيعة فهي من الوسائل والأساليب المباحة سواء أكانت بالانتخابات مباشرة، أو من خلال أهل الحل والعقد ممن ينوبون عن الأمة؛ لذا وجب التفريق بين البيعة بوصفها طريقة ثابتة ولازمة، وبين الأساليب والوسائل المباحة التي تخضع للتجارب، وفيها قابلية التقدم، فعبد الرحمن بن عوف استشار أهل المدينة بيتًا بيتًا، وعمر بن الخطاب تركها للبقية الباقية من العشرة المبشرين بالجنة. فالأساليب متروكة للأمة فهي مباحة، ومن هنا يجب التفريق بين الطريقة الشرعية وهي البيعة وهي ثابتة ولازمة، وبين كيفية أخذ البيعة وهي من الوسائل والأساليب المتعددة.
رابعًا: أما اختيار رئيس الدولة فهو حق من حقوق الأمة؛ لذا كانت القاعدة الشرعية، وهي من قواعد نظام الحكم في الإسلام: “السلطان للأمة، ولا حق لمغتصب أو متغلب، فالأمة هي صاحبة الحق في اختيار من ينوب عنها بتطبيق شرع الله، وقد بين العلماء شروط هذا المتقدم للبيعة بما يسمى في الفقه الدستوري بـ”شروط الانعقاد” وهي سبعة، وهي أن يكون الخليفة: “رجلاً، مسلمًا، حرًا، بالغًا، عاقلاً، عدلاً، قادرًا من أهل الكفاية”. وهذه الشروط ثابتة عند العقد وبعده. فإن تغير حال الحاكم نظرت في المسألة محكمة المظالم إما ببقائه في الحكم أو بعزله.
خامسًا: إن أمر الخلافة أمر كبير، وشأنها شأن عظيم، ومقامها مقام سامٍ؛ لذا حاولت أمريكا والغرب معها على تشويه صورتها من خلال ممارسات من قبل بعض الجماعات التي لا علاقة لها بالإسلام، حتى ينفض المسلمون عن المطالبة بالخلافة، ولكن هيهات هيهات!! فنحن على موعد من الله تبارك وتعالى، وبشرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم. حيث قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّـهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾. [النور: 55] وروى الإمام أحمد عن النعمان بن البشير رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «تَكُونُ النُّبُوَّةُ فِيكُمْ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا عَاضًّا، فَيَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ الله ُأَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ مُلْكًا جَبْرِيّاً، فَتَكُونُ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ تَكُونَ، ثُمَّ يَرْفَعُهَا إِذَا شَاءَ أَنْ يَرْفَعَهَا، ثُمَّ تَكُونُ خِلَافَةٌ عَلَى مِنْهَاجِ النُّبُوَّةِ، ُثمَّ سَكَتَ».
اللهم أكرمنا بقيامها في القريب العاجل، واجعلنا من جنودها وشهودها وشهدائها، إنك ولي ذلك والقادر عليه. سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
كتبه للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
حسن حمدان – أبو البراء / ولاية الأردن