كيف نقيمها
كيفية إقامة الدولة الإسلامية
يقول عليه الصلاة والسلام: «صَلُّوا كما رأيتموني أصلِّي»(1).
ويقول أيضاً: «خذوا عني مناسككم…»(2).
ويقول الله عزّ وجلّ في نَصّ عام يشمل الصلاة والحَجَّ كما يَشْملُ غيرهما من سائر أحكام الإسلام: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً[ا(3).
وبناءً على ما تقدَّم نقول: كَمَا أنَّ علينا أن نقيم صلاتَنا كما أقامها رسول الله صلى الله عليه وسلم. وأن نُقيم حَجَّنا كما أقامه رسول الله صلى الله عليه وسلم. كذلك علينا أن نُقيمَ الدولة الإسلامية كما أقامها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنَّ النصَّ الشَرْعيَّ عَيَّنَ لنا جهةَ الأُسْوَة والقُدْوة في كلِّ مَسْألةٍ من مسائل حياتنا، ومنها مسألةُ إقامة الدولة الإسلامية.
فكيف أقامَها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل أَذِنَ بالحَرْب والقتال من أَجْلِ إقامتها أم لا؟ هذه هي المسألة، وهذا هو صعيدُها، ومِنْ هُنَا يُلْتَمَسُ دليلُها.
– أما الحديث عن مشروعية إقامة الدولة الإسلامية في الأصل، قَبْلَ الحديث عن كيفية إقامتها، فلا داعي للبَحْث الطويل فيه، ولا للوقوف عنده؛ لأنَّ هذه المشروعية أمرٌ مفروغٌ منه لا يُجادلُ فيه أحدٌ وله فيه كلامٌ معقولٌ، أو دليل مقبول!
وقد رَدَّ الأستاذ الدكتور «فتحي الدريني» على تَشْكيك بعض الكاتبين المُحْدَثين(4) في هذه المسألة، فقال: «ليست السياسة في التشريع الإسلامي أمراً عارضاً قد ألجأت الظروفُ إلى اتخاذِهِ سبيلاً لتدبير شؤون المسلمين في مجتمعهم الجديد في «المدينة» بعد الهجرة، إبَّانَ ظهور الدعوة، يؤكِّد هذا بيعةُ العقبة الأولى والثانية(5). إذْ كانت كلتاهما عَقْداً تاريخياً حقيقياً بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبين وفودِ المدينة، قامَتْ على أساسه الدولة الإسلامية، وكانت الهجرةُ إحدى النتائج التي ترتَّبَتْ عليهما، بأَمْر الله عزّ وجلّ… وأمّا بَعْدَ الهجرة فقد رأينا من مظاهر سيادَة الدولة من الناحية العملية ما يُثْبِتُ قيامَ الدولة فِعْلاً، وليس أدَلّ على ذلك من توافر عناصرهما: من المجتمع، والتشريع، والموْطِن، والسلطة الحاكمة، إذ لم يثبُتْ أنْ كانَ لغَيْر الرسول صلى الله عليه وسلم سلطةٌ في هذا المجتمع الجديد، أو تدبير شؤون الحكم فيه…»(6).
إذن، مشروعيةُ إقامة الدولة الإسلامية أمرٌ لا جدال فيه، ولَسْنَا هنا بصدد البحث فيه! وإنما بَحْثُنَا هنا في مسألة طريقة إقامة الدولة الإسلامية، وهل من المشروع استخدامُ القتالِ أو الاستعداد لاستخدام القتال من أجل إقامتها، أم لا؟
يُشير الكلام السابق للأستاذ الدكتور فتحي الدريني على أنَّ الدولة الإسلامية قامت على أساس «البَيْعَة» بوصفها عَقْداً قد تَمَّ بين الرسول صلى الله عليه وسلم، وبين وفود المدينة، عند العَقَبَة.
ويقول في كتاب آخرَ له بصَدَدِ الحديث عن نَصِّ «بيعة العقبة الكبرى»:
«… ويُستنبط من مضمون هذا النص الذي أقرَّه الرسول صلى الله عليه وسلم. فكان شرعاً ثابتاً بالسنة التقريرية(7) مبادئ على غاية من الأهمية والخطورة نَعْرضها فيما يلي: … (ثم يقول): سادساً: إن بيعة العقبة الكبرى بما ثبت أنها كانت مفتاحاً للنصر… ولإقامة الدولة الإسلامية بعد فترة وجيزة منها، قد جعلت هذا العهد والميثاق حقاً في عنق كل مسلم عبر العصور والأجيال إلى يوم القيامة…»(8).
فإذا كانت بيعة العقبة الكبرى ـ كما يقول الأستاذ الدكتور فتحي الدريني ـ مفتاحاً للنصر، ومفتاحاً لإقامة الدولة الإسلامية ـ فمعنى هذا أن الدليل على طريقة إقامة الدولة الإسلامية يكمن فيما جاء في هذه البيعة. ومن هنا فعلينا أن ننظر فيما جاء فيها: هل أشير إلى استعمال الحرب والقتال لإقامتها أم لا؟
إذن، لابد لنا من الرجوع إلى المداولات التي جرت في بيعة العقبة، والبنود التي تمَّت البيعة على أساسها لِنُفتش فيها عن الحكم الشرعي في مسألتنا هذه.
1- جاء في زاد المعاد لابن القيم ما نصُّه:
«عن جابر: إن النبي صلى الله عليه وسلم لبث بمكة عشر سنين يتَّبع الناس في منازلهم في المواسم، ومجنَّة(9)، وعُكَاظ(10)، يقول: من يؤويني، من ينصرني حتى أُبلِّغ رسالات ربي، وله الجنة؟ فلا يجد أحداً ينصره، ولا يؤويه، حتى إن الرجل ليرحل من مضر، أو اليمن إلى ذي رحمه فيأتيه قومه فيقولون له: أحذر غلام قريش لا يفْتِنْكَ، ويمشي بين رجالهم يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ،وهم يشيرون إليه بالأصابع، حتى بعثنا الله من يثرب فيأتيه الرجل منا فيؤمن به، ويقرئه القرآن، فينقلب إلى أهله، فيسلمون بإسلامه، حتى لم يبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، وبعثنا الله إلهي، فائتمرنا، واجتمعنا، وقلنا: حتى متى رسول الله يطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحلنا حتى قدمنا عليه في الموسم، فواعدنا بيعة العقبة. فقال له عمه العباس: يا ابن أخي ما أدري ما هؤلاء القوم الذين جاؤوك؟ إني ذو معرفة بأهل يثرب، فاجتمعنا عنده من رجل ورجلين، فما نظر العباس في وجوهنا قال: هؤلاء قومٌ لا نعرفهم، هؤلاء أحداث! فقلنا: يا رسول الله! علام نبايعك؟قال: تبايعوني على السمع والطاعة، في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليُسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى تقولوا في الله، لا تأخذكم لومةُ لائم، وعلى تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة. فقمنا نبايعه، فأخذ بيده «أسعد بن زرارة» وهذا أصغر السبعين فقال: رويداً يا أهل يثرب! إنا لم نضرب إليه أكباد المطِيِّ إلا ونحن نعلم أنه رسول الله وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خياركم، وأن تعضَّكم السيوف، فإما أنتم تصبرون على ذلك فخذوه وأجركم على الله. وإما أنتم تخافون من أنفسكم خيفة فذروه، فهو أعذر لكم عند الله. فقالوا: يا أسعد، أَمِطْ عَنَّا يدك، فوالله لا نذر هذه البيعة، ولا نستقيلُها، فقمنا إليه رجلاً رجلاً، فأخذ علينا وشرط، يعطينا بذلك الجنة».
جاء في تحقيق هذا النص: أخرجه أحمد والبيهقي وصححه الحاكم ووافقه الذهبي، وقال ابن كثير في السيرة هذا إسنادٌ جيد على شرط مسلم، وصححه ابنُ حبّان(11).
2- وجاء في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام:
«قال ابن إسحق: وكان في بيعة الحرب ـ حين أذن الله لرسوله في القتال ـ شروطٌ سوى شَرْطِهِ عليهم في العقبة الأولى… وذلك أن الله تعالى لم يكن أذن لرسوله صلى الله عليه وسلم في الحرب، فلما أذن الله له فيها، وبايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة الأخيرة على حرب الأحمر والأسود، أخذ لنفسه، واشترط على القوم لربه، وجعل لهم على الوفاء بذلك الجنة».
ثم يروي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وكان أحد النقباء في بيعة العقبة الثانية. يروي عنه قوله:
«بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب… على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا ومكرهنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله، وأن نقول بالحق أينما كنا، لا نخالف في الله لومة لائم»(12).
3- وجاء في بعض الروايات أن مما قاله «أسعد بن زرارة» في هذه البيعة، وهو يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما نصُّه: «… ودعَوْتَنَا، ونحن جماعةٌ في عزٍّ ومنعةٍ، لا يطمع فينا أحدٌ أن يرأس علينا رجلٌ من غيرنا، قد أفرده قومه، وأسْلَمَهُ أعمامُه، وتلك رتبةٌ صعبة فأجبناك إلى ذلك»(13).
هذا بعض ما جاء في بيعة العقبة وبنودها مما يتصل بمسألتنا، مسألة: «طريقة إقامة الدولة الإسلامية، والحكم في استعمال القتل أجل ذلك»؟
إننا نستنتج مما تقدم عدة أمور منها:
1- أن الرسول صلى الله عليه وسلم في العهد المكَّي كان يطلب النصرة من زعماء القبائل العربية، ورجالها، القادمين إلى الحج، حتى يستطيع أن يبلغ الدعوة الإسلامية إلى الناس، فيعتنقوها دون خوفٍ من فتنةٍ أو بطشٍ.
2- أن طلب النصرة للدعوة الإسلامية استجاب له بعض أهل القوة والمنعة من أهل يثرب، فصروا الدعوة الإسلامية في بلادهم، على حين بقي رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، وسرعان ما انتشر الإسلام في المدينة، وتجاوبت أجواؤها مع الدعوة الإسلامية. «حتى لم يبق دارٌ من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام». كما جاء في الرواية الأولى ومِثْلُ هذا التعبير لا يفيد أن أهل المدينة قد أصبحوا كلهم مسلمين، حتى ولا أن المسلمين صاروا هم الأكثرية، وإنما يدل على أن الجو في المدينة صار جوَّ تجاوبٍ ظاهر مع الدعوة الإسلامية.
3- شعور الممثلين للمسلمين في المدينة من أهل القوة والمنعة أنهم يستطيعون أن يأتوا برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلادهم، وأن يبذلوا له الحماية، وأن يقدموا النصرة للدعوة، وأن يقيموا الدولة الإسلامية على أرضهم، مع أنهم ليسوا من القادة المشهورين. بل كما وصفهم العباسُ عَمُّ النبي صلى الله عليه وسلم ـ وهو الخبير بأهل يثرب وزعمائها ـ «هؤلاء لا نعرفهم، هؤلاء أحْداث»! ولكنه رغم ذلك أحسَّ بلهجة الصدق في حديثهم، وتيَّار العزيمة الماضية في نفوسهم، والوفاء بما هم قادمون من أجله، ولو على قتل كبار قادتهم وأشرافهم!
4- أن تنفيذ عهد النصرة للرسول صلى الله عليه وسلم، بوصفه رئيساً على المدينة، أي: بوَصْفهِ رئيساً للدولة الإسلامية التي ستقوم على الحكم بالإسلام إنما يبدأ منذ وصول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة: «وأن تنصروني إذا قدمت عليكم» أي: منذ إقامته للدولة الإسلامية في المدينة.
5- تسمية هذه البيعة، بيعة الحرب، لما فيها من نص على وجوب الحرب والقتال ضد كل من يتعرَّض للوضع الجديد الذي سيقوم في المدنية، حتى ولو كانت القوى المعادية لهذا الوضع الجديد تنتمي إلى الأحمر والأسود من الناس. جاء في السيرة الحلبية: «أي: على حرب من حاربه من العجم والعرب»(14).
6- أخذ العهد على أصحاب القوة والمنعة الذين استعدوا لحمل السلاح في سبيل حماية الوضع الجديد. أقول: أخذ العهد عليهم أن يسمعوا ويطيعوا للقيادة الجديدة، وأن لا ينازعوا الأمر أهله، ممن يُعيّنهم الرسول صلى الله عليه وسلم، أو يختارهم المسلمون للحكم وتولي المناصب، ولو كانوا من غير الأنصار ـ أي: أن لا ينازعوا أهل السلطة بحجة أنهم أولى من غيرهم بتولي مقاليدها: أنه بنصرتهم قامت الدولة الإسلامية، وباستعدادِهم هم للموت انتصرت الدعوة الإسلامية. «بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب… على السمع والطاعة في عسرنا ويسرنا، ومنشطنا وتكْرهنا، وأثرةٍ علينا، وأن لا تنازع الأمر أهله…»(15).
هذه هي أهم الأمور التي قامت عليها الدولة الإسلامية على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنها يتجلَّى بصراحة بالغةٍ مشروعيةُ القتال، واستعمال السلاح ضد كل من يقف في وجه إقامتها بمجرد وصول من أخذ البيعة على رئاسة هذه الدولة إلى البلد الذي تقرر إقامة الدولة الإسلامية فيها.
صحيح أنه لم ترق قطرة دم واحدة حين إقامة هذه الدولة الإسلامية، ولكن لم يكن ذلك بسبب المنع من القتال من أجل إقامة الدولة الإسلامية، فالنصوص الشرعية المتعلقة ببيعة العقبة أكد على مشروعية القتال من أجل هذا الغرض بما لا يدع مجالاً لأدنى شلك في تلك المشروعية.
وإنما الذي حدثَ أن أصحاب القوى المعادية حين رأوا أن البساط قد سحب من تحتهم من حيث لا يشعرون، ورأوا القادة الجدد عازمين على سحق كل تحرك مريب، أو ثروة مضادة، بل عازمين على الصمود أمام مفارقة العرب كافة! بل على حرب الأحمر والأسود من النسا، فيما لو تعرضوا للدعوة الإسلامية، والدولة الجديدة.
أقول: حين أحسَّ أصحاب القوى المعادة هذا العزم من قادة البلاد الجُدُد ـ انقمعوا على رغمهم، وانكفأوا على أنفسهم يجترون أحقادهم في أطواء قلوبهم المريضة السوداء بل راحوا ينافقون للدعوة الجديدة، والسلطة الجديدة. والسلطة على عِلم بهم، وبما تُكِن قلوبهم ـ ولكن في تسامح سخيٍّ بذلت لهم كل تكريم واغْضاء، ما داموا لا يظهرون ما يبطنون، ولا يتحركون في نشاط تكون منه الدعوة الدولة في خطر!
وبناء على هذا، فطريقة إقامة الدولة الإسلامية اليوم ـ بعدما زالت من الوجود، ومضى على زوالها ردحٌ من الزمن ـ هي الطريقة نفسها التي اتبعها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل إقامتها. ويتحقق ذلك بعدة أمور هي:
1- إيجاد أجواء في بلد ما من البلاد الإسلامية تتجاوب مع الدعوة الإسلامية حتى يصبح لها رأيٌ عام يؤمن بهذه الدعوة، ويطالب بما تنادي به من أفكار وأنظمة! مع الاستعداد لنصرتها، والتضحية في سبيلها.
2- فإذا حدث ذلك، أو كان التجاوب مع الدعوة الإسلامية موجوداً في أي بلد تتوافر فيه مقومات الدولة ـ كما كان عليه وضع المدينة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنسبة لظروف ذلك الزمان ـ حينئذ يجري البحث عن أهل النصرة القادرين على تسليم السلطة لمن تؤخذ البيعة له، بوصفه رئيساً للدولة الإسلامية بحيث تستطيع القوى التي يملكها أهل النصرة هؤلاء أن تسحق كل تمرد على الوضع الجديد من الداخل، وأن تتصدى لأية قوة خارجية محتملة تحاول ضرب هذا الوضع الجديد.
3- فإذا تم جمع أهل النصرة هؤلاء أُخذت البيعة لمن يختار رئيساً للسلطة وأعلن قيام الدولة الإسلامية، وتغييرُ النظام القائم، وجعله نظاماً إسلامياً، ووضعت القوى التي يملكها أهل النصرة على أهبة الاستعداد للضرب الماحِق لكل من تسول له نفسه أن يحارب الحكم بما أنزل الله الذي يطالب به الرأي العام في البلاد.
وهُنا:
– إذا سكتت سائر القوى على هذا الوضع الجديد، وأعطت ولاءها له ـ كان الانقلاب سلمياً كما كان الانقلاب الذي تم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقي كل في مكانه من أصحاب المناصب على ضوء أحكام الإسلام، ومصلحة الدولة الإسلامية.
– وأما إذا تمردت بعض القوى لضرب هذه الدولة ـ فإن نص بيعة العقبة الثانية يقرر مشروعية القتال لتأمين الحماية للوضع الجديد، وفي هذه الحال يكون الانقلاب دموياً قد ورد النص بتقريره.
هذه هي طريقة إقامة الدولة الإسلامية اليوم. وهذا هو الحكم الشرعي في مسألة القتال لإقامة الدولة الإسلامية كما تدل عليه بيعة العقبة الثانية التي أقام الرسول صلى الله عليه وسلم على أساسها الدولة الإسلامية.
وهنا قد يخطر بالبال سؤال، وهو:
قد يقف في وجه الدولة الإسلامية قطعات عسكرية، وقد يأمرها قادتها بالقتال، وسيكون فيها ـ حتماً ـ مسلمون، فما الحكم الشرعي في القتال في صفِّها، أو القتال ضدَّها؟
والجواب: أن القتال في صفَّها حرام؛ لأنها قوة باغية خرجت على سلطان الدولة الإسلامية. ولذا فعلى كل مسلم في تلك القطعات العسكرية أن ينسحب منها وإذا أُكره على البقاء فيها فعليه أن لا يمارس أي دور يؤدي إلى إراقة دماء المسلمين من أهل العدل ممن يقف في صف الدولة الإسلامية. وذلك لحرمة دماء المسلمين بلا سبب شرعي يبيح ذلك. «كل المسلم على المسلم حرام: دمُه وعرضهُ ومال»(16).
– وأما القتال ضد هذه القطعات فهو قتال واجبٌ: لأنه قتالٌ للبغاة، الذين خرجوا عن طاعة الإمام. كما تقدم في بحث قتال أهل البغي.
– فإن كل لا خَطَر من التفاوض معهم لجلبهم إلى الطاعة مشت رسل الصلح بينهم وبين الدولة الإسلامية ـ وإن كان هناك خطرٌ من تأخير الحسم في هذا الأمر، حُسِم أمرهم بالقتال. ومن يقتل منهم من المسلمين فهو مسلم ولكنه عاصٍ إذا كان عارفاً بالحق وقاتل ضدَّه، ومن قُتِل من أنصار الدولة الإسلامية الناشئة فهو من شهداء الآخرة، كما سبق تقريره في «قتال البُغاة» .
(1) البخاري (جامع الأصول. حديث رقم 3820 جـ/ 576)، وهو في صحيح البخاري، برقم (631) فتح الباري: جـ 2/11.
(2) مسلم وأبو داود والنسائي (جامع الأصول. حديث رقم: 1583 جـ 3/285) وهو صحيح مسلم، برقم (1297) بلفظ «لتأخُذُوا مناسككم» جـ2/943.
(3) سورة الأحزاب الآية 21.
(4) وهو القاضي الشرعي المصري في عهد الملك فؤاد «علي عبد الرزاق» في كتابه: «الإسلام وأصول الحكم».
(5) سيرة ابن هشام، وشرحُها: الروض الأنف 184 210.
(6) خصائص التشريع الإسلامي في السياسة والحكم ـ الدكتور فتحي الدريني: 323 ـ 324.
(7) الإشارة هنا على كلام العباس بن عبادة الخزرجي في بيعة العقبة الذي جاء فيه: «.. إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس» سيرة ابن هشام (الروض الأنف 2/191).
(8) دراسات وبحوث في الفكر الإسلامي المعاصر 2/879.
(9) مَجَنَّة: موضع بأسف مكة على أميال، وكان يُقام بها سوق.
(10) عُكاظ: سوق بصحراء بين نخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذي العقدة، وتستمر عشرين يوماً، تجتمع فيها قبائل العرب فيتعاكظون «يتفاخرون ويتاشدون»
(11) زاد المعاد لابن القيم يتحقيق: شعيب الأرناؤوط وعبد القادر الأرناؤوط جـ3/ 45 ـ 46.
(12) سيرة النبي صلى الله عليه وسلم لابن هشام (الروض الأنف: 2/206).
(13) كنز العمال في سنن الأقوال والأفعال جـ1/326 ـ رقم الحديث 1525.
(14) السيرة الحلبية، لابن برهان الدين الحلبي: جت2/ 18 ـ 19.
(15) سيرة ابن هشام: (الروض الأنف 2/206).
(16) صحيح مسلم: رقم (2564) جـ4/1986. وانظر جامع الأصول: جـ6/523. وجاء هذا المعنى عند البخاري في حديث آخر، يقول فيه: «… فإن دماءكم، وأموالكم، وأعراضكم، عليكم حرامٌ… » [صحيح البخاري، رقم: (1739) فتح الباري: 3/573].