الخميس، 19 جمادى الأولى 1446هـ | 21 نوفمبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46 (ت.م.م)
دولة الخلافة وما يسمى بالأقليات
نبذة تاريخية
ساد التنوع الدولة الإسلامية الأولى التي أقامها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة لحظة قيامها، فقد وُجد فيها المهاجرون والأنصار، وكان من رعاياها العربي وغير العربي، والمسلم واليهودي والمشرك، والأوس والخزرج على ما بينهم من عداوة سابقة. وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم أسس العلاقة بين أطياف هذا المجتمع الوليد فيما سمي بوثيقة المدينة، ثم توسعت الدولة الإسلامية لتشمل الجزيرة العربية كلها في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وتوسعت في رقعة أكبر بكثير في عهد الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم في زمن الدولة الأموية والعباسية والعثمانية، فازداد بذلك التنوع في الدولة الإسلامية حيث دخل الناس في الإسلام أرسالاً من قبائل وشعوب شتى، وخضع لسلطان دولة الخلافة أصحاب أديان كثيرة لم تكن معروفة في جزيرة العرب، على ما في جميع هؤلاء من اختلاف في العرق واللون واللغة والثقافة والدين.
وكان الغالب في العلاقة بينهم وفي علاقتهم مع الدولة والسلطان الانسجام والتوافق وحسن المعاشرة، ولم تعرف الدولة الإسلامية ولا المجتمع الإسلامي مفهوم الأقليات طوال عهدهما الممتد عبر قرون وقرون من الزمان، إلا ما كان من تسرب هذا المفهوم من الغرب بتخطيط وتدبير من الدول الغربية الطامعة في بلاد المسلمين في أواخر عهود الدولة العثمانية.
فالدول الغربية الاستعمارية استغلت عامل القوة المتمثل في التنوع الكثير السائد في الدولة العثمانية وحولته إلى عامل ضعف لضرب الدولة الإسلامية وتفتيتها والقضاء عليها، وذلك بنشر مفهوم الأقليات من ناحية فكرية وبتبني بعض «الأقليات» مادياً ومعنوياً وعسكرياً وتحريضها على الخروج على الدولة العثمانية. وقد ركزت أول الأمر على الشعوب الأوروبية الواقعة تحت سلطان الدولة الإسلامية في البلقان واليونان وغيرهما من المناطق، فأثارت فيهم النزعات القومية والرغبات الانفصالية وأمدتهم بالسلاح والدعم للخروج على هذه الدولة، وعلى النصارى إذ أخذت تتصل بهم محاولة إقناعهم بظلم واقع عليهم من قبل المسلمين ودولتهم وبنقص في حقوقهم، وهكذا تدخلت في شؤون الدولة العثمانية بحجة حماية الأقلية الدينية النصرانية بوصفها امتداداً لهذه الدول من الناحية الدينية. وظلت هذه الدول سائرة في هذه المسألة حتى استطاعت أن تفتت الدولة العثمانية وتثير فيها الفتن والعداوات إلى أن انتهى الأمر بالقضاء عليها واستعمار أغلب أراضيها من قبل هذه الدول التي لم تراعِ في استعمارها حقوق هذه الأقليات المدَّعاة؛ فنالها من ظلم المستعمرين وتحكمهم ما نال جيرانها من الأكثريات.
والغريب أن هذه الدول الغربية الاستعمارية لم تتوقف عن إثارة «الأقليات» العرقية والدينية واللغوية بعد أن استعمرت بلاد المسلمين، بل أخذت بتغذيتها وتركيزها إعداداً للمرحلة القادمة التي تمثلت في إقامة دول قومية ووطنية علمانية على أنقاض الدولة العثمانية التي حرصت في رسم حدودها على جعل عامل الأقليات سبباً حاضراً للتدخل في شؤون هذه الدول والسيطرة عليها، ولإيجاد المتاعب لها وإثارة مسألة الأقليات كلما اقتضت الحاجة.والأعوام التسعون المنصرمة مليئة بالأمثلة على استغلال موضوع الأقليات من أجل فرض أجندات استعمارية على البلاد العربية والإسلامية وبلاد ما يسمى بالعالم الثالث على وجه العموم.
واليوم، وقد شهد العالم الإسلامي موجة من الثورات أطاحت بأنظمة ديكتاتورية حكمت الناس لعقود من الزمن بالحديد والنار، ومع النجاح الجزئي للثورات في عدد من البلدان كتونس ومصر وليبيا، واستمرارها في بلدان أخرى كسوريا، فقد ازداد قلق دول الغرب من المستقبل؛ إذ كشفت الأحداث والوقائع المتلاحقة رغبة الناس العارمة في إحلال نظام الإسلام في الحكم محل الأنظمة العلمانية البائدة.
ولأنّ الثورات في البلدان الإسلامية تبشر بإعادة توحيد هذه البلدان تحت راية واحدة وهي راية الخلافة الإسلامية، سارعت دول الغرب إلى إذكاء الفتن والصراعات الداخلية لحرف مسار الثورات وللوقوف في وجهها؛ فأعادت طرح مشروع تفتيت البلدان من خلال تفعيل مسألة الأقليات وحقوقها وإثارة الخوف في نفوس غير المسلمين في البلاد الإسلامية من وصول الإسلام إلى الحكم. وقد ظهرت هذه الاستراتيجية جلياً من خلال بعض الأعمال التي وقعت في تونس ومصر وسوريا، ومن خلال تصريحات ساسة الغرب، كقول وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون (في 13/09/2011م بمناسبة صدور التقرير السنوي الثالث عشر حول الحرية الدينية في العالم): « أثارت عمليات التغيير الديمقراطي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اهتمام العالم، ولكنها عرضت أيضاً الأقليات العرقية والدينية إلى مخاطر جديدة»، وكقولها عند لقائها وفداً من المعارضة السورية في 06/12/2011م بعد أن أكدت على أن التغيير لا ينبغي أن يقف عند حد رحيل نظام بشار الأسد: «هذا يعني وضع سوريا على طريق القانون وحماية الحقوق العالمية لكل المواطنين أياً كانت طائفتهم أو عرقهم أو جنسهم»، وأضافت أن المعارضة تدرك أن الأقليات السورية بحاجة لطمأنتها إلى أنها ستكون أفضل حالاً «في ظل نظام من التسامح والحرية». وكقول وزير الخارجية الفرنسي السابق آلان جوبيه (في 11/10/2011م في مداخلة أمام الجمعية الوطنية حول وضع مسيحيي الشرق): «أنتم على حق في التذكير بأن المسيحيين موجودون في الشرق منذ السنوات الأولى للمسيحية، حتى قبل دعوة النبي محمد. ولقد صرح رئيس الجمهورية أثناء تقديمه التهاني للسلطات الدينية، في السابع من كانون الثاني/يناير الماضي، «بأنه لا يمكننا القبول بأن يزول من هذا الجزء من العالم هذا التنوع الإنساني والثقافي والديني الذي هو مقياس في فرنسا وأوروبا». كما تعرفون، يا سيادة النائب، استمرت فرنسا وبأعلى درجات الحزم في إدانة أعمال العنف الموجهة ضد المسيحيين في المنطقة، لاسيما في العراق أو مصر حيث أدنَّا أمس الأحداث في القاهرة التي تسببت في سقوط العديد من القتلى والجرحى، كما سبق وأشرتم… يقدر الربيع العربي ويتعين عليه أن يشكل فرصة تاريخية لهذه الطوائف في الشرق الأدنى. وعلى الربيع العربي أن يسمح لهم بالقيام بكل ما يعود لهم في بناء الديمقراطية. هذا ما ذهبت لقوله مساء أمس في قاعة الأوديون، بحضور معارضين سوريين والعديد من المثقفين السوريين والسوريات. ونصارع أيضاً على المستوى الأوروبي. ولقد اتخذ مجلس الشؤون الخارجية في شهر شباط/ فبراير الماضي موقفاً حازماً جداً ضد التعصب والتمييز الديني. هذا هو خطنا الذي سنواصل الدفاع عنه. أذكركم بأن رئيس الوزراء كلف السيد أدريان غوتيرون بمهمة في الشرق، وبالتحديد للنظر في وضع الأقليات المسيحية والسماح لنا بتعزيز مواقفنا في هذا الميدان».
لقد كثر الجدل في الآونة الأخيرة حول موضوع الأقليات وموقف الإسلام منه، وأخذ العلمانيون من أصحاب الأصول الإسلامية وبعض الناس من غير المسلمين يثيرون هذا الموضوع مؤيدين بتغطية إعلامية كثيفة في مختلف وسائل الإعلام وفي الفضائيات وخصوصاً منها «ذات الرأيين» التي لا تفسح المجال أبداً أمام من يطرح أفكار الإسلام ليبين للناس واقع هذه المسألة وكيفية علاج الإسلام لها، بل تبقي النقاش محصوراً بين طرف علماني متطرف وطرف آخر علماني «غير متطرف» يتمسح في أفضل أحواله بمسحة الإسلام ولكنه لا يطرح رأي الإسلام. ومع ظهور علامات كثيرة تدل على وقوف الدول الغربية الكبرى وأدواتها في العالم الإسلامي وراء مثل هذه الطروحات، إلا أن الأمر لا يخلو من وجود أشخاص وجهات لا تقف وراءها بالضرورة قوى أجنبية غربية بل يدفعها إلى ذلك تخوفها من المستقبل لما استقر في ذهنها جراء الهجمة الشرسة على مفاهيم الإسلام وأحكامه، وجراء تشويه التاريخ الإسلامي وقلب حقائقه من أن الإسلام لا يضمن لغير المسلمين حقوقهم وأنهم سيعانون في ظل حكم الإسلام وفي دولة الخلافة من الإقصاء والظلم والحرمان والملاحقة. وإلى جانب هؤلاء جميعاً أخذ الحكام الذين تثور الأمة ضدهم لتنزع سلطانها المغتصب منهم بعد أن أذاقوها أصناف الجور والعذاب، أخذوا يثيرون مسألة الأقليات محاولين إخافتها من حكم الإسلام مستعملين هذه القضية أداة ضغط لتثبيت حكمهم وإبعاد الناس عن طريق التغيير الحقيقية، متزلفين بها إلى أسيادهم الغربيين طمعاً في إبقائهم على كراسي الحكم.
ولذلك يجدر بنا الوقوف عند مفهوم الأقليات وظروف نشأته، ومعرفة موقف الإسلام من هذه المسألة، وكيفية تعامل المسلمين معها فيما مضى من تاريخهم، وما صار إليه الأمر في حاضرهم، وكيف استثمرت مسألة الأقليات من قبل الأعداء، وما نال الأقليات نفسها من جراء إثارة هذه المسألة، وهل نجحت العلمانية في استيعاب التنوع في المجتمعات والدول في بلاد منشئها وفي بلاد المسلمين، وهل الحل لهذا الإشكالية يكمن في العلمانية أم في الإسلام.
مفهوم الأقليات
لفظ الأقلية ترجمة للفظ أجنبي، وهو مأخوذ في العربية من مادة «قلل» ومن المعاني المذكورة تحت هذه المادة كما في اللسان: «القلة خلاف الكثرة والقُل: خلاف الكُثر» و «القُل: القلة مثل الذل والذلة» و «القليل من الرجال: القصير الدقيق الجثة» و»القُل من الرجال: الخسيس الدين» و» أقل: افتقر. والإقلال: قلة الجدَة». وهناك معانٍ أخرى بعيدةٌ جداً عن المراد بلفظ الأقلية في هذا السياق، وهذه المعاني التي ذكرناها وإن كان لها صلة من وجه ما بلفظ الأقلية غير أنها لا تبيـِّنه ولا توضِّح واقعه، ولم نقف على تعريف للمسلمين لهذا المصطلح؛ لأنه لم يكن معروفاً لديهم. أما عند الغربيين فقد وردت له تعريفات كثيرة، فقد عرّف «معجم الدبلوماسية والشؤون الدولية» الأقليات بأنهم: «مجموعة من رعايا دولة ما تنتمي من حيث الجنس أو اللغة أو الدين إلى غير ما تنتمي إليه أغلبية السكان… وتنحصر مطالب الأقليات عادة بالمساواة مع الأغلبية في الحقوق المدنية والسياسية وفي حرية إقامة شعائرها الدينية، كما تطالب أحياناً بفتح مدارس خاصة لأبنائها وتعليم لغتها». وعرّفت «الموسوعة الدولية للعلوم الاجتماعية» الأقلية بأنها: «جماعة من الأفراد الذين يتميزون عن بقية أفراد المجتمع عرقياً أو قومياً أو دينياً أو لغوياً، وهم يعانون من نقص نسبي في القوة، ومن ثمّ فهم يخضعون لبعض أنواع الاستعباد والاضطهاد والمعاملة التمييزية». وأمّا من ناحية قانونية، فقد عرّفت المحكمة الدائمة للعدل الدولي (في رأيها الاستشاري الصادر في 31/07/1930م حول المجموعات اليونانية البلغارية) الأقليات بأنها: «مجموعة من الأفراد يعيشون في قطر ما أو منطقة، وينتمون إلى أصل، أو دين، أو لغة، أو عادات خاصة، وتوحدهم هوية قائمة على واحدة أو أكثر من هذه الخصائص. وفي تضامنهم معا يعملون على المحافظة على تقاليدهم، والتمسك بطريقة عبادتهم، والتأكيد على تعليم ونشأة أولادهم طبقاً لروح هذه التقاليد، مقدمين المساعدة لبعضهم البعض». وبعد إنشاء منظمة الأمم المتحدة قامت اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات سنة 1950م بتبني مشروع لائحة لتعريف الأقليات في دورتها الثالثة وعدَّلته في دورتها الرابعة، بيـَّنت فيه أنّ: «الجماعات التي تعرف عادة بأنها أقلية قد تنتمي إلى أصل عرقي، قد يكون لها تقاليد دينية أو لغوية أو خصائص معينة تختلف عن خصائص بقية السكان. ومثل هذه الجماعات ينبغي حمايتها بإجراءات خاصة على المستويين القومي والدولي حتى يتمكنوا من الحفاظ على هذه التقاليد والخصائص ودعمها». وفي سنة 1979م جاء في التقرير النهائي لنفس اللجنة (اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات) تعريف للأقليات اقترحه فرانسيسكو كابوتورتي (Francesco Capotorti) ذكر فيه: «الأقليات هي مجموعة أقل عدداً عن باقي سكان دولة، في وضعية غير سائدة، والتي يملك أعضاؤها المنتمون للدولة مميزات من الناحية العرقية، الدينية، أو اللغوية تختلف عن خصوصيات باقي السكان ويظهرون، حتى ولو بطريقة ضمنية، شعوراً بالتضامن من أجل المحافظة على عاداتهم، دينهم أو لغتهم».وفي دراسة لاحقة قام بها نفس الباحث (كابوتورتي) حول تفسير مفهوم الأقلية أكد فيها على ضرورة إضافة عنصر إلى تعريف الأقلية ويتمثل في»رغبة الجماعة الأقلية في المحافظة على الاعتبار الذاتي في تقاليدها وخصائصها»، وأضيف إلى ذلك العبارة التالية: «تشكل كل أقلية شخصية اجتماعية وثقافية»، كما أضيف أيضاً: «إذ إن الحاجة إلى حماية الأقليات تنشأ أساساً من ضعف وضعها حتى في محيط الدولة الديمقراطية». وفي سنة 1985م تبنت اللجنة الفرعية لمنع التمييز وحماية الأقليات تعريفاً للأقليات ذكرت فيه أنها: «جماعة من المواطنين في دولة ما يشكلون أقلية عددية، ويكونون في وضع غير مسيطر في هذه الدولة، ولهم خصائص عرقية أو دينية أو لغوية تختلف عن خصائص أغلبية السكان، ويكون لديهم شعور بالتضامن فيما بينهم يشجعه وجود، ولو ضمنياً، إرادة جماعية في البقاء كجماعة متميزة، وهدفهم هو تحقيق المساواة مع الأغلبية في الواقع وفي القانون». ومع بداية التسعينات جرى تطور جديد على مفهوم مصطلح الأقليات مع التأكيد على العناصر السابقة التي تحدد معناه، وقد انعكس ذلك على بعض المواثيق والمعاهدات والدراسات العلمية منها: تعريف مشروع لجنة «البندقية» لاتفاقية حماية الأقليات 8/2/1991م (المادة 2/1): «إن مصطلح الأقلية يعني مجموعة قليلة عدداً بالنسبة لباقي سكان دولة بحيث إن أعضاءها الذين يحملون جنسية هذه الدولة يملكون خصوصيات عرقية أو دينية أو لغوية مختلفة عن باقي السكان، وتحركهم إرادة للحفاظ على ثقافتهم أو عاداتهم أو لغتهم». وفي المشروع نفسه نجد فليبسون وسكوتناب كانغس (Philipson et SkutnabbKangas) عند تحضيرهما لهذا المشروع اقترحا التعريف التالي: «الأقلية هي مجموعة أقل عدداً من باقي سكان دولة بحيث يحمل أعضاؤها خصوصيات عرقية أو دينية أو لغوية مختلفة عن التي يحملها باقي السكان تقودهم، ولو بطريقة ضمنية، إرادة من أجل الحفاظ على ثقافتهم أو عاداتهم أو ديانتهم أو لغتهم، فأي مجموعة تدخل ضمن حدود هذا التعريف يجب معاملتها على أساس أنها أقلية دينية أو لغوية». وفي يوم 1/2/1993م جاء في مشروع بروتوكول حول الأقليات، إضافي إلى الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان (المادة الأولى منه) والمصادق عليها من قبل الجمعية البرلمانية للمجلس الأوروبي (C.E) مايلي: «إن عبارة «أقلية وطنية» تعني مجموعة أشخاص في دولة، ويقيمون في إقليمها وهم من مواطنيها، ولديهم روابط قديمة ومتينة ومستمرة مع هذه الدولة، ويظهرون خصوصيات عرقية أو ثقافية أو دينية أو لغوية مميزة، كما أنهم متميزون بقدر الكفاية، وفي الوقت نفسه عددهم أصغر من باقي سكان هذه الدولة أو منطقة منها، وتحركهم إرادة في مجموعهم للحفاظ على ما هو من هويتهم المشتركة لاسيما ثقافتهم أو عاداتهم أو ديانتهم أو لغتهم». وفي إعلان «فينيا» لحماية الأقليات القومية في الدول الأوروبية، والذي صدر سنة 1993م، جاء فيه ما يلي:»إن الأقليات القومية هي المجموعات التي صارت أقليات داخل حدود الدولة نتيجة أحداث تاريخية وقعت ضد إرادتها، وأنّ العلاقة بين مثل هذه الأقلية والدول علاقة مستديمة وأفرادها من مواطني هذه الدولة». وفي 21/10/1994م صدر عن مجموعة الدول المستقلة (C.E.I) المتعلقة بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات وطنية، اتفاقية حقوق الأقليات، وجاء في المادة الأولى منها التالي: «الأقليات الوطنية، هي التي تعيش بصفة دائمة في إقليم دولة طرف في الاتفاقية، والتي يحملون جنسيتها (صفة مواطنيها) والذين يتميزون من حيث الأصل العرقي أو لغتهم أو ثقافتهم أو ديانتهم أو تقاليدهم عن أغلبية سكان الدولة الطرف في الاتفاقية». وفي اليوم نفسه أي في (21/10/1994م) صدر في موسكو عن رابطة الدول المستقلة عن الاتحاد السوفياتي، تعريف للأشخاص المنتمين إلى الأقليات بأنهم: «الأشخاص الكائنون بشكل دائم في إقليم أي في دولة من الدول الموقعة على العهد ويحملون جنسيتها، ولكن لهم من الخصائص العرقية أو اللغوية أو الثقافية أو الدينية ما يجعلهم مميزين عن بقية سكان الدولة». وإلى جانب هذا التعريف أضيفت عبارة مفادها: «لا يجوز تفسير اصطلاح الأقلية بشكل يحض على أو يجيز اتخاذ أي إجراء، يهدف إلى حرمان أي شخص من إقامته الدائمة، أومن وضعه كمواطن». وفي 18/11/1994م صدر عن المبادرة الأوروبية المركزية بتورينو قانون حماية حقوق الأقليات وفيه تعريف للأقليات مشابه للتعريفين الأخيرين، حيث جاء في المادة الأولى منه التالي: «إن اصطلاح الأقلية القومية يعني جماعة تقل عدداً عن بقية سكان الدولة، ويكون أعضاؤها من مواطنيها، ولهم خصائص إثنية أو دينية أو لغوية مختلفة عن تلك الخاصة ببقية السكان، كما أن لديهم الرغبة في المحافظة على تقاليدهم الثقافية والدينية».
إن هذه التعريفات الكثيرة المتباينة زماناً تدل على اضطراب في تعريف الأقلية، ومع أن المفكرين الغربيين أوْلوا مسألة الأقليات حظاً وافراً من الاهتمام لعقود من السنين، بيد أنهم أخفقوا حتى الآن في صياغة تعريف جامع مانع يضبط مفهوم الأقلية.
فمن ناحية فنية لا نستطيع أن نعد هذه التعاريف المذكورة سابقاً من قبيل التعريف بالماهية أو ما يعبّر عنه في الفكر الغربي بـ»التعريف الحقيقي» أي الدال على ماهية الشيء؛ لأنّ كلّ تعريف يتحدث عن ماهية أو واقع مخالف لصاحبه. فتارة تجعل الأقلية «جماعة من الأفراد»، وتارة أخرى تجعل «مجموعة أقل عدداً عن باقي سكان دولة»، وفي ثالثة «جماعة من المواطنين في دولة ما يشكلون أقلية عددية»، وفي رابعة «المجموعات التي صارت أقليات داخل حدود الدولة نتيجة أحداث تاريخية وقعت ضد إرادتها». ويظهر من هذا وجود اضطراب في معرفة الواقع الذي يراد تعريفه. وكذلك لا يمكننا أن نعد تعاريف «الأقليات» المذكورة آنفا من قبيل التعريف بالمكوّنات أو الخصائص والصفات التي تميّز الشيء عن غيره؛ لأنّ المعايير التي اعتمدت في صياغة مفهوم «الأقليات» نسبية غير منضبطة، إضافة إلى أنها متعددة، فالأقلية تنصَّب عند البعض على العدد، وعند آخرين على نقص القوة لا على العدد. فإذا ما اعتمدنا المعيار العددي في تعريف الأقليات تواجهنا صعوبة في ضبط النسبة العددية؛ لأن الكم الذي يجعلنا نصف جماعة ما بأنها أقلية غير محدد، فهل تعد الجماعة أقلية إذا كانت ربع الشعب أم ثلثه أم تقارب النصف؟ وفي هذه الحالات كلها ماذا نعد المجموعة التي نسبتها أقل من المذكور؟ أعني إذا ما اعتمدنا الثلث مثلاً حداً أدنى تقاس به الأقلية، فماذا نفعل بمجموعات هي أقل من الثلث؟ وكذلك تواجهنا صعوبة في وصف الجماعة الذي يستعمل بإزائه المعيار العددي، فهل يعتمد العرق، أم اللغة، أم الدين، إذ يفضي حساب كل واحد من هذه الأوصاف إلى نتيجة غير الأخرى، فإذا اعتمدنا الدين في حق جماعة ما يمكن أن تكون بهذا الوصف أقلية عددية بل قد لا تصل إلى حد جعلها أقلية، ولكن إذا اعتمدنا العرق أو اللغة فإنها يمكن أن تكون أكثرية عددية، فالنصارى في الأردن مثلاً عددهم قليل بالوصف الديني، ولكنهم جزء من الأكثرية العربية عرقاً ولغة في مقابل الشركس، بينما الشركس أقلية عرقية، وفي الوقت نفسهم ينتمون إلى الأغلبية المسلمة. وهناك صعوبة ثالثة تكمن في أن الأقلية العددية يجب أن تعرّف بالأكثرية، إذ لا يمكن تصور وجود إحداهما إلا بوجود الأخرى، فمن هي الأكثرية التي ينبغي اعتمادها مقياساً للأقلية؟ وماذا لو انعدمت الأكثرية في مجتمع شديد التنوع كلبنان، فإذا نظرنا إلى تركيبته الدينية وجدناه يتكون رسمياً من 18 طائفة منهم: الموارنة، والسنة، والشيعة، والدروز، والروم، والأرمن، والسريان، والكلدان وغير ذلك. فكيف نحدّد الأقلّية في لبنان، وبالنسبة لأي مجموعة إذا كان لبنان كلّه كما قالوا طوائف مختلفة؟ ولذلك فإن المعيار العددي في ضبط الأقلية معيار مضطرب غير منضبط. ومثله أيضاً معيار الاضطهاد أو ضعف حال الأقلية وخضوعها لسلطة الأكثرية الجبرية، فهو معيار غير مطرد ويخالف الواقع في بلدان كثيرة فيها السيطرة لأقلية، كسيطرة البيض على أكثرية السود في جنوب أفريقيا أيام نظام «الأبارتهايد»، وكسيطرة التوتسي على أكثرية الهوتو في رواندا وبوروندي، وكسيطرة العلوية على أكثرية سنية في سوريا. وقل مثل ذلك في معيار «الخصائص العرقية أو اللغوية أو الثقافية أو الدينية». فمن جهة أولى، ما هو الأساس الذي يبنى عليه تحديد هذه الخصائص؟ ولنأخذ اللغة مثلاً، فهل تجعل اللغة العربية خصيصة، أم تجعل اللهجة الواحدة داخل اللغة العربية هي الخصيصة كاللهجة المصرية مثلاً؟ وحينها أنأخذ بلهجة صعيد مصر أم بلهجة القاهرة؟ ومن جهة أخرى، لمَ ينظر إلى هذه الخصائص دون غيرها في تحديد الأقليات؟ ثم إن هذه الخصائص متداخلة في أحيان كثيرة مما يفقدها تميّزها ووصفها بأنها خصوصيات معرّفة لأقلية ما. وهكذا فإنه بتتبع تعاريف الأقلية عند الغربيين يتبين أنها تعاريف غير واضحة وعائمة وتفقد التبلور.
نشأة مفهوم الأقليات
لم تعرف المجتمعات الأوروبية قبل ما يسمى بعصر التنوير مفهوم الأقليات كمفهوم سياسي وقانوني، وذلك لأن الحكم كان قائماً على نظرية الحق الإلهي القائلة بأن الملك أو الحاكم يحكم باسم الله وباسم الدين، وكانت السيادة تبعاً لهذه النظرية للملك لا للشعب، فهو الذي يشرع وهو الذي يحكم، وحكمه ماض ومُسَلَّم به، وعلى رعاياه الطاعة والقبول بغض النظر عن أعراقهم ولغاتهم، ولما بدأ الفكر الغربي بالتحرر من سلطان الكنيسة وأخذ يتمرد عليها وعلى الفكر الديني السائد في القرون الوسطى فإنه اتجه وجهة عالمية وجعل الفرد محل اهتمامه، وكانت شعارات الثورة الفرنسية التي كانت محطة مهمة في تاريخ الصراع بين رجال الفكر والكنيسة شعارات ذات صبغة كونية «حرية، إخاء، مساواة».
ولكن الفكر الغربي واجه أزمة في الفكر السياسي عندما أراد أن يطبق الأفكار التي ينادي بها في دولة بعد القضاء على نظرية الحق الإلهي، حيث كان ملزماً بإيجاد نظرية تحل محلها ويمكن تطبيقها، ولما كانت فكرته تقول بأن السيادة للشعب لا للملك، وكانت في الوقت نفسه ذات صبغة كونية؛ فقد وجد إشكالية في تعريف الشعب أو الأمة، إذ لم يكن للشعب بمقتضى نظرية الحق الإلهي دور مهم في ناحية الحكم، وكان يعرف عن طريق الملك، فرعايا الملك الخاضعون لحكمه هم الشعب، وبعد أن سقطت هذه النظرية ولم يعد الشعب يعرف عن طريق الملك، فمن هو الشعب إذن الذي ينبغي أن يملك السيادة؟ وهل ينبغي جعل العالم كله دولة واحدة ويكون الناس جميعاً هم الشعب؟ وللخروج من هذا المأزق الفكري اخترع فلاسفة الغرب الفكرة القومية بمفهومها السياسي وعرفوا الشعب أو الأمة على أساسها. والفكرة القومية بهذا المفهوم السياسي لم تكن تمثل حقيقة قائمة في أرض الواقع بل هي مسألة متصورة ذهنياً فقط، إذ لم يكن هناك شعب فرنسي ولا إنجليزي ولا ألماني يمثل وحدة سياسية بالمفهوم القومي، بل كانت هناك مناطق خاضعة للملوك المختلفين، فكان الرعايا الخاضعون للملك الفرنسي هم الذين تقوم بهم الدولة الفرنسية، وكان هناك حكام وأمراء متعددون في منطقة واحدة كألمانيا مثلاً. فقام الغربيون بتخيل شعب اسمه الشعب الفرنسي في حدود الدولة الفرنسية القومية وآخر اسمه الشعب الألماني وهكذا، وأعطوه صفات ومميزات تميزه عن غيره تتمثل في العرق الواحد واللغة الواحدة والتاريخ الواحد المشترك، ولما لم تكن هذه الصفات والخصائص موجودة على النحو الذي أرادوه فقد افترضوا وجودها افتراضاً، وفرضوا القومية على الوجه الذي اخترعوه وتصوروه ضمن وحدة جغرافية وسياسية فرضاً. وخير مثال على ذلك ألمانيا فإنها كانت مكونة من إمارات كثيرة مستقلة، وكانت كل منطقة تتحدث بلهجة بعيدة عن اللهجات الأخرى، ولم تكن هناك لغة جامعة فصحى، فجعلت إحدى اللهجات اللغة المعتمدة وأجبر الناس على دراستها، وحرص المفكرون الألمان والشعراء والكتاب على زرع مفهوم القومية الألمانية في قلوب الناس بعد أن كان غريباً عنهم، وحاولوا الحديث عن عرق واحد ولغة واحدة وتاريخ مشترك، ولما جاء بسمارك وحد المناطق المتنافرة المقسمة بقوة الحديد والنار.
إن هذا الإسهاب في شرح كيفية تكوّن الدولة القومية في الغرب وكيفية ميلاد الشعوب والأمم بهذا المفهوم مهم جداً لمعرفة كيفية نشأ مفهوم الأقلية عندهم، فالدولة القومية والأمة القومية لما صارت تقوم على معرفات من العرق واللغة والتاريخ المشترك افترضت وجود عرق واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد في الوحدة السياسية الواحدة وجعلت هذه المعرفات هي المكونة للأمة أو الشعب الحافظة لوحدته وهي التي تعطي الشرعية للحكم وللحاكم، ولما كان الواقع بخلاف ما افترض وكان في كل وحدة سياسية أعراق مختلفة ولغات متنوعة وتاريخ متباين، فقد عمل على دمج هذه المجموعات في القومية المفترضة، وحيث لم يتيسر ذلك فقد وجدت مجموعات في الدولة القومية تخالف في العرق أو اللغة أو التاريخ، أو فيها جميعها ما حددت على أساسه الدولة القومية، وقد أصبحت هذه المجموعات تعرف بالأقليات العرقية واللغوية وألحق بها الأقليات الدينية والثقافية وغيرها. وعليه فإن الأقليات بمفهومها السياسي والقانوني الموجود في الغرب هي نتاج تطور فكري وسياسي في الغرب، وبكلمات أدق هي نتاج الدولة القومية والأمة القومية بالمفهوم السياسي الحديث وإفراز من إفرازاتها.
خطأ مفهوم الأقليات
إن مفهوم الأقليات كما أسلفنا فرع عن الفكرة القومية التي نشأت في الغرب، والفكرة القومية كمفهوم سياسي فكرة فاسدة لأسباب كثيرة لا يتيسر لنا رصدها في هذا السياق، ويكفي في بيان فسادها أنها جاءت لحل أزمة في الفكر السياسي الغربي، فهي ليست أصيلة بل هي نوع من الحل الاضطراري والتلفيق، وهي فوق ذلك فكرة خيالية مبنية على أوهام؛ لأن الأمة بالمفهوم القومي الغربي غير موجودة في أرض الواقع بل متصورة فقط. ثم إن بناء الأمة التي تتكون منها الدولة على أسس عرقية أو لغوية خطأ؛ لأنه لا يجوز أن يكون للعرق أو اللغة مدخل في إنشاء الأمة وتعريفها لأنها تقود إلى صراع وخصومات داخل المجتمع الواحد والدولة الواحدة، وظاهرة الأقليات هي نوع من أنواع هذا الصراع وهذه الخصومة. وما دامت الفكرة القومية فاسدة فإن مفهوم الأقليات المبني عليها فاسد أيضاً.
إن مفهوم الأقلية بمعناه السياسي والقانوني الغربي هو مفهوم خطر جداً على المجتمعات البشرية، فهو يفترض وجود تنافر وصراع بين الأقليات والأكثرية من جهة، وبين الأقليات فيما بينها من جهة أخرى لمجرد وجود اختلافات عرقية أو دينية أو لغوية أو ثقافية، تماماً مثلما افترضت الشيوعية وجود صراع بين طبقات المجتمع وبين العمال وأرباب العمل، مع أن هذه الاختلافات طبيعية في المجتمعات وهي من سنن الله، ولا يلزم من وجود هذه الاختلافات حصول صراعات وتولد حقوق وواجبات بهذه الأوصاف. فأين المشكلة في وجود أعراق متعددة في بلد واحد يمثل وحدة سياسية واحدة بحيث يسيطر عليها الانسجام والاتفاق بدل التنافر والاختلاف؟ ولماذا يفترض أن تكون الناحية العرقية أو اللغوية مثلاً سبباً لمطالب سياسية؟! وأن تكون الأكثرية العرقية متعدية على الأقليات العرقية الأخرى حتى يجعل مفهوم الأقليات مدخلاً لرد هذا التعدي بحفظ حقوق الأقليات؟
إن مفهوم الأقليات الغربي يؤسس لتفتيت المجتمعات وضرب مكوناتها بعضها ببعض، وهو مؤذن بوجود فوضى عارمة في الدول بدل أن يكون عامل تثبيت واستقرار، حتى في المجتمعات والدول الغربية، فالدول الغربية اليوم هي التي ترسم سياسات العالم وهي المؤثرة في الموقف الدولي، وقد اتفقت على جعل الصراعات فيما بينها خارج أراضيها، ولا يوجد في العالم اليوم قوة تعمل على ضرب الدول الغربية ومصالحها، ولولا ذلك كله لرأينا الصراعات في هذه الدول على أشدها خصوصاً إن وَجدت من يغذيها؛ ففي الدول الأوروبية يوجد أكثر من 300 أقلية عرقية حسب تعريفهم، وهي في أغلبها غير حاصلة على حقوقها بمقتضى مفهوم الأقلية، ويكفي إلقاء نظرة على ما حصل مع الباسك في إسبانيا وفرنسا ومع الكاثوليك في المملكة المتحدة، وما حصل في يوغوسلافيا لوضع سيناريوهات حول ما ستؤول إليه الأوضاع في أوروبا إذا ما أثيرت فيها مسألة الأقليات.
وكذلك فالتعريف العائم لمفهوم الأقلية وعدم ضبطه والنسبية التي فيه تجعله مرشحاً لمزيد من التوسع ليشمل فئات متعددة في المجتمع تعد نفسها من الأقليات وتطالب بمزيد حقوق وفق مفهوم الأقليات، فالمعرفات التي اعتمدها المفكرون الغربيون في تحديد الأقلية معرفات غير ثابتة ومطاطة، إذ يمكن أن يفسر العرق واللغة والدين والثقافة تفسيرات متعددة، فيجعل العرق الواحد أعراقاً، واللغة الواحدة لغات ولهجات، والدين الواحد أدياناً ومذاهب، والثقافة الواحدة ثقافات وثقافات، وفوق ذلك فقد تطالب بعض الفئات في المجتمع بعدِّها أقلية لمعرِّفات أخرى تكتسب أهمية أكبر عند هذه الفئات من المعرفات المعتمدة حتى الآن، وقد تكون هذه المعرفات تافهة، ولكنها تملك سلطاناً أقوى من سلطان المعرفات التقليدية، فالمتابع للشأن الغربي والواقف على واقع المجتمعات الغربية يلاحظ أن الرابط بين مجموعات سائقي الدراجات النارية أو فرق مشجعي لعبة كرة القدم أقوى وأكثر أثراً من الرابط العرقي أو الديني الذي يجمع هؤلاء، فلماذا تبقى المحددات العرقية والدينية هي المعتبرة بينما لا يلتفت إلى هذه المحددات؟ وقل مثل ذلك في محددات أخرى كالروابط المهنية والفنية والعلمية. وأولى من هذه جميعها المعرفات الفكرية والسياسية التي تنتظم فئات ومجموعات في المجتمع لا يمكن إدراجها تحت الأحزاب السياسية لأنها لا تفي بالشروط المطلوبة في الأحزاب السياسية، وهكذا إذا سرنا في عدِّ المعرفات التي يمكن أن يتوسع مفهوم الأقليات ليشملها فإننا لن نحصيها لكثرتها وتنوعها، وبهذا يظهر أن المعرفات التي وضعها المفكرون الغربيون هي معرفات انتقائية عشوائية لا تصمد أمام الضبط الفكري الصحيح. وتدل على خطأ مفهوم الأقليات.
وهناك ناحية تضليلية في مفهوم الأقليات، إذ يظهر للوهلة الأولى أن العمل بهذا المفهوم يضمن للأقليات حقوقها، مع أن الواقع بخلاف ذلك في كثير من الأحيان، ولنأخذ المشاركة السياسية كمثل على ذلك، فإنه يجري إيهام الأقلية بإحراز حقوقها عن طريق مشاركة بعض أبناء هذه الأقلية في المناصب السياسية، بينما يجري استغلالها لتحقيق مصالح لجهات أخرى في المجتمع، فأوباما انتخب كأول رئيس من أصول سوداء للولايات المتحدة الأميركية وكان لتصويت السود لصالحه أثر في نجاحه في الانتخابات، فما الذي عمله للأقلية السوداء هناك؟ وما هي المطالب التي حققها لهم؟ وهل يمثل الرجل فعلاً آمال الأقلية السوداء بالمساواة مع البيض من الشعب الأميركي أم أنه خادم لمصالح أصحاب رؤوس الأموال ومنفذ لخططهم وقراراتهم بغض النظر عن الأقلية السوداء وحقوقها؟! وها هم المسلمون في فرنسا وبريطانيا وألمانيا وغيرها يدعون للمشاركة في الانتخابات البرلمانية تحت غطاء تحقيق مصالح الأقليات، ويقدم بعض من ينتسبون إلى الإسلام لاحتلال مناصب سياسية باسم مشاركة الأقليات، كأعضاء في البرلمان الإنجليزي من أصول باكستانية، ووزراء في حكومتي ألمانيا وفرنسا من أصول مغاربية وتركية، ومسؤولين كبار في بلديات في هولندا وبلجيكا من أصول مغربية وتركية، وكالمشاركة في الأحزاب السياسية الغربية ليصل بعضهم إلى مناصب قيادية كزعيم حزب الخضر في ألمانيا فهو من أصول تركية، وهكذا. فما الذي يحققه المسلمون من هذه المشاركة ومن حصول أفراد منهم على مناصب سوى عمل هؤلاء الأفراد على الاستفادة الشخصية من هذه المناصب وتنفيذ ما تريده القوى الفاعلة من أصحاب رؤوس الأموال والنافذين؟ ومثل ذلك التصويت للأحزاب الغربية التي تدعي أنها تعمل على حماية الأقليات وحفظ حقوقهم وتقدم نفسها على سبيل المثال للمسلمين كضامن أفضل لمصالحهم من الأحزاب الأخرى، فيقوم المسلمون بانتخابها بناء على هذا الوهم ولكنها لا تلبث أن تنقلب عليهم بعد أن أخذت منهم حظها، وما أمر انتخاب بوش الابن مع حزبه، وانتخاب شيراك في فرنسا وانتخاب توني بلير في بريطانيا وانتخاب الحزب الاشتراكي في كل من ألمانيا والنمسا عنا ببعيد، مع ما قامت به هذه الأحزاب وممثلوها من إضرار بالمسلمين وتعدّ عليهم سواء في البلاد الغربية أم في العالم الإسلامي، فأين هي المصلحة في مشاركة الأقليات في العمل السياسي المدعى لتحصيل حقوقها؟
وإذا ما أضفنا إلى مخاطر مفهوم الأقليات سالفة الذكر البعد الاستعماري له فإنه يبرز مدى إضراره بالبشرية واستغلاله من قبل الدول الغربية لزرع الشقاق والاختلاف في دول العالم المستضعفة لتحصيل مصالح مادية، فآلاف الحروب التي أشعلها الغرب في ما يسمى بدول العالم الثالث ومنها البلاد الإسلامية على خلفية إثارة النعرات الطائفية والدينية وإثارة مسألة الأقليات خير شاهد على فظاعة هذا المفهوم. فلا تخلو دولة من الدول القائمة في العالم الإسلامي ولا في العالم الثالث من مشاكل أقليات لم تكن معروفة من ذي قبل، أدت إلى تفتيت دول وتدمير مجتمعات بأسرها، وما أحداث السودان وإندونيسيا والعراق وأفغانستان ولبنان ومصر ورواندا وبوروندي إلا نماذج قليلة من المصائب التي يجلبها العمل بمفهوم الأقليات.
موقف الإسلام من مفهوم الأقليات
للوقوف على رأي الإسلام في مفهوم الأقليات وإدراكه، يحسن أن نبين مجموعة من القضايا التي جاء بها الإسلام مما له مساس بهذه المسألة:
أولاً: لقد كان المجتمع الذي أنشأه النبي صلى الله عليه وسلم والدولة التي أقامها في المدينة المنوَّرة نموذجاً متميزاً عما سبقه وعما لحقه. فقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم الأمة الإسلامية على العقيدة الإسلامية وجعل الرابط بينها يقوم على الإيمان بالإسلام، فلم يعر الناحية العرقية أو اللغوية أو غيرها من الفوارق الموجودة أي اهتمام، بل حصر الأمر كله في الإيمان بالإسلام فقط. فمن ينتمي للأمة الإسلامية يكون كسائر المسلمين سواء بسواء. قال تعالى: ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ). وقال صلى الله عليه وسلم : «المسلم أخو المسلم». وجاء في صحيفة المدينة: «هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، أنهم أمة واحدة من دون الناس». وقد أرسل الله عزّ وجلّ محمّدا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة رحمة للعالمين، فقال سبحانه: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ )، وقال: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ). فدعا النبي صلى الله عليه وسلم الناس جميعا إلى الإسلام، فدخلوا فيه أفواجا؛ دخل فيه سلمان الفارسي، وكان من الصحابة الأولين ومن المقرّبين من نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم حتّى قال فيه عليه الصلاة والسلام فيما يروى عنه: «سلمان منا أهل البيت» رواه الحاكم. وولاّه عمر بن الخطّاب المدائن. ودخل فيه بلال الحبشي الأسود وكان من الأوّلين ومن المقرّبين. ودخل فيه صهيب الرومي، وكان هو الآخر من الأولين المقربين. ودخل فيه عبد الله بن سلام الذي كان يهودياً، فأسلم وأصبح من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم يكن الأمر على هذا النحو زمن النبي صلى الله عليه وسلم فقط، بل استمر زمن الخلفاء الراشدين ومن جاء بعدهم حيث حمل المسلمون الدعوة إلى الإسلام ونجحوا في صهر مختلف الشعوب والأمم في بوتقة الإسلام حتى تكونت الأمة الإسلامية المنتشرة في بقاع الأرض كلها، ومع أن رسالة الإسلام بدأت في جزيرة العرب وكانت بلسان عربي إلا أن غير العرب حملوها بعد أن آمنوا بها بقناعة وحماسة لا تقل عن المسلمين الأوائل من العرب. وبرز من غير العرب أئمة لا يتيسر حصرهم في مختلف المجالات؛ فقد برز في الفقه أبو حنيفة، وفي الفقه الدستوري الماوردي، وبرز في اللغة سيبويه، وفي الحديث البخاري ومسلم وأصحاب السنن، وفي الأصول الآمدي، وفي الرياضيات الخوارزمي، وفي الطب ابن سينا، وفي القيادة العسكرية صلاح الدين وقطز وبيبرس، وفي علم التاريخ والاجتماع ابن خلدون، وفي الفرق والمذاهب ومسائل الاعتقاد الماتريدي والشهرستاني، وغير هؤلاء ممن لا يحصون عدداً. هذا، وحكم غير العرب قروناً من الزمن ودان المسلمون لحكمهم كالعثمانيين. ويلاحظ أن المسلمين لم يقتصروا على الناحية النظرية من مفهوم الأمة الإسلامية بل طبقوه عملياً إلى أن ظهرت الدعوات القومية والوطنية، وبدأ يتسرب إلى المسلمين شيء من مفاهيم الغرب، أما قبل ذلك فإن الرابط بينهم كان رابط العقيدة الإسلامية الممثل في مفهوم الأمة الإسلامية. ولم يقصر الإسلام مفهوم الأمة الإسلامية على الرابطة الروحية بل جعله مفهوماً ذا بعد سياسي وقانوني يربط بين المسلمين في المجتمع والدولة وتنبني عليه حقوق وواجبات مفصلة في مظانها.
ثانياً: لم يفرق الإسلام في نظرته إلى الناس بناء على معطيات خَلقية من عرق أو لون، أو على أساس لغوي، بل جعل محط نظره الإنسان من حيث هو منذ لحظاته الأولى في أول آيات جاء بها الوحي، حيث قال سبحانه وتعالى: ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ). وصرح القرآن بهذا النظرة في أكثر من موطن، قال الله تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ). وقال: ( وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ). فالناس عند الله سبحانه وتعالى وفي نظر الإسلام سواسية، والتفاضل بينهم محصور بأمور كسبية جمعها لفظ التقوى وهي العمل بطاعة الله سبحانه وتعالى رجاء رحمته ورضوانه ومخافة عصيانه وعقابه. وجاءت السنة مؤكدة هذا المعنى فقال e: «يا أيها النّاس، ألا إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا أحمر على أسود، ولا أسود على أحمر، إلا بالتقوى» رواه أحمد في المسند.
وأما الأمور المختلفة بين الناس من عرق ولون ولغة فهي أمور طبيعية، وهي من آيات الله وعلامات قدرته فلا يجوز النظر إليها نظرة سلبية ولا تفضيلية. ولم يفتُر القرآن عن توجيه ندائه إلى الناس وذكرهم في آيات كثيرة، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ )، وقال: ( وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا )، وقال سبحانه: ( هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3) )، وقال: ( يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ) ومثل ذلك جاء في السنة النبوية المطهرة. وفوق ذلك فقد حرم الإسلام التمييز القائم على أساس اللون والعرق واللغة وغيرها واعتبره من أمور الجاهلية المنتنة. عن جُنْدُبِ بنِ عبد اللّه البَجَلِيّ قال: قال رسول اللّهِ e: «مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمّيّةٍ، يَدْعُو عَصَبِيّةً، أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيّةً، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيّةٌ» رواه مسلم. وعن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول الله e: «… ومن دعا دعوى الجاهلية فهو جثاء جهنم. قال رجل: يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال: نعم، وإن صام وصلى، ولكن تسموا باسم الله الذي سماكم عباد الله المسلمين المؤمنين» (رواه أحمد في المسند).
ثالثاً: لم يُعَرِّف الإسلام الدولة الإسلامية على أسس عرقية أو لغوية، ولم يجعل لها حدوداً جغرافية وسياسية ثابتة، بل جاء الإسلام بمفهوم دار الإسلام ودار الكفر حين قسم الدنيا إلى دارين، وعرف هاتين الدارين بالحكم والأمان، فجعل دار الإسلام هي البلاد التي تطبق فيها أحكام الإسلام ويكون أمانها بأمان الإسلام، ودار الكفر هي البلاد التي تطبق فيها أحكام الكفر أو يكون أمانها بغير أمان المسلمين، وأوجب على المسلمين وحدة الدار بوحدة الدولة حين ألزمهم بتنصيب خليفة واحد، أي أن الأصل في الإسلام أن تطابق حدود دار الإسلام حدود الدولة الإسلامية. ودار الإسلام تضيق وتتسع تبعاً لانحسار الرقعة التي تطبق فيها أحكام الإسلام واتساعها.
رابعاً: مع أن مفهوم الأمة الإسلامية يحوز قدراً كبيراً من الاهتمام في الإسلام غير أنه لم يجعل الأساس للتابعية في الدولة الإسلامية، بل شرط الإسلام فقط الولاء للدولة والنظام في حامل التابعية الإسلامية. وحامل التابعية هو كل من يقيم في دار الإسلام وفي الدولة الإسلامية إقامة دائمة سواء أكان مسلماً أم غير مسلم. وكل من يحمل التابعية فإنه من رعايا الدولة الإسلامية الذين لا يجوز أن تفرق الدولة بينهم في الحكم ورعاية الشؤون. ولذلك فإن المسلم المقيم خارج دولة الإسلام لا يتمتع بحقوق حامل تابعية الدولة الإسلامية، ولكن غير المسلم المقيم في الدولة الإسلامية فإنه يتمتع بحقوق التابعية.
إن هذه الأمور الأربعة تبين بكل وضوح أن مفهوم الأقليات مرفوض في الإسلام جملة وتفصيلاً؛ لأنه قائم على أساس تقسيم الناس إلى أعراق وقوميات ولغات. وهذه التقسيمات غير مقبولة في الإسلام، إضافة إلى أنها لا تجعل أساساً في التابعية وتعريف الدولة، وكذلك تقسيم الناس إلى أتباع ديانات مختلفة فإن هذا لا مدخل له في الإسلام في موضوع التابعية وتعريف الدولة. وأما هذه الاختلافات الموجودة بين الناس فإن الإسلام ينظر إليها نظرة تنوع ويجيز للناس أن يتحدثوا بلغاتهم ويدينوا بأديانهم دون أن يتدخل في ذلك، والدليل على هذا القول ما نجده من تعدد للغات والأقوام والأديان في البلاد الإسلامية بعد مضي ما يزيد على أربعة عشر قرناً من ظهور الإسلام وسيطرته.
قلنا إن الناحية العرقية والناحية اللغوية ولون البشرة أمور لا ينظر إليها الإسلام مطلقاً ولا يفرق فيها بين الناس، ولكن الإسلام دين وينبغي أن يطبق في الدولة الإسلامية، وهذه الدولة كما سلف سيكون فيها أناس غير مسلمين، فكيف يكون التعامل معهم، أفلا يعتبرون أقلية حسب مفهوم الأقليات؟ والجواب على ذلك أن مفهوم الأقليات غير موجود في الإسلام حتى فيما يتعلق بغير أهل الإسلام، ولكن يوجد في الإسلام مفهوم أهل الذمة وهو مفهوم يختلف اختلافاً بيناً عن مفهوم الأقليات.
غير المسلمين في الدولة الإسلامية (أهل الذمة)
وجود غير المسلمين في دار الإسلام أمر حتمي وطبيعي؛ لأنه منسجم مع سنن الله الكونية القاضية بتنوع البشر واختلاف أديانهم، ومندرج في سنن الله التشريعية التي تحرم فتنة الناس عن دينهم، قال تعالى ( ) وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ )، وقال ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ) ، وقال ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ). وهو أمر مطلوب إسلامياً لأنه طريق إلى هداية الناس إلى الدين الحق حين يخضعون لأحكام الإسلام فيلمسون عدل الإسلام وصحة أحكامه فيدخلون فيه طائعين عن رضا واقتناع.
والدولة الإسلامية دولة تطبق أحكام الإسلام في الداخل وتحمله بالدعوة والجهاد إلى الخارج، وترعى شؤون الرعية وتحمي الثغور. والمسلمون بمقتضى إيمانهم ودينهم ملزمون بتطبيق الإسلام وحمله بالدعوة والجهاد والدفاع عن ديارهم، كما أنهم ملزمون بإحسان الرعاية. وهم كذلك ملزمون بالخضوع لأحكام الإسلام. قال تعالى (في سورة الأحزاب): ( مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ْ)، وقال (في سورة النساء): ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا ). ولذلك فإن المسلم الذي يحمل التابعية الإسلامية لا يحتاج إلى مزيد توثيق ليتمتع بحقوق التابعية ويلتزم بواجباتها؛ إذ دينه بحد ذاته يعد من أغلظ الميثاق، أما غير المسلم الذي يريد أن يحمل تابعية الدولة الإسلامية فإنه لا يؤمن بالإسلام ولا بأحكامه، وهو غير ملزم بمقتضى دينه بالدفاع عن بلاد المسلمين ودار الإسلام، لذلك فإن حصوله على التابعية في الدولة الإسلامية يستوجب حصول التزام من قبله تجاه الدولة والتزام تجاهه من قبل الدولة، والشكل القانوني لهذا الالتزام هو العقد. ولذلك بنى الإسلام وجود غير المسلمين في دار الإسلام، سواء أكان وجودهم مؤقتا أم غير مؤقت، على فكرة العقد، وهو موثِقٌ وعهد بين طرفين يستلزم حقوقاً وواجبات يراعيها العاقدان. قال تعالى: ( وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ). والمراد إن طلب منك أحد من أهل الحرب أن تجيره من القتل إلى أن يسمع كلام الله فأجره أي أمّنه أو أعطه العهد والميثاق على ذلك؛ لأنّ الجوار هو أن تعطي الرجل ذمة أي عهداً وضماناً، وهو ما يفيد معنى العقد. وأخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من قتلَ نفساً معاهدةً لهُ ذمَّةُ اللّهِ وذمَّةُ رسولِه، فقدْ أخفرَ بذمَّةِ اللّهِ، فلا يُرحْ رائحةَ الجنَّةِ، وإنَّ رِيحها ليوجدُ من مسيرةِ سبعينَ خَريفاً». وأخرج أبو داود عن عمرو بن شُعَيْبٍ عن أبِيه عن جدّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «المُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ يَسْعَى بِذِمّتِهِمْ أدْنَاهُمْ وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ، يَرُدّ مُشِدّهُمْ عَلَى مُضْعِفِهِمْ، وَمُتَسَرّيهمْ عَلَى قَاعِدِهِمْ، لاَ يُقْتَلُ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ وَلاَ ذُو عَهْدٍ في عَهْدِه». وأخرج ابن هشام في السيرة عن عمر مولى غَفْرَة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الله الله في أهل الذمة، أهل المدرة السوداء السحم الجعاد، فإن لهم نسباً وصهراً». وفي هذه الأحاديث الثلاثة استعملت ألفاظ «العهد» و»الذمة» المفيدة للعقد؛ لأنّ الواقع اللغوي لهذه الألفاظ يدلّ على تقاربها.
جاء في لسان العرب: «والعَقْد: العهد، والجمع عُقود، وهي أَوكد العُهود». ومن الألفاظ القريبة من العقد لفظة العهد، قال الجرجاني (في التعريفات): «العهد حفظ الشيء ومراعاته حالاً بعد حال، ثم استعمل في الموثق الذي تلزم مراعاته». ومن الألفاظ القريبة أيضاً لفظة الذمة. جاء في مختار الصحاح: «الذِّمامُ الحرمة، وأهل الذِّمَةِ أهل العقد. قال أبو عبيد: الذمة الأمان في قوله صلى الله عليه وسلم «ويسعى بذمتهم أدناهم».
والعقد في الشرع هو ارتباط إيجاب بقبول على وجه مشروع يظهر أثره في محله. والذمة والأمان والعهد كلها عقود، فيها ربط بين طرفي الإيجاب والقبول المتمثل بكل من جهتي المسلمين وغير المسلمين. وبمقتضى عقد الذمة الذي يعقد بين غير المسلم والدولة الإسلامية يحوز غير المسلم على تابعية الدولة الإسلامية ويصبح من رعاياها، فله عليها حق الرعاية والحفظ والأمان، ولها عليه الخضوع لأحكام الإسلام، وأن يؤدي مالاً مقابل حفظه وحمايته لأنه غير مكلف بالجهاد.
هذا هو واقع عقد الذمة، فهو عقد على التابعية والحفظ والأمان، ومن يعقد لهم يُسمَّون في عرف الإسلام أهل الذمة. ونظرية عقد الذمة هي أرقى صيغة قانونية عرفتها البشرية لتنظيم العلاقة بين الدولة والمقيمين فيها من غير المؤمنين بالأسس التي قامت عليها أو الوافدين الجدد إليها ممن يرغبون في الإقامة فيها والحصول على تابعيتها. وإن المرء ليستغرب من النفور الموجود عند بعض المثقفين المسلمين وعند كثير من غير المسلمين من مصطلح أهل الذمة مع ما له من دلالات إيجابية وأخلاقية تشعر بالعهد والأمان ومسؤولية الدولة الإسلامية في حماية الذمي ومراعاة حقوقه، في الوقت الذي يتبنون فيه لفظ الأقلية مع ما فيه من إيحاءات سلبية وإسقاطات غير أخلاقية إذ أخذه من القلة يشعر بالاستضعاف وقلة الشأن، كما يفيد تحييد فئة من الناس في المجتمع من المجتمع.
إنّ دخول غير المسلم في ذمة المسلمين يوجب على الدولة وعلى المسلمين الوفاء بعهده وحسن معاملته، فيكون كالمسلمين له ما لهم وعليه ما عليهم في إطار أحكام الشرع. وللوقوف على بعض الحقوق الممنوحة في الإسلام لأهل الذمة وعلى الدلالات الإيجابية التي يحملها هذا المصطلح نسوق بعض النصوص الشرعية:
– وقال تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ ). أخرج الواحدي في أسباب النزول عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس في قوله تعالى: ( لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )، قال: كانت المرأة من الأنصار لا يكاد يعيش لها ولد، فتحلف لئن عاش لها ولد لتهوِّدنّه. فلما أجليت بنو النضير إذا فيهم أناس من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: يا رسول الله، أبناؤنا. فأنزل الله تعالى: (ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ). قال سعيد بن جبير: «فمن شاء لحق بهم، ومن شاء دخل في الإسلام».
– وأخرج البخاري عن عبد الله بن عمرو عن النبيصلى الله عليه وسلم قال: «من قتل معاهداً لم يَرِحْ رائحة الجنة، وإنَّ ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».
– وأخرج أبو داود عن عدة من أبناء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آبائهم دِنْية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه [أي أخاصمه] يوم القيامة».
– وروى مسلم عن ابن أبي ليلى، أن قيس بن سعد وسهل بن حنيف، كانا بالقادسية فمرت بهما جنازة فقاما، فقيل لهما: إنها من أهل الأرض [أي من أهل الذمة المقرين بأرضهم على أداء الجزية]، فقالا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرت به جنازة، فقام فقيل: إنه يهودي ؟! فقال: «أليست نفساً».
– وأخرج مسلم عن عروة بن الزبير أن هشام بن حكيم وجد رجلا وهو على حمص يشمس ناساً من النبط في أداء الجزية، فقال ما هذا؟ إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا».
– وذكر أبو يوسف في الخراج كتاب النبي صلى الله عليه وسلم لأهل نجران وفيه: «… ولنجران وحاشيتها جوار الله وذمة محمد النبي رسول الله على أموالهم وأنفسهم وأرضهم وملتهم وغائبهم وشاهدهم وعشيرتهم وبيعهم وكل ما تحت أيديهم من قليل أو كثير، لا يغير أسقف من أسقفيته ولا راهب من رهبانيته ولا كاهن من كهانته وليس عليه دنية، ولا دم جاهلية، ولا يخسرون ولا يعسرون ولا يطأ أرضهم جيش. ومن سأل منهم حقاًّ فبينهم النَّصفُ غير ظالمين ولا مظلومين… ».
– وأخرج البيهقي في الدلائل من كتاب عمرو بن حزم: « … ومن كان على نصرانية أو يهودية فإنه لا يغيَّر عنها…» وفي السيرة لابن هشام من كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم إلى وفد حمير: «… ومن كان على يهوديته أو نصرانيته فإنه لا يرد عنها، وعليه الجزية…».
فهذا غيض من فيض النصوص التي تتحدث عن حقوق أهل الذمة في الدولة الإسلامية ويظهر منها الحرص على حسن معاملتهم وإعطائهم ما لهم وفق الأحكام الشرعية.
علاقة الدولة برعاياها ومنهم أهل الذمة
تتجلى علاقة الدولة الإسلامية برعاياها في جانبين، الجانب الأول هو جانب الحكم ورعاية الشؤون، والجانب الثاني هو جانب تطبيق الأحكام الشرعية والقوانين.
أما في جانب الحكم ورعاية الشؤون فإنه لا يجوز للدولة أن تفرق بين رعاياها، بل يجب عليها أن تعاملهم جميعهم معاملة واحدة دون أي تمييز بناء على عرق أو لون أو جنس أو دين. جاء في المادة الخامسة والسادسة من مشروع الدستور المستنبط من كتاب الله سبحانه وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع صحابته رضوان الله عليهم، والقياس الشرعي الذي قدمه حزب التحرير للأمة ليكون دستوراً لدولة الخلافة ما يلي:
«المادة 5: جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية يتمتعون بالحقوق ويلتزمون بالواجبات الشرعية.
المادة 6: لا يجوز للدولة أن يكون لديها أي تمييز بين أفراد الرعية في ناحية الحكم أو القضاء أو رعاية الشؤون أو ما شاكل ذلك، بل يجب أن تنظر للجميع نظرة واحدة بغض النظر عن العنصر أو الدين أو اللون أو غير ذلك».
والأدلة على هاتين المادتين مفصلة في كتاب مقدمة الدستور عند شرحهما، ويكفي أن نذكر هنا أن النصوص الشرعية التي جاءت تخاطب المسلمين في أبواب الحكم والقضاء ورعاية الشؤون جاءت عامة غير مفرقة بين مسلم وغير مسلم، ولا بين عربي وعجمي، ولا بين أحمر وأسود من الناس، بل جاءت آمرة بالتسوية والعدل، قال تعالى (في سورة النساء): ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ). فاستعمل هنا لفظ الناس الدال على العموم، وقال تعالى (في سورة المائدة): ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ). فأوجب العدل حتى عند البُغض، فالعدل هو أقرب للتقوى.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الإمام راع وهو مسؤول عن رعيته» (رواه البخاري)، فجعله محاسباً عن رعيته كلها دون تفريق. وقال صلى الله عليه وسلم: «ألا من ظلم معاهداً أو انتقصه أو كلَّفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة»، أخرجه أبو داود، فنص صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث خاصة على وجوب معاملة أهل العهد بالعدل، وجعل نفسه خصيم من ظلمهم يوم القيامة في إشارة إلى شدة حرمة مثل هذا الظلم. والنصوص الشرعية في هذا الباب كثيرة؛ ولذلك فإنه لا يعلم فيه خلاف بين المسلمين منذ فجر الإسلام، يقول ابن عابدين في الحاشية شارحاً معنى وجوب كف الأذى عن الذمي وحرمة غيبته كالمسلم: «لأنه بعقد الذمة وجب له ما لنا، فإذا حرمت غيبة المسلم حرمت غيبته، بل قالوا: إن ظلم الذمي أشد». وقال القرافي (في الفروق): «عقد الذمة يوجب حقوقاً علينا لهم لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا، وذمة الله تعالى وذمة رسوله e، ودين الإسلام، فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم، أو نوع من أنواع الأذية، أو أعان على ذلك، فقد ضيَّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام، وكذلك حكى ابن حزم في مراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح، ونموت دون ذلك صوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله e، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة».
هذا في جانب الحكم ورعاية الشؤون، وأما في جانب التشريع وتطبيق القوانين، فإن الإسلام جاء بنظام شامل لكل أمور الحياة، من عبادات وحكم واقتصاد وتعليم وسياسة خارجية وقضاء وغير ذلك، وهذا النظام وإن كان منبثقاً عن العقيدة الإسلامية غير أنه لا يقتصر على البعد الروحي، بل هو تشريعات وقوانين قابلة للتطبيق في دولة، والإسلام حين يأمر بتطبيق هذا النظام إنما ينظر إلى هذه الناحية التشريعية والقانونية فيه لا إلى الناحية الروحية الدينية، فيأمر بتطبيق الأحكام الشرعية على رعايا الدولة كلهم دون ملاحظة لاختلاف دينهم إلا في الأحكام التي تقتضي طبيعتها وموضوعها اختصاص أهل دين بها، كأن يغلب عليها الطابع الديني. فمثلاً أحكام العبادات من صلاة وصوم وزكاة وحج وغيرها هي أحكام شرعية كسائر الأحكام الشرعية، ولكن القيام بها يستلزم الإيمان بالإسلام، فكان تطبيقها على غير المسلمين غير وارد؛ لأن ذلك يكون إكراهاً لهم على الإسلام فيما حرم الإسلام الإكراه في الدين؛ ولذلك فإن غير المسلمين يستثنون من تطبيق أحكام العبادات هذه ولا تطبق إلا على المسلمين، لأن إيمانهم بالعقيدة الإسلامية يوجب ذلك فلا يكون إكراهاً في حقهم. وبتتبع النصوص الشرعية وعمل النبي صلى الله عليه وسلم وما كان عليه الخلفاء الراشدون يتبين أن الإسلام أوجب تطبيق أحكام الإسلام كلها على المسلمين دون استثناء. وأما غير المسلمين من رعايا الدولة فإنه جعل الأصل تطبيق أحكام الشرع عليهم كالمسلمين، وإن كانوا لا يؤمنون بالأساس الذي انبثقت عنه وهو العقيدة الإسلامية؛ لأن هذا ليس شرطاً في تطبيقها، واستثنى من ذلك أموراً لاعتبارات متعددة تقتضي هذا الاستثناء ويمكن أن نلخصها على النحو الذي جاء في المادة السابعة من مشروع الدستور لجزب التحرير:
«المادة 7 – تنفذ الدولة الشرع الإسلامي على جميع الذين يحملون التابعية الإسلامية، سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين، على الوجه التالي:
أ – تنفذ على المسلمين جميع أحكام الإسلام دون أي استثناء.
ب – يُترك غير المسلمين وما يعتقدون وما يعبدون ضمن النظام العام.
ج – المرتدون عن الإسلام يطبق عليهم حكم المرتد إن كانوا هم المرتدين، أما إذا كانوا أولاد مرتدين وولدوا غير مسلمين فيعاملون معاملة غير المسلمين حسب وضعهم الذي هم عليه من كونهم، مشركين أو أهل كتاب.
د – يعامل غير المسلمين في أمور المطعومات والملبوسات حسب أديانهم ضمن ما تجيزه الأحكام الشرعية.
هـ – تفصل أمور الزواج والطلاق بين غير المسلمين حسب أديانهم، وتفصل بينهم وبين المسلمين حسب أحكام الإسلام.
و- تنفذ الدولة باقي الأحكام الشرعية وسائر أمور الشريعة الإسلامية من معاملات وعقوبات وبينات ونظم حكم واقتصاد وغير ذلك على الجميع ويكون تنفيذها على المسلمين وعلى غير المسلمين على السواء، وتنفذ كذلك على المعاهدين والمستأمنين وكل من هو تحت سلطان الإسلام كما تنفذ على أفراد الرعية إلا السفراء والرسل ومن شاكلهم. فإن لهم الحصانة الدبلوماسية».
ما جاء في البنود «ب، د، هـ» بأدلته المفصلة المبينة في كتاب مقدمة الدستور عند شرح المادة السابعة هو تخصيص من قانون دار الإسلام لمصلحة غير المسلمين؛ إذ المسلمون ملزمون في هذه المجالات بأحكام الإسلام، وهذه الاستثناءات تجعل عيش غير المسلمين في الدولة الإسلامية عيشاً سهلاً مطمئناً لأنها تمكنهم من العيش حسب دينهم ومن تطبيق أحكامه دون أن يجدوا تناقضاً بينه وبين القانون العام في الدولة، فلا يقعون في الحرج ولا يشعرون بإكراه في الدين. أما سائر الأحكام التي يلزمون بها فهي أحكام لا تمس دينهم ولا تستلزم منهم التنازل عنه أو مخالفته لأنها ذات طابع عام، وهم عندما يعيشون في غير الدولة الإسلامية سيخضعون أيضاً لقوانين وتشريعات ليست في دينهم ولكنها من وضع البشر، فما الذي يضير غير المسلم إذا كان التشريع والقانون المطبق مأخوذاً من نص شرعي إسلامي؟ وما الفرق عنده فيما لو أخذ هذا التشريع من مصادر وضعية؟ فمثلاً يوجب الإسلام أن يكون النقد قائماً على قاعدة الذهب والفضة فيما لا توجب النظم الوضعية القائمة الآن ذلك، فأين الإشكالية في خضوع غير المسلم لهذا القانون في الدولة الإسلامية؟ ومثلاً يحرم الإسلام أي عمل للمرأة فيه استغلال لأنوثتها فيما تجيز الأنظمة الوضعية ذلك وتحث عليه، فهل يضير غير المسلم بوصفه الديني أن يخضع للحكم الشرعي في الدولة الإسلامية فيحفظ بذلك عرضه؟