الأمان
الدار لها معانٍ عدة منها:
“المنزل”، نحو قوله تعالى: ((فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ)) [القصص: 81]، و”المحلة” وكل موضع حل به قوم فهو دارهم، نحو قوله تعالى: ((فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ )) [الأعراف: 91]، و”البلد”، حكى سيبويه: هذه الدار نعمت البلد، و”المثوى والموضع”، نحو قوله تعالى: ((وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ )) [النحل: 30]، وكذلك “القبيلة” مجازاً نحو حديث أبي حميد الساعدي عند البخاري عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (إن خير دور الأنصار دار بني النجار… ).
والدار قد تضاف إلى أسماء أعيان نحو قوله تعالى: ((سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ )) [الأعراف: 145]. وقوله: ((وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ )) [النحل: 30]. وقوله: ((فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ )) [هود: 65]. وقوله: ((وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ)) [الأحزاب: 27]. ونحو حديث بريدة عند مسلم وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (… ثم أدعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)، وحديث سلمة بن نفيل عند أحمد أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: (ألا إن عقر دار المؤمنين الشام).
وقد تضاف إلى أسماء معان نحو قوله تعالى: ((وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ )) [إبراهيم: 28]. وقوله: ((الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ)) [فاطر: 35]. ونحو حديث علي رضي الله عنه عند ابن عساكر بإسناد حسن صحيح وعند الترمذي قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (رحم الله أبا بكر زوجني ابنته وحملني إلى دار الهجرة). ونحو حديث ابن عباس عند الدارقطني قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا خرج العبد من دار الشرك قبل سيده فهو حر، وإذا خرج من بعده رد إليه. وإذا خرجت المرأة من دار الشرك قبل زوجها تزوجت من شاءت، وإذا خرجت من بعده ردت إليه).
وقد أضاف الشارع لفظ الدار إلى اسمين من أسماء المعاني هما: الإسلام والشرك، فقد روى الطبراني حديث سلمة بن نفيل السابق في مسند الشاميين بلفظ (ألا إن عقر دار الإسلام الشام)، فأضيفت الدار هنا إلى الإسلام. وكذلك فقد روى الماوردي في الأحكام السلطانية وفي الحاوي الكبير أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (منعت دار الإسلام ما فيها، وأباحت دار الشرك ما فيها) أي من حيث عصمة دار الإسلام للدماء والأموال … إلا بحقها وفق أحكام الشرع، ومن حيث عدم عصمة دار الشرك “دار الحرب” في حالة الحرب الفعلية كما في أحكام القتال والغنائم … وفق أحكام الشرع. وهذا التقسيم يشمل الدنيا كلها، فلا يخرج جزء منها عن أن يكون ضمن دار الإسلام أو ضمن دار الشرك، أي دار الكفر أو دار الحرب.
وتكون الدار دار إسلام بتوفير شرطين:
الأول: أن يكون أمانها بأمان المسلمين، بدليل ما رواه ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال لأصحابه في مكة: (إن الله عز وجل جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها)، وهذه الدار هي دار الهجرة الواردة في حديث علي المار عند ابن عساكر، وفي حديث عائشة عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (قد أريت دار هجرتكم). وبدليل أنه صلى الله عليه وآله وسلم لم يهاجر إلى المدينة هو وأصحابه حتى اطمأن إلى وجود الأمان والمنعة، قال الحافظ في الفتح: “وروى البيهقي بإسناد قوي عن الشعبي ووصله الطبراني من حديث أبي الموسى الأنصاري قال: (انطلق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعه العباس عمه إلى سبعين من الأنصار عند العقبة، فقال له أبو أمامة -يعني أسعد بن زرارة- سل يا محمد لربك ولنفسك ما شئت، ثم أخبرنا ما لنا من الثواب. قال: أسألكم لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأسألكم لنفسي ولأصحابي أن تؤوونا وتنصرونا وتمنعونا مما تمنعون منه أنفسكم. قالوا: فما لنا؟ قال: الجنة. قالوا: ذلك لك)”. وبدليل ما رواه أحمد عن كعب بن مالك بإسناد صحيح وفيه أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال نعم والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فنحن أهل الحروب وأهل الحلقة ورثناها كابراً عن كابر). وفي رواية صحيحة عند أحمد عن جابر أنه صلى الله عليه وآله وسلم قال في بيعة العقبة: (… وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم، ولكم الجنة…). وفي دلائل النبوة للبيهقي بإسناد جيد قوي عن عبادة بن الصامت قال: (وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة…). وقد كان صلى الله عليه وآله وسلم يرفض الهجرة إلى أي مكان ليس فيه أمان ولا منعة. روى البيهقي بإسناد حسن عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال لبني شيبان بن ثعلبة: (ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق، وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه). وذلك أنهم عرضوا أن ينصروه مما يلي مياه العرب دون ما يلي فارس.
الثاني: أن تجري فيها أحكام الإسلام. بدليل ما رواه البخاري عن عبادة بن الصامت قال: (دعانا النبي صلى الله عليه وآله وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا، وأثرة علينا، وأن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان). والسمع والطاعة لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تكون في أمره ونهيه، أي في إجراء الأحكام. وبدليل ما رواه أحمد وابن حبان في صحيحه وأبو عبيد في الأموال عند عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (والهجرة هجرتان هجرة الحاضر والبادي، فأما البادي فيطيع إذا أمر ويجيب إذا دعي وأما الحاضر فأعظمهما بلية وأعظمهما أجراً). ووجه الاستدلال واضح في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: (فيطيع إذا أمر ويجيب إذا دعي) لأن البادية كانت دار إسلام وإن لم تكن دار هجرة. وبدليل حديث واثلة بن الأسقع عند الطبراني، قال الهيثمي بإسناد رجاله ثقات أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال له: (وهجرة البادية أن ترجع إلى باديتك، وعليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك ومكرهك ومنشطك وأثرة عليك…). وبدليل ما رواه أحمد بإسناد صحيح عن أنس قال: (إني لأسعى في الغلمان يقولون جاء محمد، فأسعى فلا أرى شيئاً. ثم يقولون: جاء محمد، فأسعى فلا أرى شيئاً. قال: حتى جاء رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه أبو بكر، فكنا في بعض حرار المدينة، ثم بعثا رجلاً من أهل المدينة ليؤذن بهما الأنصار، فاستقبلهما زهاء خمسمائة من الأنصار حتى انتهوا إليهما. فقالت الأنصار: انطلقا آمنين مطاعين. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصاحبه بين أظهرهم. فخرج أهل المدينة حتى إن العواتق لفوق البيوت يتراءينه يقلن أيهم هو أيهم هو؟). وفي هذا الحديث دليل على الشرطين معاً الأمان وإجراء الحكم، أما الأمان ففي وجود خمسمائة من الأنصار يقولون انطلقا آمنين، وقد أقرهم صلى الله عليه وآله وسلم على قولهم. كما أقرهم على قولهم مطاعين. وبذلك توفر الأمان والطاعة في دار الهجرة. ولولا توفرهما ما هاجر صلى الله عليه وآله وسلم. وهذان الشرطان أي توفير الأمان والطاعة في إجراء الأحكام قد بايع عليهما الأنصار في العقبة، روى البيهقي بإسناد قوي عن عبادة بن الصامت قال: (… إنا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن نقول في الله لا تأخذنا فيه لومة لائم. وعلى أن ننصر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع أنفسنا وأزواجنا وأبناءنا ولنا الجنة. فهذه بيعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم التي بايعناه عليه). فإجراء الحكم واضح في قوله: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إذا قدم علينا يثرب مما نمنع أنفسنا وأرواحنا وأبناءنا).
وقد كان هذا المعنى واضحاً في الكتاب الذي كتبه بين المهاجرين والأنصار ووادع فيه يهود وعاهدهم. وكان ذلك في السنة الأولى من الهجرة. وهذا الكتاب من رواية ابن إسحق وسمي الصحيفة. وفيه: (بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وآله وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم ولحق بهم وجاهد معهم أنهم أمة واحدة من دون الناس … وإن المؤمنين بعضهم موالي بعض دون الناس … وإن على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة … وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم …).
وعليه فلا تكون الدار دار إسلام إلا بتوفر الأمان بأمان المسلمين وبإجراء حكم الإسلام، وإذا انخرم أحد هذين الشرطين، أو لم يتوفر، كأن كان الأمان بأمان الكفار، أو كان يجري على الناس حكم الطاغوت، صارت الدار دار شرك أي دار كفر. فلا يشترط غياب الشرطين معاً حتى تكون الدار دار شرك، بل يكفي غياب شرط واحد لتكون الدار دار شرك.
ولا تعني دار الكفر أن كل أهلها كفار، ولا تعني دار الإسلام أن كل أهلها مسلمون، بل إن معنى الدار هنا هو اصطلاح شرعي “حقيقة شرعية” أي أن الشرع هو الذي أعطاها هذا المعنى، تماماً كلفظ الصلاة والصيام ونحوها من الحقائق الشرعية.
وعليه فإنه يطلق على بلد جل أهله نصارى مثلاً ولكنه واقع ضمن الدولة الإسلامية يطلق عليه دار إسلام؛ لأن الأحكام المطبقة أحكام الإسلام، وأمان البلد بأمان الإسلام، ما دام ضمن الدولة الإسلامية.
وكذلك بالنسبة لبلد معظم أهله مسلمون ولكنه يقع ضمن دولة لا تحكم بالإسلام ولا تحفظ أمنها بجيش المسلمين بل بجيش الكفار، فإنه يطلق على هذا البلد دار كفر مع أن معظم أهله مسلمون. فمعنى الدار هنا هو حقيقة شرعية ولا اعتبار لكثرة المسلمين أو قلتهم عند إطلاق لفظ الدار، بل الاعتبار للأحكام المطبقة وللأمان المتحقق لأهلها. أي أن معنى الدار يؤخذ من النصوص الشرعية التي بينت هذا المعنى، تماماً كما يؤخذ معنى الصلاة من النصوص الشرعية التي بينت معناها. وهكذا كل الحقائق الشرعية يؤخذ معناها من النصوص الشرعية وليس من المعنى اللغوي للألفاظ.