الخميس، 19 جمادى الأولى 1446هـ | 21 نوفمبر 2024م | الساعة الآن: 21:11:46 (ت.م.م)
كيفية رعـاية الخليفة لشـؤون الـرعية
للخليفة مطلق الحقّ في رعاية شؤون الرعية حسب رأيه واجتهاده. إلا أنه لا يجوز له أن يخالف أي حكم شرعي بحجة المصلحة، فلا يمنع الرعية من استيراد البضائع، بحجة المحافظة على صناعة البلاد مثلاً، إلا إذا أدى إلى ضرب اقتصاد البلد، ولا يُسعّر على الناس، بحجة مَنع الاستغلال مثلاً، ولا يُجبر المالك على تأجير ملكه، بحجة تيسير الإسكان مثلاً، إلا إذا كانت هناك ضرورة ماسة لذلك، ولا غير ذلك مما يخالف أحكام الشرع فلا يجوز له أن يُحَرِّم مباحاً، أو يبيح حراماً.
وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم: «الإمام راعٍ وهو مسؤول عنرعيته»، وللأحكام التي أعطاها الشرع للخليفة، مثل تصرفه في أموال بيت المال الموكول لرأيه واجتهاده، ومثل إلزام الناس برأي معين في المسألة الواحدة، وما شاكل ذلك. فإن هذا الحديث يعطيه حق رعاية شؤون الرعية بشكل مطلق، دون أي قيد، وأحكام بيت المال والتبني، وتجهيز الجيش، وتعيين الولاة، وغير ذلك مما جُعِل للخليفة قد جُعِل له بشكل غير مقيّد. وهذا دليل على أنه يقوم برعاية الشؤون كما يرى من غير أي قيد. وطاعتُه في ذلك كله واجبةٌ ومعصيته إثم. إلا أن القيام بهذه الرعاية يجب أن يجري حسب أحكام الشرع، أي حسب النصوص الشرعية. فالصلاحية وإن أُعطيَت له مُطلقة، ولكن إطلاقها قد قُيّد بالشرع، أي بأن تكون حسب أحكام الشرع. فمثلاً قد جُعِلت له صلاحية تَعيين الولاة كما يشاء، ولكنه لا يصح أن يُعيّن الكافر، أو الصبي، أو المرأة والياً، لأن الشرع منع ذلك. ومثلاً له أن يسمح بفتح سفارات للدول الكافرة في البلاد التي تحت سلطانه، وقد أعطي ذلك بشكل مطلق، ولكنه لا يصح أن يَسمَح بفتح سفارة لدولة كافرة تريد أن تتخذ السفارة أداةً للسيطرة على بلاد الإسلام، لأن الشرع منع ذلك. ومثلاً له أن يضع فصول الميزانية، والمبالغ اللازمة لكل فصل، ولكن ليس له أن يضع فصلاً في الموازنة لبناء سد للمياه لا تكفي واردات بيت المال لبنائه، بحجة أنه يجمع ضرائب لبنائه، لأن مثل هذا السد، إذا كان يمكن الاستغناء عنه، لا يصح شرعاً أن تُفرض ضرائب من أجله، وهكذا فإنه مُطلقُ الصلاحية في رعاية الشؤون فيما أعطاه إياه الشرع، ولكنّ هذا الإطلاق إنما يجري حسب أحكام الشرع. ثم إنه ليس معنى أن له مطلق الحق في رعاية الشؤون هو أنّ له أنْ يَسُنّ القوانين التي يراها لرعاية شؤون البلاد، بل معنى ذلك أن ما جُعِل له التصرفُ فيه مباحٌ له أن يتصرف فيه بحسب رأيه، بالكيفية التي يراها، وحينئذٍٍ يَسُن القانون في هذا الذي أُبيحَ له أن يَسير فيه برأيه، وحينئذٍٍ تجب طاعته، لأن الشرع جعل له التصرف فيه برأْيه، وأمرنا بطاعته، فكان له جَعْل هذا الرأي قانوناً يُلزمُ الناس به. فمثلاً جُعِل له حق تدبير أمور بيت المال برأيه واجتهاده، وأمر الناس بطاعته في ذلك، فكان له أن يَسنّ قوانين مالية لبيت المال، وحينئذٍ تُصبحُ طاعةُ هذه القوانين واجبةً، ومثلاً جُعِلت له قيادةُ الجيش، وإدارةُ أموره برأيه واجتهاده، وأمر الناس بطاعته في ذلك. فله أن يَسنّ قوانين لقيادة الجيش، وقواينن لإدارة الجيش، وحينئذٍ تصبح طاعةُ هذه القوانين واجبةً. ومثلاً له أن يدير مصالـحَ الرعية برأيه واجتهاده، وأن يُعيّن مَنْ يُديرها، ويشتغل بها برأيه واجتهاده، وأمر الناس بطاعته في ذلك. فله أن يَسنّ قوانين لإدارة المصالح، وله أن يَسنَّ قوانين للموظفين، وحينئذٍ تصبح طاعةُ هذه القوانين واجبةً. وهكذا كل ما تُرِك لرأي الخليفة واجتهاده في الأمور التي هي من صلاحيته له أن يَسنّ قوانين لها، وتكون طاعةُ هذه القوانين واجبةً. فلا يُقال إن هذه القوانين أساليب، والأسلوب من المباحات، فهي مباحة لجميع المسلمين، فلا يَحلّ للخليفة تَعيين أسلوب مُعيّن، وجعله فرضاً، لأنه إيجاب للعمل بالمباح، وإيجابُ العملِ بالمباح هو جعلُ المباح فرضاً، وجَعلُ المباح حراماً في منعه غيره من الأساليب، وهذا لا يجوز، لا يُقالُ ذلك، لأن المباح هو الأساليب من حيث هي أساليب، أما أساليب إدارة بيت المال فهي مباحةٌ للخليفة، وليست مباحةً لكل الناس، وأساليب قيادة الجيش هي مباحةٌ للخليفة، وليست مباحةً لكل الناس، وأساليب إدارة مصالح الرعية هي مباحةٌ للخيفة، وليست مباحةً لجميع الناس، ولهذا فإن إيجابَ العمل بهذا المباح، الذي اختاره الخليفة لا يَجعلُ ذلك المباح فَرضاً، وإنما يَجعلُ طاعةَ الخليفة واجبة فيما جَعلَ الشرع له حقَّ التصرفِ فيه برأيه واجتهاده، أي فيما اختاره لرعاية الشؤون مِنْ رأي واجتهاد. إذ هو وإن كان مباحاً، قد أوجب الخليفة تنفيذه، ومنع غَيرَه، ولكنه مباح للخليفة للرعاية بحسبه، لأن الرعاية له، وليس مباحاً للرعاية لكل الناس. ولهذا لا يكون وجوبُ التزام ما تبناه الخليفة من المباحات لرعاية الشؤون، أي مما جعل الشرع للخليفة أن يتصرف فيه برأيه واجتهاده، من باب أن الخليفة قد جَعلَ المباحَ فرضاً، وجَعلَ المباحَ حراماً، بل هو من باب وجوب الطاعة فيما جَعلَ الشرعُ للخليفة أن يتصرف فيه برأيه واجتهاده. فكل مباح التزمه الخليفة لرعاية الشؤون وجب على كل فرد مِنْ أفراد الرعية التزامه. وبناء على هذا قد دَوّن عمر بن الخطاب الدواوين، وبناء على هذا وضع الخلفاء ترتيبات معينة لعمالهم وللرعية، وألزموهم العملَ بها، وعدمَ العمل بسواها. وبناء على هذا يجوز أن تُوضَع القوانينُ الإدارية، وسائرُ القوانين التي مِنْ هذا القبيل، وطاعته واجبة في سائر هذه القوانين، لأنها طاعة للخليفة فيما يأمر به مما جعله الشرع له.
إلا أن هذا في المباح الذي لرعاية الشؤون، أي فيما جُعل للخليفة أن يتصرف فيه برأيه واجتهاده، مثل تنظيم الإدارات، وترتيب الجند، وما شاكل ذلك، وليس في كل المباحات، بل فيما هو مباح للخليفة بوصفه خليفة. أما باقي الأحكام من الفرض والمندوب والمكروه والحرام والمباح لجميع الناس فإن الخليفة مُقيّد فيها بأحكام الشرع، ولا يحل له الخروج عنها مطـلـقـاً، لما روى البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، وهو عام يشمل الخليفة وغيره.