النظام الإجتماعي
النظام الإجتماعي
|
يتجاوز الكثيرون من الناس فيطلقون على جميع أنظمة الحياة اسم (النظام الاجتماعي) وهذا إطلاق خاطئ. لأن أنظمة الحياة أولى أن يطلق عليها (أنظمة المجتمع)، إذ هي في حقيقتها أنظمة المجتمع، لأنها تنظم العلاقات التي تقوم بين الناس الذين يعيشون في مجتمع معين، بغضّ النظر عن اجتماعهم أو تفرقهم. والاجتماع لا يلاحظ فيها وإنما تلاحظ العلاقات فحسب، ومن هنا كانت متعددة ومختلفة بحسب تعدد العلاقات واختلافها، وهي تشمل الاقتصاد، والحكم، والسياسة، والتعليم، والعقوبات، والمعاملات، والبيّنات وغير ذلك. فإطلاق (النظام الاجتماعي) عليها لا وجه له، ولا ينطبق عليها. وعلاوة على ذلك فإن كلمة (الاجتماعي) صفة للنظام، فلا بد أن يكون هذا النظام موضوعاً لتنظيم المشاكل التي تنشأ عن الاجتماع، أو للعلاقات الناشئة عن الاجتماع. واجتماع الرجل بالرجل، والمرأة بالمرأة، لا يحتاج إلى نظام لأنه لا تنشأ عنه مشاكل، ولا تنشأ عنه علاقات تحتاج إلى نظام. وإنما يحتاج تنظيم المصالح بينهما إلى نظام، من حيث كونهم يعيشون في بلاد واحدة ولو لم يجتمعوا. أما اجتماع الرجل بالمرأة، والمرأة بالرجل، فإنه هو الذي تنشأ عنه مشاكل تحتاج إلى تنظيم بنظام، وتنشأ عنه علاقات تحتاج إلى التنظيم بنظام، فكان هذا الاجتماع الأولى بأن يطلق عليه النظام الاجتماعي لأنه في حقيقته ينظم الاجتماع بين الرجل والمرأة، وينظم العلاقات التي تنشأ عن هذا الاجتماع. ولذلك كان النظام الاجتماعي محصوراً في النظام الذي يُبيِّن تنظيم اجتماع المرأة بالرجل والرجل بالمرأة، وينظم علاقة المرأة بالرجل والرجل بالمرأة الناشئة عن اجتماعهما، لا عن مصالحهما في المجتمع، ويبيِّن كل ما يتفرع عن هذه العلاقة. فتجارة المرأة مع الرجل والرجل مع المرأة هي من أنظمة المجتمع، لا من النظام الاجتماعي. لأنها تدخل في النظام الاقتصادي. أما منع الخلوة بين الرجل والمرأة، أو متى تملك المرأة طلاق نفسها، أو متى يكون للمرأة حق حضانة الصغير، فإن ذلك كله من النظام الاجتماعي. وعلى ذلك يكون تعريف النظام الاجتماعي هو: النظام الذي ينظم اجتماع المرأة بالرجل، والرجل بالمرأة، وينظم العلاقة التي تنشأ بينهما عن اجتماعهما، وكل ما يتفرع عن هذه العلاقة. وقد اضطرب فهم الناس ولا سيما المسلمين للنظام الاجتماعي في الإسلام اضطراباً عظيماً، وبعدوا في هذا الفهم عن حقيقة الإسلام ببعدهم عن أفكاره وأحكامه، وكانوا بين مفرِّط كل التفريط، يرى من حق المرأة أن تخلو بالرجل كما تشاء وأن تخرج كاشفة العورة باللباس الذي تهواه. وبين مفرط كل الإفراط لا يرى من حق المرأة أن تزاول التجارة أو الزراعة، ولا أن تجتمع بالرجال مطلقاً، ويرى أن جميع بدن المرأة عورة بما في ذلك وجهها وكفاها. وكان من جراء هذا الإفراط والتفريط انهيار في الخلق، وجمود في التفكير، نتج عنهما تصدع الناحية الاجتماعية وقلق الأسرة الإسلامية وغلبة روح التذمر والتأفّف على أعضائها، وكثرة المنازعات والشقاق بين أفرادها. وصار الشعور بالحاجة إلى جمع شمل الأسرة، وضمان سعادتها يملأ نفوس جميع المسلمين. وصار البحث عن علاج لهذه المشكلة الخطـيرة يشغل بال الكثيرين، وصارت المحاولات المختلفة تظهر أنواعاً متعـددة لوضـع هذا العلاج. فوضـعت المؤلفات التي تبين العلاج الاجتماعي، وأدخلت التعديلات على قوانين المحاكم الشرعية، وأنظمة الانتخابات. وحاول الكثيرون تطبيق آرائهم على أهليهم من زوجات وأخوات وبنات. وأدخلت على أنظمة المدارس تعديلات من حيث اختلاط الذكور بالإناث. وهكذا ظهرت هذه المحاولات بهذه المظاهر وأمثالها. ولكن جميع أولئك وهـؤلاء لم يوفـقـوا إلى العلاج، ولم يهتدوا إلى النظام، ولـم يجـدوا إلى ما يحـسـونه من إصـلاح أي سـبيل. لأنه قد عمي على معظم المسلمين أمر علاقة الجنسين: المرأة والرجل. وصاروا لا يعرفون الطريقة التي يتعاون فيها هذان الجنسان، حتى يكون صلاح الأمّة من هذا التعاون، وقد جهلوا أفكار الإسلام وأحكامه التي تتعلق باجتماع الرجل بالمرأة جهلاً تاماً، مما جعلهم يتناقشون ويتجادلون فيما هو حول طريقة العلاج، ويبعدون عن دراسة حقيقتها، حتى ازداد القلق والاضطراب من جراء محاولاتهم، وصارت في المجتمع هوة يخشى منها على كيان الأمّة الإسلامية، بوصفها أمّة متميزة بخصائصها. ويخشى على البيت الإسلامي أن يفقد طابع الإسلام، وعلى الأسرة الإسلامية أن تفقد استنارة أفكار الإسلام وتبعد عن تقدير أحكامه وآرائه. أما سبب هذا الاضطراب الفكري، والانحراف في الفهم عن الصواب، فيرجع إلى الغزوة الكاسحة التي غزتنا بها الحضارة الغربية وتحكمت في تفكيرنا وذوقنا تحكماً تاماً غيرت به مفاهيمنا عن الحياة، ومقاييسنا للأشياء وقناعاتنا التي كانت متأصلة في نفوسنا مثل غيرتنا على الإسلام وتعظيمنا لمقدساتنا. فكان انتصار الحضارة الغربية علينا شاملاً جميع أنواع الحياة ومنها هذه الناحية الاجتماعية. وذلك أنه حين ظهرت الحضارة الغربية في بلاد الإسلام وظهرت أشـكالها المدنية، ورقيها المادي، بهرت أبصار الكثيرين. فصاروا يقلدون هذه الأشـكال المدنية، ويحاولون أن يأخذوا هذه الحضارة لأن تلك الأشكال المدنية الدالة على التقدم قد أنتجها أهل هذه الحضارة الداعون إليها. ولذلك صاروا يحاولون تقليد الحضارة الغربية دون أن يميزوا الفرق بين هذه الحضارة الغربية، وبين الأشكال المدنية، ودون أن يدركوا أن الحضارة تعني مجموع المفاهيم عن الحياة، وأنها طريقة معينة في العيش. وأن المدنية هي الأشكال المادية المحسوسة التي تستعمل وسائل وأدوات في الحياة، بغضّ النظر عن مفاهيم الحياة وعن طريقة العيش. وعلاوة على ذلك فإنهم لم يدركوا أن الحضارة الغربية تقوم على أساس هو النقيض من أساس الحضارة الإسلامية، وأنها تختلف عن الحضارة الإسلامية في تصوير الحياة وفي مفهوم السعادة التي يسعى الإنسان لتحقيقها. ولم يتبينوا استحالة أخذ الأمّة الإسلامية الحضارة الغربية، وأنه لا يمكن أخذ هذه الحضارة لأي جماعة من الأمّة الإسلامية في أي بلد وتبقى هذه الجماعة جزءاً من الأمّة الإسلامية، أو تبقى عليها صفة الجماعة الإسلامية. وقد أدى عدم الوعي على الاختلاف الجوهري بين حضارة الإسلام وحضارة الغرب إلى النقل والتقليد. وصار كثير من المسلمين يحاولون نقل الحضارة الغربية نقلاً دون فهم، شأن من ينسخ كتاباً يقتصر على رسم الكلمات والحروف. وصار بعضهم يحاول تقليد الحضارة الغربية بأخذ مفاهيمها ومقاييسـها دون تدبر لأسـباب ونتائج هذه المفاهيم والمقاييس. فقد رأى هؤلاء وأولئك أن المجتمع الغربي تقف فيه المرأة مع الرجل دون فرق بينهما ودون مبالاة بما يترتب على ذلك من نتائج. ورأوا أن المرأة الغربية ظهرت عليها أشـكال مدنية وظهرت هي بأشـكال مدنية فقـلدوها أو حاولوا تقليدها، دون أن يدركوا أن هذه الأشكال تتفق مع حضارة الغرب ومفاهيمه عن الحياة، وعن تصويرها لها، ولا تتفق مع حضارة الإسلام ومفاهيمه عن الحياة وتصويرها لها. ودون أن يحسبوا أي حساب لما يترتب على هذه الأشكال التي ظهرت عليها وظهرت بها من أمور. نعم رأوا ذلك فاعـتـقـدوا أنه لا بد أن تقف المرأة المسلمة بجانب الرجل في المجتمع وفي الاجتماع، بغـضّ النظـر عن جميع النتائج. ورأوا أن المرأة المسلمة لا بد أن تظهر عليها الأشكال المدنية الغربية، وأن تظهر هي أيضاً بالأشكال المدنية الغربية، بغضّ النظر عما يلابس ذلك من مشاكل وأمور. ولذلك نادوا بضمان الحرية الشخصية للمرأة المسلمة وإعطائها الحق في أن تفعل ما تشاء. وتبعاً لذلك دعوا إلى الاختلاط من غير حاجة، ودعوا إلى التبرّج وإبداء الزينة، ودعوا إلى أن تتولى المرأة الحكم، ورأوا أن ذلك هو التقدم وهو دليل النهضة. ومما زاد الطين بلة أن هؤلاء الناقلين المقلدين قد أطلقوا لأنفسهم العنان في الحرية الشخصية إطلاقاً كلياً، حتى اتصلت المرأة بالرجل اتصالا مباشراً لمجرد الاتصال ليس غير، وللتمتع بالحرية الشخصية، دون وجود دواعي الحاجة التي تقتضي هذا الاتصال، ودون أن يكون في المجتمع أي حاجة لهذا الاختلاط. فكان لهذا الاتصال بين الجنسين لمجرد الاتصال، وللتمتع بالحرية الشخصية فحسب، الأثر السيئ في هذه الفئة الناقلة المقلدة التي غامرت بالإقدام على هذه الآراء حتى حصرت الصلة بين المرأة والرجل في صلات الذكورة والأنوثة دون غيرها. وتعدى الأثر السيئ هذه الفئة إلى باقي الفئات في المجتمع، ولم ينتج ذلك الاتصال أي تعاون بين الرجل والمرأة في ميدان الحياة، بل نتج عنه التدهور الأخلاقي، وتبرّج النساء، وإبداء زينتهن لغير بعولتهن أو محارمهن. ونتج عنه عند المسلمين انحراف في التفكير، وفساد في الذوق، وزعزعة في الثقة، وهدم في المقاييس. واتخذت الناحية الاجتماعية في الغرب القدوة المحببة، واتخذ المجتمع الغربي مقياساً، دون أن يؤخذ بعين العناية أن ذلك المجتمع الغربي لا يأبه بصلات الذكورة والأنوثة، ولا يرى فيها أي معرة أو طعن أو مخالفة للسلوك الواجب الاتباع، أو أي مساس بالأخلاق أو أي خطر عليها. ودون أن يلاحظ أن المجتمع الإسلامي يخالفه في هذه النظرة مخالفة جوهرية، ويناقضه مناقضة تامة، لأن المجتمع الإسلامي يعتبر صلات الذكورة والأنوثة من الكبائر، عليها عقوبة شديدة هي الجلد أو الرجم، ويعتبر مرتكبها منبوذاً منحطاً منظوراً إليه بعين المقت والازدراء. ويرى من البديهيات لديه أن العِرض يجب أن يصان، وأنه من الأمور التي لا تقبل نقاشاً ولا جدلاً، والتي يجب أن يبذل في سبيل الدفاع عنها المال والنفس، عن رضاً واندفاع دون قبول أي عذر أو إعذار. نعم لم يلاحظ هؤلاء الناقلون والمقلدون الفرق بين المجتمعين ولا هذا البون الشاسع بين الحالتين، كما لم يلاحظوا ما تحتمه عليهم الحياة الإسلامية وتتطلبه منهم الأحكام الشرعية، واندفعوا وراء النقل والتقليد حتى لبست دعوة نهضة المرأة ثوب الإباحية، وعدم المبالاة بالاتصاف بالخلق الذميم. وهكذا مضى هؤلاء الناقلون والمقلدون في تهديم الناحية الاجتماعية عند المسلمين تحت اسم إنهاض المرأة، وبحجة العمل لإنهاض الأمّة. ولكن هؤلاء كانوا أقلية في أول الأمر، ولم ترض الأمّة عن دعوتهم في أولها. ولكنهم بعد أن طبق النظام الرأسمالي في البلاد الإسلامية، وحكمت من الكفار المستعمرين ثم من عملائهم، والسائرين في ركابهم وعلى هداهم، استطاع هؤلاء الأقلية أن يؤثروا وأن ينقلوا أكثر أهل المدن، وبعض سكان القرى، إلى السير في الطريق الذي سلكوه، وإلى النقل والتقليد للحضارة الغربية حتى مسحت السيما الإسلامية عن كثير من أحياء المدن الإسلامية، لا فرق بين استنبول والقاهرة ولا بين تونس ودمشق، ولا بين كراتشي وبغداد، ولا بين القدس وبيروت، فكلها تسير في طريق النقل والتقليد للحضارة الغربية. وكان طبيعياً أن ينهض لمكافحة هذه الأفكار جماعة من المسلمين، وكان حتمياً أن يهب لمحاربة هذه الآراء جمهرة الخاصة والعامة من أهل بلاد الإسلام، فقامت جماعة بل جماعات تدعو إلى وجوب المحافظة على المرأة المسلمة، وصيانة الفضيلة في المجتمع، ولكن دون أن يتفهموا الأنظمة الإسلامية، ومن غير أن يتبينوا الأحكام الشرعية. وقبلوا أن تكون المصلحة التي يراها العقل أساساً للبحث، ومقياساً للآراء والأشياء، ونادوا بالمحافظة على التقاليد والعادات ودعوا للتمسك بالأخلاق، دون أن يدركوا أن الأساس هو العقيدة الإسلامية، وأن المقياس هو الأحكام الشرعية، وقد وصل التعصب الأعمى لحجاب المرأة إلى أن قالوا بالتضييق على المرأة، وعدم السماح لها بأن تخرج من بيتها، أو تقوم بقضاء حاجاتها، ومباشرة شؤونها بنفسها. وجعل المتأخرون من الفقهاء للمرأة خمس عورات: عورة في الصلاة، وعورة عند الرجال المحارم، وعورة عند الرجال الأجانب، وعورة عند النساء المسلمات، وعورة عند النساء الكافرات. وتبعاً لذلك دعوا إلى الحجاب المطلق الذي يمنع المرأة من أن ترى أحداً أو يراها أحد. ونادوا بمنعها من أن تزاول أعمالها في الحياة فقالوا بمنعها من أن تمارس حق الانتخاب وبحرمانها من أن يكون لها رأي في السياسة والحكم والاقتصاد والاجتماع. وحالوا بينها وبين الحياة حتى جعلوا بعض آيات الله أنها جاءت مخاطبة الرجال دون النساء، وأولوا حديث الرسول في مصافحة النساء له في البيعة، وأحاديثه في عورة المرأة، ومعاملته للنساء في الحياة تأويلاً يتفق مع ما يريدونه هم للمرأة، لا مع ما يقتضيه حكم الشرع، فكان كل ذلك منهم مبعداً الناس عن أحكام الشرع، ومعمياً الناحية الاجتماعية عن المسلمين. ومن أجل ذلك لم تستطع آراؤهم أن تقف في وجه الأفكار الغازية، ولم تقو على صد التيار الجارف، ولم تؤثر في رفع الناحية الاجتماعية بين المسلمين أدنى تأثير. وبالرغم من وجود علماء في الأمّة لا يقلّون عن المجتهدين الأولين وأصحاب المذاهب في العلم والاطلاع وبالرغم من وجود ثروة فكرية وتشريعية بين أيدي المسلمين لا تدانيها أية ثروة لأية أمّة، وبالرغم من توفر الكتب والمؤلفات القيمة بين أيدي المسلمين في مكتباتهم العامة والخاصة، فإنّه لم يكن لذلك أي أثر في ردع الناقلين والمقلدين عن غيهم، وفي إقناع الجامدين بالرأي الإسلامي الذي استنبطه مجتهد استنباطاً صحيحاً، ما دام مخالفاً لما يريدون المرأة أن تكون عليه. وذلك لأن هؤلاء وأولئك من المقلدين والجامدين والعلماء والمتعلمين ابتعدت عنهم صفة الرجل المفكر، فلا يفهمون الواقع، أو لا يفهمون حكم الله، أو لا يتلقون أحكام الشرع تلقياً فكرياً، بتطبيقها على الواقع تطبيقاً دقيقاً يحدث الانطباق الكامل. ومن أجل ذلك ظل المجتمع في البلاد الإسلامية يتأرجح بين فكرتين: الجمود والتقليد. وظلت الناحية الاجتماعية مضطربة، حتى أصبحت المرأة المسلمة حائرة. فهي بين امرأة قلقة مضطربة تنقل الحضارة الغربية دون أن تفهمها، أو تعي على حقيقتها، ودون أن تعرف التناقض الذي بينها وبين الحضارة الإسلامية. وبين امرأة جامدة لا تنفع نفسها، ولا ينتفع المسلمون بجهودها. وذلك كله من جراء عدم تلقي الإسلام تلقياً فكرياً، وعدم فهم النظام الاجتماعي في الإسلام. ولذلك كان لا بـد من دراسـة النظـام الاجتمـاعي في الإسـلام دراسـة شاملة، ولا بد من التعمق في هذه الدراسة، حتى تدرك المشكلة بأنها اجتمـاع المرأة والرجل، والعلاقة الناشئة عن اجتماعهما، وما يتفرع عن هذه العلاقة. وأن المطلوب هو علاج هذا الاجتماع، والعلاقة الناشئة عنه، وما يتفرع عنها. وأن هذا العلاج لا يمليه العقل، وإنما يمليه الشرع، وأما العقل فإنّه يفهمه فهماً، وأنه علاج لامرأة مسلمة ورجل مسلم، يعيشـان طـرازاً معيناً من العيش هو الطراز الذي أوجبه الإسلام. وأن عليهما حتماً أن يتقيدا بالعيش على هذا الطراز وحده، كما أمر به الله في الكتاب والسنّة، بغضّ النظر عما إذا ناقض ما عليه الغرب، أو خالف ما عليه الآباء والأجداد من عادات وتقاليد. |
|
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}[013:049] وقال: {يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ }[006:082] وقال: {قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ{17} مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ{18} مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ{19}[017:080-019]. فالله خاطب الإنسان بالتكاليف، وجعل الإنسان موضع الخطاب والتكليف. وأنزل الشرائع للإنسان ويبعث الله الإنسان، ويحاسب الإنسان، ويدخل الجنة والنار الإنسان، فجعل الإنسان لا الرجل ولا المرأة محل التكاليف. وقد خلق الله الإنسان امرأة أو رجلاً في فطرة معينة تمتاز عن الحيوان، فالمرأة إنسان، والرجل إنسان، ولا يختلف أحدهما عن الآخر في الإنسانية، ولا يمتاز أحدهما عن الآخر في شيء من هذه الإنسانية. وقد هيأهما لخوض معترك الحياة بوصف الإنسانية. وجعلهما يعيشان حتماً في مجتمع واحد. وجعل بقاء النوع متوقفاً على اجتماعهما، وعلى وجودهما في كل مجتمع. فلا يجوز أن ينظر لأحدهما إلا كما ينظر للآخر، بأنه إنسان يتمتع بجميع خصائص الإنسان ومقومات حياته، وقد خلق الله في كل منهما طاقة حيوية، هي نفس الطاقة الحيوية التي خلقها في الآخر. فجعل في كل منهما الحاجات العضوية كالجوع، والعطش، وقضاء الحاجة. وجعل في كل منهما غريزة البقاء، وغريزة النوع، وغريزة التدين. وهي نفس الحاجات العضوية والغرائز الموجودة في الآخر. وجعل في كل منهما قوة التفكير وهي نفس قوة التفكير الموجودة في الآخر. فالعقل الموجود عند الرجل هو نفس العقل الموجود عند المرأة إذ خلقه الله عقلاً للإنسان، وليس عقلاً للرجل أو للمرأة. إلا أن غريزة النوع وإن كان يمكن أن يشبعها الذكر من ذكر أو حيوان، أو غير ذلك. ويمكن أن تشبعها الأنثى من أنثى أو حيوان، أو غير ذلك. ولكنها لا يمكن أن تؤدي الغاية التي من أجلها خلقت في الإنسان إلا في حالة واحدة، وهي أن يشبعها الذكر من الأنثى، وأن تشبعها الأنثى من الذكر. ولذلك كانت صلة الرجل بالمرأة، وصلة المرأة بالرجل من الناحية الجنسية الغريزية صلة طبيعية لا غرابة فيها. بل هي الصلة الأصلية التي بها وحدها يتحقق الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة وهو بقاء النوع. فإذا وقعت بينهما هذه الصلة على شكل الاجتماع الجنسي كان ذلك بديهياً وطبيعياً ليس فيه شيء غريب. بل كان ذلك أمراً حتمياً لبقاء النوع الإنساني. إلا أن إطلاق هذه الغريزة مضر بالإنسان، وبحياته الاجتماعية. والغرض من وجودها إنما هو النسل لبقاء النوع. ولذلك كان لا بد من جعل نظرة الإنسان لهذه الغريزة منصبة على الغرض الذي من أجله وجدت في الإنسان، ألا وهو بقاء النوع، لا فرق في ذلك بين الرجل والمرأة. وأما اللذة والتمتع التي تحصل بالإشباع فهي أمر طبيعي وحتمي، سواء نظر إليها الإنسان، أم لم ينظر. ولذلك لا يصح أن يقال: يجب أن تبعد نظرة اللذة والتمتع عن غريزة النوع، لأن هذا لا يأتي من النظرة، بل هو طبيعي وحتمي، ولا يتأتى فيه الإبعاد، لأن هذا الإبعاد من المستحيلات، ولكن النظرة تأتي من مفهوم الإنسان عن هذا الإشباع، وعن الغاية من وجودها. ومن هنا كان لا بد من إيجاد مفهوم معين عند الإنسان عن غريزة النوع، وعن الغرض من وجودها في الإنسان، يكوّن عنده نظرة خاصة إلى ما خلقه الله في الإنسان من غريزة النوع، بحيث يحصرها في صلة الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل. ويكوّن عنده نظرة خاصة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات الذكورة والأنوثة، أو بعبارة أخرى الصلات الجنسية، بحيث تنصب على القصد الذي من أجله وجدت وهو بقاء النوع. وبهذه النظرة يتحقق إشباع الغريزة، ويتحقق الغرض الذي من أجله وجدت، وتتحقق الطمأنينة للجماعة التي تأخذ هذا المفهوم، وتوجد لديها هذه النظرة الخاصة. وكان لا بد أيضاً من تغيير نظرة الجماعة – أي جماعة – من بني الإنسان إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات الذكورة والأنوثة أو بعبارة أخرى الصلات الجنسية، من نظرة مسلطة على اللذة والتمتع، إلى جعل هذه اللذة والتمتع أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع. وجعل النظرة منصبة على الغرض الذي من أجله كانت هذه الغريزة. وهذه النظرة تبقي غريزة النوع وتصرفها في وجهها الصحيح الذي خلقت له، ويفسح المجال للإنسان ليقوم بجميع الأعمال، ويتفرغ لجميع الأمور التي تسعده. ولهذا كان لا بد للإنسان من مفهوم عن إشباع غريزة النوع، وعن الغاية من وجودها، وكان لا بد أن يكون للجماعة الإنسانية نظام يمحو من النفوس تسلط فكرة الاجتماع الجنسي واعتبارها وحدها المتغلبة على كل اعتبار، ويبقي صلات التعاون بين الرجل والمرأة. لأنه لا صلاح للجماعة إلا بتعاونهما، باعتبار أنهما أخوان متضامنان تضامن مودّة ورحمة. ولذلك لا بد من التأكيد على تغيير نظرة الجماعة إلى ما بين الرجل والمرأة من صلات تغييراً تاماً يزيل تسلط مفاهيم الاجتماع الجنسي، ويجعلها أمراً طبيعياً وحتمياً للإشباع، ويزيل حصر هذه الصلة باللذة والتمتع، ويجعلها نظرة تستهدف مصلحة الجماعة، لا نظرة الذكورة والأنوثة. ويسيطر عليها تقوى الله لا حب التمتع والشهوات. نظرة لا تنكر على الإنسان استمتاعه باللذة الجنسية، ولكنها تجعله استمتاعاً مشروعاً، محققاً بقاء النوع، متفقاً مع المثل الأعلى للمسلم، وهو رضوان الله تعالى. وقد جاءت آيات القرآن منصبَّة على الناحية الزوجية، أي على الغرض الذي كانت من أجله غريزة النوع. فجاءت الآيات مبينة أن الخلق للغريزة من أصله إنما كان للزوجية أي لبقاء النوع، أي أن الغريزة إنما خلقها الله للزوجية. وقد بينت ذلك بأساليب مختلفة، ومعانٍ متعددة، لتجعل نظرة الجماعة إلى صلات المرأة بالرجل نظرة مسلطة على الزوجية، لا على الاجتماع الجنسي، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء}[001:004] وقال: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ }[189:007] وقــال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً}[038:013 وقال: {وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً }[072:016] وقال: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً }[021:030] وقال: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً}[011:042] وقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنثَى{45} مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى{46}[045:053-046] وقال: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً }[008:078]. فالله سـلـط الخـلـق على الذكـر والأنـثـى مـن نـاحـيـة الـزوجـيـة، وكـرر ذلك حتى تظـل النظـرة إلى الصـلات بين الذكـر والأنـثى منصـبة على الزوجية أي على النسل لبقاء النوع.
إذا ثارت الغريزة تطلبت إشباعاً، وإذا لم تثر لا تتطلب الإشباع. وإذا تطلبت الغريزة الإشباع دفعت الإنسان لتحقيقه لها، وإذا لم يحققه ينـزعج ما دامت ثائرة. فإذا هدأت ذهب الانزعاج. ولا يترتب على عدم الإشباع الموت، ولا أي أذى جسماني، أو نفسي، أو عقلي. وإنما يقتصر الأذى على الألم والانزعاج، ومن هنا كان إشباع الغريزة ليس إشباعاً حتمياً كالحاجة العضوية وإنما هو إشباع لجلب الطمأنينة والارتياح. والذي يثير الغريزة أمران: أحدهما الواقع المادي، والثاني الفكر ومنه تداعي المعاني. وإذا لم يوجد واحد من هذين العاملين لا تثور الغريزة. فهي لا تثور من دافع داخلي كالحاجة العضوية، بل من دافع خارجي، هو الواقع المادي، والفكر. وهذا كله ينطبق على جميع الغرائز. ينطبق على غريزة البقاء، وغريزة التدين، وغريزة النوع، سواء بسواء، دون أي تمييز بينها. ولما كانت غريـزة النوع كباقي الغـرائز، إذا ثارت تتطلب إشباعاً، ولا تثور إلا بالواقـع المادي، أو الفكر. لذلك كان جعل غريزة النوع تتطلب إشباعاً أمراً يمكن للإنسان أن يتصرف في توجيه هذا الإشباع، بل يمكن أن يتصـرف في إيجـاده، أو الحيلولة بينه وبين أن يتحرك إلى حيث يتجـه نحـو بقاء النوع. ولذلك كانت رؤية النساء، أو أي واقع يتصل بغـريزة النوع يثير الغـريزة، ويجـعلها تتطلب الإشباع. وكانت قراءة القصص الجنسية وسماع الأفكار الجنسية يثير غريزة النوع. وكان الابتعاد عن النساء، وعن كل ما يتصل بغريزة النوع، والابتعاد عن الأفكار الجنسية، يحول بين غريزة النوع وبين إثارتها. لأنه لا يمكن أن تثور غريزة النوع إلا إذا أُثيرت، بواقع مادي أو بفكر جنسي. فإذا كانت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على صلة الذكورة والأنوثة، أي على الصلة الجنسية كما هي الحال في المجتمع الغربي، كان إيجاد الواقع المادي، والفكر الجنسي المثيرين عند الرجل والمرأة أمراً ضرورياً لإثارة الغريزة حتى تتطلب إشباعاً، وحتى يجري إشباعها لتتحقق هذه الصلة، وتوجد الراحة بواسطة الإشباع. وإذا كانت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة، وهو بقاء النوع، كان إبعاد الواقع المادي والفكر الجنسي عن الرجل والمرأة أمراً ضرورياً في الحياة العامة، حتى لا تثور الغريزة، لئلا تتطلب إشباعاً لا يتاح لها، فينالها الألم والانزعاج. وكان حصر هذا الواقع المادي المثير في حالة الزوجية أمراً ضرورياً لبقاء النوع، ولجلب الطمأنينة والراحة، في تحقيق الإشباع عند تطلبه. ومن هنا يتبين إلى أي حد تؤثر نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة في توجيه الحياة العامة بين الجماعة وفي المجتمع. وقد كانت نظرة الغربيين الذين يعتنقون المبدأ الرأسمالي والشرقيين الذين يعتنقون الشيوعية إلى الصلات بين الرجل والمرأة نظرة جنسية لا نظرة بقاء النوع. ولذلك دأبوا على تعمد إيجاد الواقع المادي والفكر الجنسي أمام الرجل والمرأة لإثارة غريزة النوع من أجل إشباعها. ورأوا أن عدم إشباعها يسبب الكبت الذي يؤدي إلى أضرار جسمية، ونفسية، وعقلية على حد زعمهم. ومن هنا نجد الجماعة الغربية والشيوعية والمجـتمع الغربي والشيوعي تكثر فيهما الأفكار الجنسية في القصص، والشعر، والمؤلفات، وغير ذلك. ويكثر فيه الاختلاط بين الرجل والمرأة لغير حاجة في البيوت، والمتنـزهات، والطرقات، وفي السباحة، وما شاكل ذلك. لأنهم يعتبرون هذا أمراً ضرورياً ويتعمدون إيجاده، وهو جزء من تنظيم حياتهم، وجزء من طراز عيشهم. أما نظرة المسلمين الذين يعتنقون الإسلام مؤمنين بعقيدته وأحكامه، وبعبارة أخرى نظرة الإسلام إلى الصلات بين الرجل والمرأة، فإنها نظرة لبقاء النوع لا نظرة للناحية الجنسية، وتعتبر الناحية الجنسية أمراً حتمياً في الإشباع، ولكن ليست هي التي توجه الإشباع. ومن أجل ذلك يعتبر الإسلام وجود الأفكار الجنسية بين الجماعة أمراً يؤدي إلى الضرر، ويعتبر وجود الواقع المادي الذي يثير النوع أمراً يؤدي إلى الفساد. ولذلك جاء ينهى عن الخلوة بين الرجل والمرأة، وجاء ينهى عن التبرج والزينة للأجانب، وينهى كلاً من الرجل والمرأة عن النظر للآخر نظرة جنسية، وجاء يحدد التعاون بين الرجل والمرأة في الحياة العامة، وجاء يحصر الصلة الجنسية بين الرجل والمرأة في حالتين اثنتين ليس غير، هما: الزواج، وملك اليمين. فالإسلام يعمل على الحيلولة بين غريزة النوع وبين ما يثيرها في الحياة العامة، وعلى حصر صلة الجنس في أمور معينة. بينما الرأسمالية والشيوعية تعملان على إيجاد ما يثير غريزة النوع من أجل تحقيق إشباعها وتطلقها في كل شيء. وفي حين أن نظرة الإسلام للصلات بين الرجل والمرأة إنما هي لبقاء النوع، فإن نظرة الرأسمالية والشيوعية للصلات بين الرجل والمرأة نظرة ذكورة وأنوثة، أي نظرة جنسية. وشتان بين النظرتين وفرق شاسع بين ما يعمله كل من الإسلام وهذين المبدأين. وبهذا يظهر ما في الإسلام من نظرة الطهر والفضيلة والعفاف ونظرة هناء الإنسان وبقاء نوعه. وأما ما يزعمه الغربيون والشيوعيون من أن كبت غريزة النوع في الرجل والمرأة يسبب للإنسان أمراضاً جسمية ونفسية وعقلية فإن ذلك غير صحيح وهو وَهْمٌ مخالف للحقيقة. وذلك لأن هنالك فرقاً بين الغريزة والحاجة العضوية من حيث حتمية الإشباع، فإن الحاجة العضوية كالأكل والشرب وقضاء الحاجة يتحتم إشباعها، وإذا لم تشبع ينتج عنها أضرار ربما تصل إلى الموت. وأما الغريزة كالبقاء والتدين والنوع فإنه لا يتحتم إشباعها. وإذا لم تشبع لا ينتج عن عدم إشباعها أي ضرر جسمي أو عقلي أو نفسي وإنما يحصل من ذلك انزعاج وألم ليس غير، بدليل أنه قد يمضي الشخص عمره كله دون أن يشبع بعض الغرائز، ومع ذلك لا يحصل له شيء من الضرر، وبدليل أن ما يزعمونه من أمراض جسمية وعقلية ونفسية لا يحصل للإنسان بوصفه إنساناً إذا لم يشبع غريزة النوع وإنما يحصل لبعض الأفراد، وهذا يدل على أنه لا يحصل طبيعياً حسب الفطرة من عدم الإشباع، وإنما يحصل لأعراض أخرى غير الكبت. إذ لو حصل من كبت الغريزة لحصل للإنسان في كل حالة يقع فيها الكبت حصولاً طبيعياً حسب الفطرة وهو لم يقع مطلقاً، وهم يعترفون بأنه لم يقع للإنسان فطرياً من جراء الكبت فيكون الذي قد حصل لهؤلاء الأفراد آتياً من عارض آخر غير الكبت. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الحاجة العضوية تتطلب الإشباع طبيعياً من الداخل دون حاجة لمؤثر خارجي، وإن كان المؤثر الخارجي يثيرها في حالة وجـود الجوعة، بخلاف الغريزة فإنها لا تتطلب الإشباع طبيعياً من الداخل من غير مؤثر خارجي، بل لا تثور داخلياً إلا بمؤثر خارجي من واقع مادي مثير أو فكر جنسي مثير، ومنه تداعي المعاني المثير. فإذا لم يوجد هذا المؤثر الخارجي لا تحصل الإثارة. وهذا شأن جميع الغرائز لا فرق بين غريزة البقـاء، أو غريزة التـديـن، أو غريزة النوع بجميع مظاهرها كلها. فإنه إذا وجد أمام الشخص ما يثير أي غريزة يتهيج، وتتطلب الغريزة الإشباع، فإذا أبعد عنه ما يحرك الغريزة، أو أشغل بما يطغى عليها بما هو أهم منها ذهب تطلب الإشباع، وهدأت نفسه، بخلاف الحاجة العضوية، فإنه لا يذهب تطلب إشباعها متى ثارت مطلقاً، بل يستمر حتى تشبع. وبهذا يظهر بوضوح أن عدم إشباع غريزة النوع لا يحصل منه أي مرض جسمي أو عقلي أو نفسي مطلقاً لأنها غريزة وليست حاجة عضوية. وكل ما يوجد هو أن الشخص إذا وجد أمامه ما يثير غريزة النوع من واقع مادي، أو فكر جنسي مثيرين فإنه قد يتهيج فيتطلب الإشباع، فإذا لم يشبع يصيبه من هذا التهيج انزعاج ليس أكثر، ومن تكرار هذا الانزعاج يتألم. فإذا أبعد عنه ما يحرك غريزة النوع، أو أشغل بما يطغى على هذه الغريزة بما هو أهم منها ذهـب الانزعاج. وعليه فإن كبت غريزة النوع إذا ثارت يحصل منه ألم وانزعاج ليس أكثر، وإذا لم تثر بما يثيرها لا يحصل منها شيء حتى ولا ألم وانزعاج، فيكون علاجها هو عدم إثارتها بالحيلولة بينها وبين ما يثيرها إذا لم يتأتَ لها الإشباع. وبهذا يتبين خطأ وجهة النظر الغربية والشيوعية التي جعلت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على صلة الذكورة والأنوثة، وبالتالي خطأ علاج هذه النظرة بإثارة الغريزة في الرجل والمرأة بإيجاد ما يثيرها من الوسائل كالاختلاط والرقص والألعاب والقصص وما شابه ذلك. كما يتبين صدق وجهة النظر الإسلامية التي جعلت نظرة الجماعة إلى الصلات بين الرجل والمرأة مسلطة على الغرض الذي من أجله وجدت هذه الغريزة وهو بقاء النوع، ويظهر بالتالي صحة علاج هذه النظرة بإبعاد ما يثيرها من الواقع المادي والفكر الجنسي المثيرين، إذا لم يتأتَ لها الإشباع المشروع بالزواج وملك اليمين. فيكون الإسلام وحده هو الذي يعالج ما تحدثه غريزة النوع من الفساد في المجتمع والناس علاجاً ناجعاً، يجعل أثرها محدثاً الصلاح والسمو في المجتمع والناس.
لا يعني كون المرأة تثير غريزة النوع عند الرجل، وكون الرجل يثير غريزة النوع عند المرأة، أن هذه الإثارة أمر حتمي الوجود كلما وجد الرجل مع المرأة أو المرأة مع الرجل. بل يعني أن الأصـل في كل منهما أن يثير وجـوده مع الآخـر هـذه الغريزة، فتوجـد عند وجود هذه الإثارة العلاقة الجنسية بينهما. ولكنهما قد يوجدان معاً ولا تثار هذه الغريزة. كما لو وجدا للتبادل التجاري، أو للقيام بعملية جراحية لمريض، أو لحضور دروس العلم، أو غـير ذلك. ولكن في جمـيع هذه الحـالات وفي غـيرها توجد قابلية إثارة الغريزة الجنسية بينهما. إلا أنه ليس معنى وجود القابلية وجود الإثارة، بل تحصل الإثارة من تحويل النظرَة من قبل كل منهما إلى الآخر من نظرة لبقاء النوع إلى نظرة الذكورة والأنوثة. ولهذا لا يجوز أن يجعل كون المرأة تثير غريزة النوع عند الرجل، وكون الرجل يثير غريزة النوع عند المرأة، سبباً لفصل المرأة عن الرجل فصلاً تاماً، أي لا يصح أن يجعل وجود قابلية الإثارة لغريزة النوع عند الرجل والمرأة حائلاً دون اجتماع الرجال والنساء في الحياة العامة، ودون التعاون بينهما. بل لا بد من اجتماع الرجل بالمرأة في الحياة العامة، ولا بـد من تعاونهما. لأن هذا التعاون ضروري للمجتمع، وللحياة العامة. إلا أن هذا التعاون لا يمكن إلا بنظام ينظم العلاقة الجنسية بينهما، وينظم الصلات بين المرأة والرجل. ولا بد من أن ينبثق هذا النظام عن النظرة إلى هذه الصلات بين الرجل والمرأة بأنها نظرة لبقاء النوع. وبهذا النظام يمكن اجتماع المرأة والرجل في الحياة العامة، والتعاون بينهما دون أي محذور. والنظام الوحيد الذي يضمن هناء الحياة، وينظم صلات المرأة بالرجل تنظيماً طبيعياً تكون الناحية الروحية أساسه، والأحكام الشرعية مقياسه، بما في ذلك الأحكام التي تحقق القيمة الخلقية، هذا النظام هو النظام الاجتماعي في الإسلام. فهو ينظر إلى الإنسان رجلاً كان أو امرأة بأنه إنسان، فيه الغرائز، والمشاعر، والميول، وفيه العقل. ويبيح لهذا الإنسان التمتع بلذائذ الحياة، ولا ينكر عليه الأخذ منها بالنصيب الأكبر. ولكن على وجه يحفظ الجماعة والمجتمع، ويؤدي إلى تمكين الإنسان من السير قدماً لتحقيق هناء الإنسان. والنظام الاجتماعي في الإسلام وحده هو النظام الاجتماعي الصحيح، على فرض أن هناك نظاماً اجتماعياً غيره. لأن هذا النظام يأخذ غريزة النوع على أنها لبقاء النوع الإنساني. وينظم صلات الذكورة والأنوثة بين الرجل والمرأة تنظيماً دقيقاً، بحيث يجعل هذه الغريزة محصورة السير في طريقها الطبيعي، موصلة للغاية التي من أجلها خلقها الله في الإنسان. وينظم في نفس الوقت الصلات بين الرجل والمرأة، ويجعل تنظيم صلة الذكورة والأنوثة جزءاً من تنظيم الصلات بينهما، بحيث يضمن التعاون بين الرجل والمرأة من اجتماعهما معاً، تعاوناً منتجاً لخير الجماعة والمجتمع والفرد، ويضمن في نفس الوقت تحقيق القيمة الخلقية، وجعل المثل الأعلى، رضوان الله، هو المسير لها حتى تكون الطهارة والتقوى هي التي تقرر طريقة الصلات بين هذين الجنسين في الحياة، وتجعل أساليب الحياة ووسائلها لا تتناقض مع هذه الطريقة بحال من الأحوال. فقد حصر الإسلام صلة الجنس، أي صلة الذكورة والأنوثة بين الرجل والمرأة بالزواج، وملك اليمين. وجعل كل صلة تخرج عن ذلك جريمة تستوجب أقصى أنواع العقوبات. ثم أباح باقي الصلات التي هي من مظاهر غريزة النوع ما عدا الاجتماع الجنسي، كالأبوة والأمومة والبنوة والأخوة والعمومة والخؤولة، وجعله رحماً محرماً. وأباح للمرأة ما أباحه للرجل من مزاولة الأعمال التجارية والزراعية، والصناعية وغيرها، ومن حضور دروس العلم، والصلوات وحمل الدعوة، وغير ذلك. وقد جعل الإسلام التعاون بين المرأة والرجل في شؤون الحياة، وفي علاقات الناس بعضهم مع بعض أمراً ثابتاً في جميع المعاملات. فالكل عباد الله، والكل متضامن للخير ولتقوى الله وعبادته. وقد جاءت الآيات مخاطبة الإنسان في الدعوة إلى الإسلام بغضّ النظر عن كونه رجلاً أو امرأة، قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً}[158:007] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}[001:004] وجاءت الآيات مخاطبة المؤمنين في العمل بأحكام الإسلام قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}[024:008]، وجـاءت الآيـات عـامـة شاملة للرجل والمرأة قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}[183:001] وقال: {َأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ}[043:001] وقال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ}[103:009] وقال: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء}[060:009] وقال: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}[034:009] وقال: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ}[029:009] وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ}[023:009] إلى غير ذلك من الآيات فإنها كلها عامة للمرأة والرجل، والقيام بها يمكن أن يحصل فيه اجتماع بين الرجل والمرأة، حتى ما كان القيام به فردياً كالصلاة. مما يدل على إباحة الإسلام للاجتماع بين الرجل والمرأة للقيام بما كلفهم به من أحكام، وما عليهم أن يقوموا به من أعمال. إلا أن الإسلام احتاط للأمر، فمنع كل ما يؤدي إلى الصلة الجنسية غير المشروعة، ويخرج أياً من المرأة والرجل عن النظام الخاص للعلاقة الجنسية. وشدد في هذا المنع، فجعل العفة أمراً واجباً، وجعل استخدام كل طريقـة أو أسلوب أو وسيلة تؤدي إلى صيانة الفضيلة والخلق أمراً واجباً، لأن ما لا يتم الواجـب إلا به فهو واجب. وحدد لذلك أحكاماً شرعية معينة وهذه الأحكام كثيرة منها: 1 – أنـه أمـر كـلاً مـن الـرجـل والمـرأة بـغـضّ البـصـر قـال تعـالى: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ{30}وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ}[030:024-031]. 2 – أمر النساء أن يرتدين اللباس الكامل المحتشم الذي يستر كل ما هو موضع للزينة، إلا ما ظهر منها. وأن يدنين عليهن ثيابهن فيتسترن بها. قال تعالى: {وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ}[031:024] وقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ}[059:033] أي لا يبدين محل زينتهن إلا ما ظهر منها، إلا الوجه والكفين. والخمار غطاء الرأس، والجيب طوق القميص، أي فتحة القميص من العنق إلى الصدر، أي ليجعلن خمرهن على أعناقهن وصدورهن. والإدناء من الجلباب هو إرخاء الثوب إلى أسفل. 3 – منع المرأة من أن تسافر من بلد إلى آخر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها محرم. قال عليه الصلاة والسلام: «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تسافر مسيرة يوم وليلة إلا ومعها ذو محرم لها» أخرجه مسلم. 4 – منع الخـلـوة بين الرجل والمرأة إلا ومعها محـرم. قال عليه الصلاة والسلام: «لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا مع ذي محرم» أخرجه البخاري, وعن ابن عباس أنه سمع النبيصلى الله عليه وسلم يخطب يقول: «لا يخلون رجل بامرأة إلا ومعها محرم، ولا تسافر المرأة إلا مع ذي محرم فقام رجل فقال: يا رسول الله إن امرأتي خرجت حاجّة وإني اكتتبت في غزوة كذا وكذا قال: فانطلق فحج مع امرأتك» أخرجه مسلم. 5 – منع المرأة أن تخرج من بيتها إلا بإذن زوجها، لأن له حقوقاً عليها، فلا يصح أن تخرج من منـزله إلا بإذنه، وإذا خرجت بغير إذنه كانت عاصية، واعتبرت ناشزة لا تستحق النفقة، فقد روى ابن بطة في أحكام النساء عن أنس أن رجلاً سافر ومنع زوجته من الخروج. فمرض أبوها، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادة أبيها، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اتقي الله ولا تخالفي زوجك» فمات أبوها فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حضور جنازته فقال لها: «اتقي الله ولا تخالفي زوجك» فأوحى الله إلى النبي صلى الله عليه وسلم : «إني قد غفرت لها بطاعة زوجها». 6 – حرص الإسلام على أن يجعل جماعة النساء منفصلة عن جماعة الرجال في الحياة الخاصة، وفي المسجد والمدرسة وما شاكل ذلك، فجعل المرأة تعيش في وسط النساء، والرجل يعيش في وسط الرجال، وجعل صفوف النساء في الصلاة متأخرة عن صفوف الرجال، كما حث الإسلام النساء على عدم مزاحمة الرجال في الطرق والأسواق. وجعل عيش النساء مع النساء أو مع المحارم، فتقوم المرأة بأعمالها العامة كالبيع والشراء ونحوه على أن تذهب بعد العمل لتعيش مع النساء أو مع محارمها. 7 – حرص على أن تكون صلة التعاون بين الرجل والمرأة صلة عامة في المعاملات، لا صلة خاصة كتبادل الزيارات بين الرجال الأجانب والنساء، والخروج للنـزهة سوية. لأن المقصود من هذا الـتـعـاون هو مبـاشـرة المرأة لاستيفاء ما لها من حقوق ومصالح، وأداء ما عليها من واجبات. وبهذه الأحكام احتاط الإسلام في اجتماع المرأة بالرجل من أن ينصرف هذا الاجتماع إلى الاجتماع الجنسي حتى يظل اجتماع تعاون لقضاء المصالح، والقيام بالأعمال. فعـالج بذلك العلاقات التي تنشأ عن مصالح الأفراد رجالاً كانوا أو نساء حين اجتماع الرجال بالنساء، وعالج العلاقات الناشئة عن اجتماع الرجال بالنساء، كالنفقة، والبنوة والزواج، وغير ذلك معـالجة تحصـر الاجتماع بالعلاقة التي وجد من أجلها، وتبعده عن علاقة الاجتماع الجنسي.
طبيعة حياة الإنسان تجعل له حياة عامة يعيش فيها بين أفراد المجتمع، في القبيلة، أو القرية، أو المدينة، وتجعل له حياة خاصة يعيش فيها في بيته وبين أفراد أسرته. وقد جاء الإسلام لهذه الحياة الخاصة بأحكام معينة، عالج بها المشاكل التي تحصل للإنسان فيها رجلاً كان أو امرأة. ومن أبرز هذه الأحكام أنه جعل حياته الخاصة في بيته تحت تصرفه وحده، ومنع الناس من أن يدخلوا بيته إلا بإذنه. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }[027:024 فنهى الله تعالى الناس عن دخول البيوت إلا بإذن أهلها، واعتبر عدم الإذن استيحاشاً، والإذن استئناساً فقال: {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} وهي كناية عن طلب الإذن لأنه لا يحصل الاستئناس إلا به. أي حتى تستأذنوا أهلها. وأخرج الطبراني أن النبي عليه السلام قال: «من أدخل عينه في بيت من غير إذن أهله فقد دمره». وأخرج أبو داود: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: أأستأذن على أمي؟ قال: نعم، قال: إنه ليس لها خادم غيري، أأستأذن عليها كلما دخلت؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال الرجل: لا، قال: فاستأذن» فمنع دخول أي إنسان بيتاً غير بيته إلا بإذن أهل البيت. ولا فرق في ذلك بين أن يكون المدخول عليه مسلماً أو غير مسلم. لأن الخطاب وإن كان للمسلمين فإنما هو بالنسبة للمستأذن. أما البيوت فقد جاءت مطلقة من غير قيد، وعامة من غير تخصيص فشمل ذلك كل بيت. وهذا صريح في تقرير حرمة البيوت، وفي تخصيص الحياة الخاصة بأحكام خاصة، منها طلب الإذن عند إرادة دخول أي بيت. فإن لم يجد المستأذن أحداً في البيت فلا يدخل حتى يؤذن له، وإن قال له أحد ارجع فيجب أن يرجع، ولا يجوز أن يدخل. قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَداً فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِن قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ}[028:024] أي لا يجوز لكم أن تلحوا في طلب الإذن، ولا تلحوا في تسهيل الحجاب، ولا تقفوا على الأبواب منتظرين. وهذا كله في البيوت المسكونة. أما البيوت غير المسكونة فإنه ينظر فيها، فإن كان للذي يريد أن يدخل متاع فيها فإنه يجوز له أن يدخلها دون استئذان. وهي مستثناة من البيوت التي يجب الاستئذان على داخلها. قال الله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ }[029:024] ومفهوم المخالفة أنه إن لم يكن لكم فيها متاع فلا تدخلوها، فيكون الاستثناء خاصاً بالبيوت غير المسكونة التي فيها متاع للذي يريد الدخول. وبأحكام الاستئذان هذه تحفظ الحياة الخاصة من إزعاج الطارقين، ويطمئن مَن فيها مِن كل مَن هو خارجها. هذا بالنسبة لغير من يملكونهم من الرقيق، ولغير الأطفال. أما من يملكونهم من الرقيق والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم فإن لهم أن يدخلوا البيوت من غير استئذان، إلا في ثلاث حالات، هي: قبل صلاة الفجر، وعند الظهر، وبعد صلاة العشاء. فإنه يجب عليهم أن يستأذنوا في هذه الحالات الثلاث، لأنها حالات عورة، فيها يغيّر المرء ثيابه للنوم، أو للاستيقاظ من النوم، وهي أوقات عورات. أما قبيل صلاة الفجر فإنه وقت الاستيقاظ من النوم، وفيه يغيّر ثياب النوم بثياب غيرها. وعند الظهيرة هو وقت القيلولة والنوم، يجري فيه كذلك تغيير الثياب، وبعد صلاة العشاء هو وقت النوم وفيه يغير المرء ثياب اليقظة، ويلبس ثياب النوم. فهذه الأوقات عورات يجب أن يستأذن فيها من يملكونهم من الرقيق والأطفال الذين لم يبلغوا الحلم، أما في غير هذه الأوقات فإن لهذين الصنفين أن يدخلوا البيوت في أي وقت يشاؤون دون استئذان، حتى إذا بلغ الأطفال الحلم سقط حقهم في الدخول، وصار عليهم أن يستأذنوا كسائر الناس. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُم بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ {58}وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[058:024-059]. فهذه أحكام حفظ الحياة الخاصة في البيت من الطارقين الذين يريدون أن يدخلوا، لا فرق في ذلك بين أجنبي ومحرم قريب أم نسيب. أما أحكام هذه الحياة الخاصة في الداخل فإن المرأة تعيش فيها مع النساء، أو مع محارمها، لأنهم هم الذين يجوز لها أن تبدي لهم محل زينتها من أعضائها، مما لا يستغنى عن ظهوره في الحياة الخاصة في البيت. وما عدا النساء ومحارمها لا يجوز أن تعيش معهم لأنه لا يجوز لها أن تبدي لهم محل زينتها من أعضائها، مما يبدو من المرأة أثناء قيام المرأة بأعمالها في البيت غير الوجه والكفين. فالحياة الخاصة مقصورة على النساء والمحارم، ولا فرق في النساء بين المسلمات وغير المسلمات فكلهن نساء. فكون المرأة منهية عن إبداء أعضائها التي تتزين بها للأجانب، وغير منهية عن إبدائها للمحارم، دليل واضح على اقتصار الحياة الخاصة على المحارم وحدهم قال تعالى: {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاء}[031:024]. وقد ألحق بالمحارم الأرقـاء الذين يملكـونهم، وكذلك الذين لا توجـد عندهم شـهـوة النسـاء من الشـيوخ الطاعنين بالسن أو البله، أو الخصيان، أو المجبوبين، أو من شـاكل ذلك ممن لا توجـد لديهم الإربة، وهي الحاجة إلى النساء. فإن هؤلاء يجـوز أن يكـونوا في الحياة الخاصة وما عداهم من الرجال الأجانب – ولو كانوا من الأقـارب غير المحـارم – فإنه لا يجوز لهم أن يكونوا في الحياة الخاصة مطلقاً، لأنه لا يجوز للمرأة أن تبدي لهم محل زينتها من أعضائها التي تظهر عادة في بيتها. فاجتماع الرجال الأجانب بالنساء في الحياة الخاصة حرام مطلقاً، إلا في الحالات التي استثناها الشارع كالطعام وصلة الأرحام، على أن يكون مع المرأة ذو محرم لها، وأن تكون ساترة لجميع عورتها.
إن الحياة الإسلامية، وهي عيش المسلمين في أحوالهم عامة ثابت بالنصوص الشرعية في القرآن والسنة أن الرجال ينفصلون فيها عن النساء، سواء في الحياة الخاصة في البيوت وما شاكلها، أو في الحياة العامة في الأسواق والطرقات وما شابهها. وهذا فوق كونه ثابتاً من مجموع الأحكام الشرعية المتعلقة بالرجل، والمتعلقة بالمرأة، والمتعلقة بهما، وثابتاً من مخاطبة القرآن للنساء بوصفهن نساء، وللرجال بوصفهم رجالاً من مثل قوله تعالى: {وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً}[035:033] وغير ذلك فإنه مروي بشكل عملي، وبشكل جماعي من أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وفي جميع عصور الإسلام. أما مجموع الأدلة فإنه بتتبعها نجد أن الشارع أوجب على المرأة لبس الجلباب إذا أرادت الخروج إلى خارج البيت، وجعل المرأة كلها عورة ما عدا وجهها وكفيها، وحرّم عليها إبداء زينتها لغير محارمها، وحرّم على الرجل النظر إلى عورتها، ولو إلى شعرها، ومنع المرأة من السفر، ولو إلى الحج دون محرم، ونجد أن الشارع حرّم الدخول إلى البيوت إلا بإذن، ونجد أنه لم يفرض على المرأة صلاة جماعة، ولا صلاة جمعة، ولا جهاداً وفرضها على الرجل، ونجد أنه أوجب السعي والكسب على الرجل ولم يوجبه على المرأة. كل ذلك كان إلى جانب أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد فصل الرجال عن النساء، وجعل صفوف النساء في المسجد وفي الصلاة خلف صفوف الرجال، أخرج البخاري عن أنس بن مالك أن جدته مليكة دعت رسول الله صلى الله عليه وسلم لطعام صنعته فأكل منه ثم قال: «قوموا فلأصل لكم… إلى أن قال: فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصففت أنا واليتيم وراءه والعجوز من ورائنا». وعند الخروج من المسجد أمر بخروج النساء أولاً ثم الرجال حتى يفصل النساء عن الرجال، أخرج البخاري عن هند بنت الحارث عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرتها «أن النساء في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كنّ إذا سلّمن من المكتوبة قمن، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن صلى من الرجال ما شاء الله، فإذا قام رسول الله صلى الله عليه وسلم قام الرجال» وفي دروسه عليه السلام في المسجد قالت النساء له: يا رسول الله، غلبنا عليك الرجال فاجعل لنا يوماً. أخرجه البخاري من طريق أبي سعيد الخدري. فهذه الأحكام والحالات وما شابهها تدل في مجموعها على سير الحياة الإسلامية، وأنها حياة ينفصل فيها الرجال عن النساء، وأن هذا الفصل فيها بين الرجال والنساء جاء عاماً، لا فرق في ذلك بين الحياة الخاصة، والحياة العامة، فإن الحياة الإسلامية في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم قد فصل فيها الرجال عن النساء مطلقاً، في الحياة الخاصة، وفي الحياة العامة على السواء. ولا يستثنى من ذلك إلا ما جاء الشارع بجواز الاجتماع فيه سواء في الحياة الخاصة، أو في الحياة العامة. والشارع أجاز للمرأة البيع والشراء والأخذ والعطاء، وأوجب عليها الحج، وأجاز لها حضور صلاة الجماعة، وأن تجاهد الكفار، وأن تملك وأن تنمي أموالها، إلى غير ذلك مما أجازه لها. فهذه الأفعال التي أجازها الشارع للمرأة، أو أوجبها عليها ينظر فيها فإن كان القيام بها يقتضي الاجتماع بالرجل جاز حينئذ الاجتماع في حدود أحكام الشرع، وفي حدود العمل الذي أجازه لها، وذلك كالبيع والشراء والإجارة والتعلم والتطبيب والتمريض والزراعة والصناعة وما شابه ذلك. لأن دليل إباحتها أو إيجابها يشمل إباحة الاجتماع لأجلها، وأما إن كان القيام بها لا يقتضي الاجتماع بالرجل كالمشي في الطريق في الذهاب إلى المسجد أو إلى السوق أو إلى زيارة الأهل، أو للنـزهة، وما شابه ذلك فإنه لا يجوز اجتماع المرأة بالرجل في مثل هذه الأحوال، لأن دليل انفصال الرجال عن النساء عام، ولم يرد دليل بجواز الاجتماع بين الرجل والمرأة لمثل هذه الأمور، ولا هي مما يقتضيه ما أجاز الشرع للمرأة أن تقوم به؛ ولهذا كان الاجتماع لمثل هذه الأمور إثماً، ولو كانت في الحياة العامة. وعليه فإن انفصال الرجال عن النساء في الحياة الإسلامية فرض، وأن الانفصال في الحياة الخاصة يكون انفصالاً تاماً إلا ما استثناه الشرع، وأما في الحياة العامة فإن الأصل هو الانفصال، وانه لا يجوز فيها الاجتماع بين الرجال والنساء إلا فيما جاء الشارع بإباحته أو بإيجابه أو بندبه للمرأة، وكان القيام به يقتضي الاجتماع بالرجال، سواء كان الاجتماع مع وجود الانفصال كما في المسجد، أو كان مع وجود الاختلاط كما في مشاعر الحج والبيع والشراء. |