الدستور والقانون وعلاقة كل منهما بالآخر
فكر إسلامي
الدستور والقانون وعلاقة كل منهما بالآخر
عباس عبد اللطيف
السودان
كل دول العالم لها دساتير وقوانين تحكمها، سواء أكانت مكتوبة أم عرفية، وسواء أكانت في المعسكر الشيوعي أو المعسكر الديمقراطي الغربي أو ما يسمى بالعالم الثالث ومنه العالم الإسلامي. فما هو واقع هذه الدساتير والقوانين؟ وما علاقة بعضها ببعض؟
اصطلح الناس في عصرنا الحديث على تسمية القواعد التي تحدد الحقوق والواجبات للفرد والجماعة سواء الاقتصادية منها أو الاجتماعية أو السياسية، والتي تنظم السلطة واختصاصها، واصطلحوا على تسمية هذه القواعد العامة بالدستور، أو القانون الأساسي، كما أطلقوا على الأحكام التفصيلية التي تسن لتنظيم الحقوق والواجبات المتضمنة في الدستور، مثل تنظيم ملكية الأراضي، وسياسة الأجور والتعليم، ولوائح الهجرة والإدارة، وأحكام البينات والعقوبات، أطلقوا على كل هذه الأحكام التفصيلية اسم القوانين، وبما أن القوانين هي لتنفيذ أحكام الدستور، فلا بد أن تكون ناتجة عنه، ولا يجوز وجود شيء منها مناقض أو مخالف لأحكام الدستور ومبادئه، وإلا اعتبرت هذه القوانين غير دستورية وباطلة.
من هنا كانت القوانين الإسلامية ناتجة عن الدستور الإسلامي، وهي شرعت لتنفيذ وحماية مبادئه، كما أن القوانين الشيوعية نتجت عن الدستور الشيوعي الذي سنت لتنفيذ وحماية مبادئه، كما أن مهمة القوانين الديمقراطية هي لتنفيذ وحماية مبادئ الدستور الديمقراطي الذي بنيت عليه.
فإذا كان الأمر كذلك، فلا يقول عاقل بأن الولايات المتحدة يمكن أن تتبنى قوانين شيوعية لتنفيذ وحماية دستورها الديمقراطي، كما لا يعقل أن يتبنى الاتحاد السوفياتي قوانين إسلامية لتنفيذ وحماية دستوره الشيوعي، أو يقول عاقل أن الدولة الإسلامية يجوز أن تتبنى قوانين شيوعية لتنفيذ وحماية دستورها الإسلامي، أو تتبنى قوانين إسلامية في ظل الدستور الديمقراطي المطبق حالياً، ثم تتصور بعد ذلك أنها دولة إسلامية تطبق شرع الله. لماذا لا يعقل؟ لأن الدستور كما تبين من واقعه هو الأصل، وهو النظام الأساسي، وهو الذي يحدد شكل الدولة والمجتمع، فهو الذي يعين الحقوق ويحدد الواجبات، وهو الذي يرسم شكل الدولة الهندسي، ويعين صفتها، ويوضح سلطاتها، أما القوانين التفصيلية فمهمتها تسيير علاقات الدولة والمجتمع، بناءً على مبادئ الدستور ورفع المنازعات وحماية النظام العام. لذلك كان حتمياً أن تكون القوانين من جنس الدستور وناتجة عنه، حتى لا يقع التناقض وتحدث الفوضى في علاقات الدولة والمجتمع، كما شاهدنا في سنوات حكم نميري الأخيرة حين طبق بعض القوانين الشرعية مع إبقاء الدستور الديمقراطي الحال دستور 86 المعدل، فالذي سيحدث أن الحكومة ستُواجَه بنفس العجز والتناقض والفوضى في تسييرها لعلاقات المجتمع ومعالجة مشاكله، لأنها ستُحمِل القوانين الشرعية تنفيذ أحكام تتناقض مع أصلها ـ الكتاب والسنة ـ كما ستُواجه القوانين الشرعية بمشاكل نتجت عن علاقات ديمقراطية لا يفترض وجودها في مجتمع يطبق الدستور الإسلامي، فتظهر بذلك القوانين الشرعية بمظهر العجز وعدم المصداقية ومخالفتها منطق الإحساس.
مثال ذلك: من المعلوم أن الأحكام الشرعية شرعت لتطبق على الجميع حكاماً ومحكومين دون أي تمييز، ولكن الدستور الديمقراطي يسمح بإعطاء شاغلي المناصب الدستورية، كأعضاء رئاسة الدولة والوزراء والحكام حصانة دستورية تحميهم من طائلة القانون لا مثل بقية الرعية، وتعاملهم معاملة خاصة، وهذا يُظهر القوانين الشرعية أمام هذه الحصانة بالمحاباة والتحيز وعدم العدالة، ومثال آخر، فإن الدستور الديمقراطي المعمول به حالياً يقول بالعرف كمصدر للتشريع، وهذا يعني عدم التعرض لما تعارف عليه في أيامنا هذه من تبرج النساء في الطرقات واختلاط الجنسين، وأضف إلى ذلك ما تبثه وسائل الإعلام من سموم فاضحة ومثيرة تحت ستار الفن وحرية الثقافة، كل ذلك ينتج عنه إثارة جنسية تؤدي إلى تفشي الزنا في المجتمع، فإذا عاقب الحكم الشرعي الزاني ولم يطل الذي يقوم بالأفعال المنافية للحياء أو المخلة بالآداب، فإن ذلك سيظهر أحكام الشرع بمظهر العجز عن معالجة المشاكل، وذلك حين تتغاضى عن الأسباب المحدثة للمشاكل وتتصدى لنتائجها، ومثال ثالث، فإن الدستور الديمقراطي يقول بتنافس جميع المواطنين على المناصب الدستورية العليا، وهذا يعني أن يكون غير المسلم حاكماً ووزيراً، فهل يجوز شرعاً أن يكون الكافر حاكماً على المسلمين والله تعالى يقول: (وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً)، وهل يجوز شرعاً أن يؤتمن الحاكم الكافر على تطبيق أحكام الإسلام على المسلمين. ومثال آخر، فإن النظام الاقتصادي الديمقراطي يقول بأن الثمن هو منظم توزيع ثروة البلاد بين الرعية، وهذا يعني أن الفرد العاجز حكماً أو فعلاً عن الحصول على الثمن لمواجهة حاجاته الضرورية كانسان وحاجات من يعول من أفراد أسرته، فإذا اضطرته الحاجة للغصب أو الاختلاس أو الرشوة أو السرقة عوقب بالقوانين الشرعية، مع أن الشرع يقول بمعالجة مشكلته أولاً بتأمين ما يكفيه ومن يعول من بيت المال، فإذا اغتصب أو اختلس بعد ذلك كان عقابه عدلاً.
هذه مجرد أمثلة للتناقض والعجز الذي ستظهر به القوانين الإسلامية إذا طبقت في ظل دستور ديمقراطي، ولو فرضنا جدلاً أن القوانين الشرعية استطاعت أن تخفي آثار بعض المشاكل في ظل الدستور الديمقراطي، كاختفاء السكارى من الطرقات، أو انزجار المجرمين خوفاً من العقوبة الرادعة فهذا قد يصرف الأنظار عن إلغاء الدستور الديمقراطي الحالي واستبداله بالدستور الإسلامي، طالما صارت الأمور إلى أفضل، أما إذا ازدادت الأمور تعقيداً، وتفاقمت المشاكل، وهذا هو الأمر الحتمي، فإن سخط الناس سينصب على القوانين الشرعية، لأن الناس يرون أنها هي التي تباشر رعاية شؤونهم اليومية ومعالجة مشاكلهم، دون أن يدركوا أن السبب الحقيقي الذي جعل القوانين الشرعية عاجزة ومتناقضة هو كونها تطبق في ظل دستور ديمقراطي كافر، مما أدى إلى إساءة تطبيق أحكام الشرع وإلى تشويهها، فينتج عن ذلك الشعور بالإحباط بين الناس والنفور منها، حداً قد يصل إلى المطالبة بإقصاء القوانين الشرعية، أو السكوت عمن يعمل على إقصائها، كما حدث بعد الانتفاضة، وهو ما تسعى له القيادات السياسية بخبث ودهاء، لأنها حقيقة لا تريد إجازة الدستور الإسلامي، بل هي مدفوعة لذلك دفعاً من قبل قواعدها المسلمة، والتي تزداد إصراراً كل يوم على تطبيق شرع الله كاملاً دون تجزئة، علماً بأن الإسلام لا يسمح بالتطبيق الجزئي، أو ما يسمى بالتدرج، لأن الأحكام الشرعية كلها وحدة متكاملة، دستوراً، وقوانين إدارية واقتصادية واجتماعية وعقوبات وبينات، كلها وحدة متكاملة.
والسؤال الذي يرد الآن: ما هو الحل إذن؟
الحل ببساطة، أن تجتمع الجمعية التأسيسية الحالية ذات الأغلبية الساحقة من المسلمين، بما لديها من تفويض من جماهير الأمة الإسلامية، فتجيز الدستور الإسلامي فوراً، وتنتخب أحد أبناء الأمة الحائزين على شروط انعقاد البيعة، فتبايعه رئيساً للدولة، فيبدأ بتأسيس أجهزة الدولة الإسلامية حسب أحكام الدستور الإسلامي المجاز، وتنظيم علاقات الناس، وتسيير حياتهم بالأحكام الشرعية، وحينئذ ستجد هذه الدولة أن الأمة بأسرها معها، تشد من أزرها، وتؤيدها دون اعتبار لانتماء حزبي، أو عرفي، أو إقليمي، لأن العقيدة الإسلامية في نفوس المسلمين وهي فوق كل اعتبار، والولاء لها فوق كل ولاء. هذا هو الحل أيها المسلمون فهل من مجيب؟
يقول الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ)
صدق الله العظيم.