هدم الخلافة

بمناسبة ذكرى فاجعة إلغاء الخلافة الإسلامية (3 آذار 1924م):

هدم الخلافة

هذا المقال مأخوذ من كتاب (تاريخ الدولة العلية العثمانية). والمقال ليس بقلم المؤلف: محمد فريد بك، بل بقلم محقق الكتاب: الدكتور إحسان حقي. وقد اقتطفناه من الكتاب ووضعناه بين أيدي قراء الوعي بمناسبة الذكرى السادسة والستين لهدم الخلافة الإسلامية، هذا المنكر الفظيع الذي ارتكبه مجرم هذا القرن: مصطفى كمال على مراحل كان آخرها 3 آذار 1924م.

فهل يعي مسلمو تركيا، الذين ما زالوا يحملون الإكبار والتقديس لهذا اليهودي المدسوس، هل يعون فداحة الجريمة ويطهرون بلدهم من رجسها. وهل يعي مسلمو العالم اليوم أن عود العزة والكرامة إليهم هي فقط بعود الخلافة الراشدة والحكم بما أنزل الله. وهل يعون أن تباشير النصر تلوح في الأفق القريب.

فهيّا إليها يا شباب الإسلام…

استيقظ العالم الإسلامي، سنة 1918، على أكبر فاجعة نزلت به، كما أسلفنا، وأخذ يمسح عينه ويفتح أذنيه وهو غير مصدق ما يرى وما يسمع ويتساءل: أصحيح أن دولة الخلافة الإسلامية، التي كانت درع المسلمين الواقي ورمز العظمة والشأن قد زالت من الوجود؟ أصحيح أنه لم يبق للمسلمين بلد مستقل يعتزّون به؟ إنها والله لأكبر نائبة وأعظم داهية.

وفي الوقت الذي استيقظ المسلمون على هذا الكابوس المزعج استيقظ العالم المسيحي على ألذ حلم حلموا به وأعظم أمنية تمنوها وأغلى غاية سعوا إليها وبذلوا في سبيلها كل ثمين أجيالاً طوالاً وأعني بذلك زوال دولة الخلافة. ولم يخف المسيحيون سواء منهم من كان من أهل البلاد أو غريباً عنها شعورهم بهذه الفرحة، وهم أقلية في البلاد الإسلامية، بل أخذوا يعلنونها صراحة على ألسنة كبارهم وصغارهم، مسؤوليهم وعامتهم، فقال الجنرال اللنبي، قائد الحملة الإنكليزية على الجبهة المصرية الفلسطينية، حينما دخل القدس: الآن انتهت الحروب الصليبية (أقول: ويا وليتها انتهت بل هي ما زالت مستمرة). ووقف الجنرال غورو القائد الإفرنسي على ضريح صلاح الدين الأيوبي، في دمشق، وقال: «ها قد عدنا يا صلاح الدين». وبصرف النظر عما في هذين التصريحين، في بلاد إسلامية، وفي القرن العشرين، من عدم اللباقة واللياقة وصِغَر النفس أيضاً فإنهما يدلان على ما تكنّه صدور القوم من الحقد الحسد والغطرسة والخداع، ولا سيما وأنهما دخلا بلادنا حليفين ولم يدخلاها فاتحين.. وقد كان هذان التصريحان سياطاً لاذعة على جلود العرب الذين خدعوا بأقوال الغربيين ووعودهم وظنوهم سيحققون لهم إمبراطورية عربية مستقلة عاصمتها مكة وملكها الشريف حسين بن علي وإذا بهم قد أصبحوا مستعمرين لهؤلاء الذين ظنوهم أصدقاء وأمسوا أضيع من ذات النحيين.

وبينما كان العالم المسيحي يقيم الأفراح، في كل العالم، احتفاء بهذا النصر، كان العالم الإسلامي، من حدود الصين إلى حدود الأطلسي في مأتم صامت يبكي عزاً ضائعاً وملكاً مسلوباً وكرامة مهدورة وجانباً مهيضاً وذلة وانكسار وينظر إلى السماء يلتمس الفرج ويستدر الرحمن أو يشتكي ويتوجع كما قال أحمد شوقي:

الهندُ والِهَةٌ ومصرُ حزينة

                  تبكي عليكِ بِمَدْمَعٍ سَحّاحٍ

والسام تسألُ والعراقُ وفارسُ

                 أما منَ الأرض الخلافَةَ ماح؟!

ما هي الأسباب التي أدّت إلى انهيار الدولة العثمانية؟

إذا كان بعض الناس يعطون للدول أعماراً كأعمار المخلوقات ويقولون إن الدول تشيخ وتهرم فتموت بفعل مرور الزمن فأنا لست أرى هذا الرأي ولا أرى الدولة تشبه المخلوقات ذات الأعمار المحدودة، وإنما عمر الدولة يتجدد بتجدد الأجيال، فإذا كانت الأجيال التي تعيش في دولة ما من الدولة حية قوية نشيطة عاملة واعية عاشت الدولة ما عاشوا متمتعين بهذه الصفات لأن عمر الدولة يتجدد مع كل جيل، وإما إذا كانت هذه الأجيال ضعيفة كسولة متواكلة مهملة ماتت دولتهم بموتهم لكي تعيش في غيرهم ممن يصلحون للحياة، فالدولة لا تموت بذاتها إذ ليس فيها ما يموت وإنما تموت بأهلها.

فبعد أن تقرر لدينا هذا يجب علينا أن نبحث عن الأسباب التي أدّت إلى زوال الدولة العثمانية بعد أن سيطرت على العالم بضعة قرون كانت فيها ملء عين الزمان وسمعه لا بل كانت فمه القائل ويده الباطشة ولسانه الناطق.

وترجع هذه الأسباب، في نظري، إلى:

1- زواج السلاطين بالأجنبيات وتسلط هؤلاء الأجنبيات على عواطف أزواجهن وتصريفهم في سياسة بلادهن الأهلية وتحكمهن بمقدرات الدولة. فكم من الملوك قتلوا أولادهم أو إخوانهم بدسائس زوجاتهم وارتكبوا أعمالاً تضر بمصلحتهم إرضاء لزوجاتهم.

2- تعدد الزوجات والمحظيات اللواتي كان الأجانب والحكام يقدمونهن هدية للسلطان كأنهن السلع أو التحف واللواتي كان السلاطين إذا رأوا كثرتهن في قصورهم يهدونهن أحياناً إلى قادتهم أو خواصهم على سبيل التكريم. وكان من البديهي أن يحصل بين أولاد الأمهات وأمهات الأولاد، سواءً أكانت الأمهات زوجات أو محظيات. تحاسد وتباغض يؤديان إلى قتل السلاطين أولادهم وإخوانهم وإلى أمور غير معقولة ومقبولة عقلاً وشرعاً.

ولذا فقد كان أفراد الأسرة السلطانية يعيشون في خوف مستمر ويتربص بعضهم بالبعض الآخر الدوائر ولا يبالون بأن يشقوا عصا الطاعة في وجه السلطان سواء أكان أخاً أم أباً أم ابناً وذلك ليس حباً بالسيطرة فقط بل لإنقاذ أعناقهم أحياناً من الغدر.

3- تدخل نساء القصر بالسياسة وشفاعتهن لدى أزواجهن السلاطين برفع الخدم إلى منصب الوزارة أو إيصال المتزلفين إلى مراتب الحل والعقد، كرئاسة الوزارة وقيادة الجيش. وفي كثير من الأحيان لا يكون لهؤلاء الرجال من ميزة يمتازون ألا تجسسهم لحسابهن.

5- بقاء أولياء العهد مسجونين في دور الحريم فلا يرون من الدنيا شيئاً ولا يعلمون شيئاً، وكثيراً ما كانوا لا يتعلمون شيئاً أيضاً لأنهم لم يكونوا يدرون إلى ما سيصيرون فإما أنهم يذهبون ضحية مؤامرة قبل أن يصلوا إلى العرش وإما أنهم يصلون إلى العرش لكي يجدوا فئة من الناس تسيطر عليهم وتتحكم بهم أو يسحبون عن العرش ويقتلون أو تسيرهم نساء القصر أو يسيرهم جهلهم.

وتسليم أمور الدولة إلى غير الأكفاء من الناس إذ كان طباخ القصر وبستانيه وحطّابه والخصي والخدام يصلون إلى رتبة رئاسة الوزارة أو القيادة العامة للجيش. فماذا ينتظر من جاهل أن يفعل؟

6- احتجاب السلاطين وعدم ممارستهم السلطة بأنفسهم والاتكال على وزراء جهال. فقد كان سلاطين آل عثمان حتى السلطان سليم الأول يتولون قيادة الجيش بأنفسهم، فيبعثون الحماسة والحمية في صدور الجند، ثم صار السلاطين يعهدون بالقيادة إلى ضابط فصار الجنود يتقاعسون ويتهاونون تبعاً للمثل القائل «الناس على دين ملوكهم».

7- تبذير الملوك حتى بلغت نفقات القصور الملكية في بعض الأحيان ثلث واردات الدولة.

8- خيانة الوزراء، إذ أن كثيراً من الأجانب المسيحيين كانوا يتظاهرون بالإسلام ويدخلون في خدمة السلطان ويرتقون بالدسائس والتجسس حتى يصلوا إلى أعلى المراتب، وقد أبدى السلطان عبد الحميد استغرابه من وفرة الأجانب الذين تقدموا إلى القصر يطلبون عملاً فيه حتى ول بصفة خصيان وقال: ولقد وصلني في أسبوع واحد ثلاث رسائل بلغة رقيقة يطلب أصحابها عملاً في القصر حتى ولو حراساً للحريم، وكانت الرسالة الأولى من موسيقي إفرنسي والثانية من كيمائي ألماني والثالثة من تاجر سكسوني.وعلق السلطان على ذلك بقوله: من العجائب أن يتخلى هؤلاء عن دينهم وعن رجولتهم في سبيل خدمة الحريم. فهؤلاء وأمثالهم كانوا يصلون إلى رئاسة الوزارة، ولذا فقد قال خالد بك مبعوث أنقرة في المجلس العثماني بهذا الصدد: لو رجعنا إلى البحث عن أصول الذين تولوا الحكم في الدولة العثمانية وارتبكوا السيئات والمظالم باسم الشعب التركي لوجدنا تسعين في المئة منهم ليسوا أتراكاً.

9- غرق السلاطين والأمراء في الترف والملذات.

10- الحروب الصليبية التي شنت على الدولة والتي لم تنقطع منذ ظهورها إلى يوم انهيارها.

11- الامتيازات التي كانت تمنح للأجانب اعتباطاً بسخاء وكرم لا مبرر لهما بل كانت تمثل التفريط بحق الوطن في أقبح صورة، فقد منحت الدولة العثمانية، وهي في أوج عظمتها وسلطانها، امتيازات لدول أجنبية جعلتها شبة شريكة معها في حكم البلاد. ولا أرى سبباً لهذا الاستهتار إلا الجهل وعدم تقدير الأمور قدرها الحقيقي وتقدير قوة ودهاء الدول التي منحت هذه الامتيازات والعاقل لا يستهين بعدوه مهما كان صغيراً أو ضعيفاً.

12- الغرور الذي أصاب سلاطين بني عثمان الذين فتحت لهم الأرض أبوابها على مصراعيها يلجونها كما يشاؤون، وإن من يقرأ كتاب الملك سليمان القانوني إلى ملك فرنسا لا يجد فيه ما يشه كتاب ملك إلى ملك أو إمبراطور عظيم إلى ملك صغير أو حتى إلى أمير،بل يجده وكأنه كتاب سيد إلى مسود. ومن يطالع صيغ المعاهدات، في أوج عظمة الدولة، وما كان يضفي فيها على سلاطين بني عثمان من ألقاب يكادون يشاركون بها الله تعالى في صفاته بينما تكون ألقاب الأباطرة والملوك عادية، أقول إن من يطالع صيغ هذه المعاهدات يدرك إلى أي حد بلغ بهؤلاء السلاطين الجهل والغرور.

13- إدخال الدين في كل صغيرة وكبيرة من أمور الحياة والسير بعكس ما يأمر به الدين، باسم الدين، حتى أصبح الدين ألعوبة في أيدي قبضة من الجهال يحللون ويحرمون على هواهم، ومثال ذلك إدخال أمر تغيير اللباس في نطق الدين ثم لما أراد أحدهم إنشاء مطبعة في استنابول ووحد معارضة من قبل علماء الدين لجأ إلى السلطان وإلى حاشيته يطلب إليهم أن يقنعوا هؤلاء الجهال بفائدة المطابع فأمر السلطان شيخ الإسلام بأن يفتي بأن المطبعة نعمة من نعم الله وليست رجساً من عمل الشيطان كما أفتى العلماء من قبل فأفتى شيخ الإسلام بجواز إنشاء مطبعة شريطة ألا تطبع القرآن الكريم ولا كتب التفسير والحديث والفقه. وقد أنشئت أول مطبعة في استنابول سنة 1712 أي بعد أن كان قد مضى على اختراع المطبعة ما يزيد على قرنين ونصف القرن وبعد أن أنشأت فرنسا المطبعة الوطنية بنحو قرنين.

هذه الأسباب هي التي قضت على الدولة العثمانية وأنزلتها من شامخ عزها إلى حضيض المذلة والهوان. وإن من يدرس، بإنعام نظر، كل سبب من هذه الأسباب المذكورة آنفاً ويرى مدى تأثيره الواسع في المحيط الدولي لا يعجب من انهيار هذه الدولة العظيمة تحت سياط هذه الضربات بل يعجب كيف استطاعت أن تعيش ستمئة سنة وهي تتحمل هذه الضربات القاسية التي نزلت بها والتي لو نزلت على جبل لصدعته، ولكنها عاشت بفضل اختلاف أعدائها على تقسيمها فيما بينهم وبفضل إيمان أهلها وتمسكهم إلى حد ما بالإسلام. ومن المؤسف المحزن أن يهدم أبناء أولئك المؤمنين بتنكرهم للدين وبتخاذلهم ما بناه آباؤهم وأجدادهم بجدهم وجهدهم وبما قدموه من تضحيات بالدماء والأرواح.

الثورة التركية ومصطفى كمال

كان السلطان وحيد الدين يريد القيام بثورة في شرق الأناضول لتقوية موقفه في التفاوض مع إنجلترا وفرنسا، وبما أنه كان يثق بمصطفى كمال فقد عينه مفتشاً عاماً لجيوش الأناضول بصلاحيات واسعة وزوده بمبلغ عشرين ألف ليرة عثمانية ذهباً، كما أخبرني بذلك أحد كتاب المابين المطلعين على دخائل الأمور، وهو مبلغ ضخم بالنسبة إلى ذاك الزمن وإلى ما كانت عليه خزينة الدولة من عجز وإفلاس. ذهب مصطفى كمال بمهمة معينة لحساب الدولة العثمانية ولكنه خان الأمانة وغدر بالسلطان وعمل لحساب نفسه عملاً بالقول المأثور أرسلته إلى خاطباً فتزوج.

وقد ذكر شيخ الإسلام المغفور له صبري أفندي، الذي حضر كل فصول هذه المأساة، في الجزء الأول من كتابه: «موقف العقل والعلم والعالم من رب العالمين» بما معناه قال: كنت آنذاك شيخ الإسلام ومشيخة الإسلام تأتي في رأس الوزارات بعد رئاسة الوزارة ولذا فإن شيخ الإسلام كان ينوب عن رئيس الوزارة في الاجتماعات الوزارية إذا تغيب الرئيس عن حضور الاجتماع.

وبعد مضي أكثر من سنة على الثورة لم تجن البلاد إلا الدمار والخراب وتقدم اليونان نحو قلب الأناضول حتى كادوا يطرقون أبواب أنقره أعيد تكليف فريد باشا بتأليف الوزارة وعلى الرغم ممن أن وزارته السابقة هي التي بعثت بمصطفى كمال إلى الأناضول فإنها في المرة أصدرت حكمها عليه بالعصيان والتمرد على السلطان استناداً إلى فتوى أصدرها شيخ الإسلام عبد الله دري زاده، ولكن السلطان ما لبث أن أقال هذه الوزارة وكلف توفيق باشا، وهو من أنصار مصطفى كمال، بتأليف وزارة جديدة دامت في الحكم نحو سنتين خدمت فيهما أغراض مصطفى كمال. فلما قويت شوكة مصطفى كمال تنكر للسلطان وطلب إليه أن يتنازل عن الحكم ويكتفي بالخلافة المجردة من السلطة على أن يظل مقيماً في استانبول وتنتقل السلطة إلى أنقره، فرفض السلطان وتنازل عن العرش سنة 1922 وخلفه عبد المجيد خليفة لا ملكاً ثم خلع سنة 1924 وأخرج من البلاد.

وقد ظل السلطان وحيد يحسن الظن بمصطفى كمال رغم التحذيرات وظل مصطفى كمال يستغل إخلاص السلطان وصدق وطنيته والسلطان ليس بغافل بل راض بكل شيء يكون فيه خير البلاد وقد قيل له مرة: «إنه لا يستبعد أن يغتصب هذا الرجل عرشك» فقال: «ليخدم الوطن وليغتصب عرشي» وشاعت كلمة سمعتها وأنا في بلادي تنسب إلى أحد الإنكليز وهي: «إن السلطان وحيد الدين أراد أن يكيد الإنكليز بمصطفى كمال فكاد الإنكليز به للسلطان».

هذا موجز ما قاله سماحة شيخ الإسلام صبري أفندي وأنا أقول: إن من ينعم النظر في الثورة الكمالية يجد أن الإنكليز قد لعبوا فيها أدواراً رئيسية مع ثلاثة أطراف. الطرف الأول هو مصطفى كمال الذي تبنوه وساعدوه للوصول إلى ما وصل إليه شريطة أن يلغي الخلافة ويفعل في تركيا ما فعل. والطرف الثاني هم اليونان الذين كانوا حلفاءهم في الحرب وخرجوا منها بلا غنيمة فطرحوا بهم في مغامرة كانوا يقدرون لها الفشل فأغروهم بالاستيلاء على أزمير على أن تكون نصيبهم من غنائم الحرب وهم في الواقع لا يريدون أن يمكنوهم من شيء لأنهم يعلمون بأن استيلاء اليونان على شيء من أرض تركيا يعني استيلاء روسيا عليه على اعتبار أن القومين يدينون بالأرثوذكسية وروسيا هي حامية الأرثوذكسية في العالم، ولكن الإنكليز أرادوا أن يعطوا اليونان درساً بهذه المغامرة لكي يرضوا من الغنيمة بالإياب ثم إنهم يخلقون من مصطفى كمال بطلاً محرراً لبلاده، والطرف الثالث هي الحكومة التركية نفسها التي استعملوها أداة للتفريق بين السلطان وبين مصطفى كمال وقد نجحوا في تمثيل هذه الأدوار الثلاثة نجاحاً تاماً.

أما مصطفى كمال فهو وحده من بين هذه الأطراف الثلاثة الذي كان يعلم ما يراد منه كما أنه كان يعمل النتائج لأنه كان على صلة بالإنكليز منذ سنة 1917 يوم كان قائداً عثمانياً في جبهة فلسطين فقد أخبرني إبراهيم بك صبري بن صبري أفندي شيخ الإسلام الذي مره ذكره بما يلي: «اتصل الإنكليز بمصطفى كمال يوم كان قائداً في فلسطين وطلبوا إليه أن يقوم بثورة على السلطنة ووعدوه أن يساعدوه على ذلك فاتصل مصطفى كمال بقائدين عثمانيين من زملائه كانا يتوليان قيادة جيشين قريبين منه وفاتحهما بالأمر (وقد ذكر لي إبراهيم بك اسمي القائدين المذكورين ولكني أنسيتهما لأني لم أسجلهما عندي إذ أني لم أكن أتوقع أن احتاج إلى ذكرهما) فلما سمعا الخبر استعظماه واستنكراه وقالا له: «بما أنك لم تحاول العصيان الذي يوجب الإعدام فإننا سنكتم الأمر وننصحك أن تعبره منسياً وأنك لم تفاتحنا به ولا سمعناه منك».

وانتهى الأمر بالنسبة إلى هذين القائدين عند هذا الحد وأما بالنسبة إلى مصطفى كمال الذي قبل، وهو القائد العثماني، أن يتآمر مع الإنكليز لارتكاب مثل هذه الخيانة فإنه لم ينته، ولا شك، بدليل ما وصل إليه، ولا يستبعد أن يكون الإنكليز هم الذين دعموه لدى السلطان، بطريقة غير مباشرة، لكي يعينه مفتشاً عاماً لجيوش شرق الأناضول ليسهلوا مهمته.

قد يتساءل المرء: كيف يساعد الإنكليز مصطفى كمال على القيام بثورة في بلاد هم يسيطرون عليها؟ والجواب هو أن أمم الغرب كانت منذ زمن بعيد تريد تحطيم الدولة العثمانية وتريد اقتسام تركة (الرجل المريض) وقد عقدت هذه الدول مئة معاهدة لتقسيم هذه التركة ولكنها لم تكن تتفق ما يصيب كلاً منها كما أنها لم تكن قد افترستها. فلما نشبت الحرب العالمية الأولى وانهارت الدولة العثمانية رأيت هذه الدول، وعلى رأسها إنكلترا وفرنسا، أن بقاء تركية دولة صغيرة غير إسلامية يضمن لها مصالحها أكثر مما لو استولت عليها واستعمرتها كما فعلت بالبلاد العربية لأنها ستبقى حاجزاً بين العالم الحر وبين روسيا، التي وإن كانت في تلك الأيام ضعيفة فإنها لا بد لها من أن تسترجع قوتها في يوم من الأيام ضعيفة فإنها لا بد لها من أن تسترجع قوتها في يوم من الأيام وتقوم فتطالب بإعادة تقسيم الغنيمة، وإنها لن تسكت عن سيطرة إنكلترا على الممرين المائيين ولذا فإن هذه الدول الغالبة رأيت من الأصلح وجود دولة صغيرة ضعيفة وغير مسلمة صديقة للغرب كالدولة التركية الحالية التي صنعتها على يدي مصطفى كمال من أن تكون هي المسيطرة.

وهكذا فقد نال الغرب بغيته وأصبحت تركيا دولة صغيرة علمانية وتنكرت حتى لواقعها فهي قد أعلنت أنها دولة غير إسلامية مع أن 95% من سكانها مسلمون وتنكرت لآسيويتها مع أن مالها في أوروبا من مناطق لا يتجاوز عشر مساحتها، فقد ذكر سماحة شيخ الإسلام صبري أفندي في كتابه المذكور آنفاً أموراً منها أنه لما كان مصطفى كمال على فراش الموت أوصى بألاّ يصلى عليه صلاة الجنازة ولكنهم صلوا عليه إجابة لرجاء أخته. ثم أنه لما دعيت تركيا لحضور المؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس سنة 1931 رفضت الحكومة التركية حضوره لأنها غير مسلمة، ولما دعيت لحضور المؤتمر الآسيوي الذي عقد في دهلي رفضت حضوره بحجة أنها ليست دولة آسيوية.

كيف استقبل المسلمون الثورة الكمالية؟

لما قام مصطفى كمال، بوحي من السلطان وحيد الدين، بثورته التي أرادها السلطان عثمانية إسلامية وجعلها مصطفى كمال غربية علمانية، لم يكن المسلمون يعلمون عن أسرارها وخفاياها شيئاً فخدعوا بظاهرها وبالدعايات التي كانت ترافقها وأولوها كل دعم وتأييد وأكبروا همة وإخلاص باعثها وذلك لأن العالم الإسلامي كان قد فقد صوابه بعد انهيار الدولة العثمانية دولة الخلافة الإسلامية وكان على استعداد تام لتأييد أية حركة تقوم في أية ناحية من العالم لنصرة الإسلام وإعادة الخلافة أو أنه كان كالغريق يرفع يديه إلى السماء ليتمسك بحبال الهواء.

لقد عايشتُ الحركة الكمالية منذ يومها الأول وأدركتُ كل أدوارها وقد أُخِذتُ بها وخُدِعتُ كما أخذ غيري وخدع من المسلمين إذ ظنناها حركة إسلامية ولم يكن من شيء يعزينا عما نحن فيه، بعد اندحار الدولة العثمانية، إلا الإسلام. فقد أصبحنا غرباء في أوطاننا أشقياء في بلادنا تعساء في مجتمعنا. أو نحن كالأيتام على مأدبة اللئام ليس لنا وطن ندعيه لأن الغريب يستعمره ولا لنا دولة نستند إليها لأن الأغراب يحكموننا. صرنا نسمع سفهاء الناس يشتمون ديننا في وجوهنا ومن كان منهم مهذباً ولم يشتم قال لنا: لقد ولى زمانكم ونحن اليوم أسيادكم وإن لم يقولوها بألسنتهم قالوها بأفعالهم. وكنا نتطلع يمنة ويسرة فلا نجد على سطح الأرض كلها، وعلى كثرة عدد المسلمين فيها. دولة إسلامية واحدة مستقلة حرة نستطيع أن ندعيها أو ننتسب إليها لنعتز بها بل كان العالم الإسلامي كله مستعمرات غربية أو شبة مستعمرات.

لهذه الأسباب كان سرورنا بالثورة الكمالية عظيماً ولا حدود له لأننا كنا نستطيع أن نقول بأنه قام مسلم من بين المسلمين يقف في وجه الغرب ويعلن ثورته عليه وأنه غداً سيعيد إلى المسلمين الخلافة الإسلامية ويعيد إلينا شأننا وعظمتنا. وكما سررنا وانتعشنا بثورة أنور باشا ولكن سرورنا بثورة مصطفى كمال كان أعظم لأسباب كثيرة منها:

1- إن بلاد الأناضول متصلة ببلادنا العربية اتصالاً مباشراً وإن وجود دولة إسلامية إلى جوارنا أفضل من وجود دولة غربية عدوة.

2- إن الدولة العثمانية هي أمنا التي غذينا بلبانها وكنا جزءاً منها فرجوع الحياة إليها هو بعث لنا.

3- إن مصطفى كمال يعمل للخلافة الإسلامية بينما أنور باشا يعمل لإقامة دولة الإسلامية وليس هذه كتلك.

4- إن السلطان يؤيد حركة مصطفى كمال ولم نسمع أنه كان يؤيد حركة أنور باشا.

5- إن هالة الدعاية التي أحيطت بها الثورة الكمالية كانت أعظم وأحكم من هالة الدعاية التي رافقت حرب أنور باشا.

6- إن الثورة الأنورية ماتت سنة 1922 بموت قائدها ولم يبق أمامنا إلا الثورة الكمالية.

7- إن الغربيين أرادوا أن يصرفوا تفكير العالم الإسلامي إلى الثورة الكمالية لكي يستهلكوا آلام المسلمين ويخففوا على نفوسهم أثر الصدمة التي أنزلوها بهم بإزالة الخلافة فأولوا الثورة الكمالية كل عنايتهم ودعموها برعايتهم لأنهم كانوا يعلمون نتائجها مسبقاً على اعتبار أنهم هم الدين صنعوها.

وكما أن الغربيين قد نجحوا في مخططهم وجعلوا العالم الإسلام كله يسير فخوراً بضع سنوات وراء الثورة الكمالية فقد استغل مصطفى كمال عواطف المسلمين وأموالهم إلى أبعد حدود الاستغلال وكسا ثورته لباساً إسلامياً، سواءً بأحاديثه وتصريحاته وخطبه، أو بمعاملته لزعماء المسلمين. فمن ذلك أنه استعان بالزعيم الليبي الشهير السيد أحمد السنوسي وجعله مستشاراً له وكان يبرق إليه، كما قال لي صديقي الأمير شكيب أرسلان، إذا أراد شن هجوم على مكان ما قائلاً: إننا ننوي الهجوم غداً أو بعد غد على مكان ما فاقرأوا البخاري الشريف على نية النجاح والتوفيق، واستغل أيضاً أعمال وأقوال جمعية الخلافة الهندية التي قامت بزعامة الأخوين شوكة علي ومحمد علي واستغل الشعراء فمدحوه والأدباء فأثنوا عليه ومشايخ الطرق فرفعوه إلى مقام الولاية.

عمل الإنكليز جهدهم لإنجاح الثورة التركية بدليل أنهم لم يساعدوا اليونان بشيء، بوما قاموا به من دعاية للثورة ذاتها ولشخص مصطفى كمال حتى جعلوا الناس يظنون أن الخلافة الإسلامية أصبحت في متناول أيديهم وأنها قد استعادت مجدها وأن مصطفى كمال هو نور الدين زنكي أو صلاح الأيوبي أو حتى عمر بن الخطاب ونسي المسلمون مصائبهم فرحاً بانتصارات مصطفى كمال التي اعتبروها الخطوة الأولى نحو تحقيق آمالهم الإسلامية. غير أن ما حدث بعد ذلك خيب آمال المسلمين، ولكن الفرصة كانت قد فاتت ولم يعد بمقدورهم أن يفعلوا شيئاً بعد أن تفرق شملهم، وبعد أن انتزع عبد العزيز بن السعود الملك من الحسين، خليفة المسلمين المنتظر، فأخذه الإنكليز وسجنوه في قبرص إلى أن توفي وجازوه جزاء سنمار.

كان الغرب عامة والإنكليز خاصة يفضلون وجود دولة تركية ضعيفة مشذبة الأطراف بعيد فكراً ومبدأً وروحاً عن البلاد العربية المجاورة على أن يسيطروا هم على الأناضول لأن وجود أية دولة أوروبية في الأناضول باسم الاستعمار أو الحماية أو الانتداب سيجعل الاحتكاك مع الروس مستمراً بينما وجود دولة تركية ضعيفة سائرة في ركاب الغرب أضمن للغرب وأنفع له.

إذا كان الإنكليز قد نكثوا عهودهم مع العرب لأنهم أدركوا ضعفهم وشتات كلمتهم وعدم اتفاقهم على رأي ولأنهم كانوا يعلمون بأنهم لن يتنازلوا عن دينهم ولا عن رابطتهم الإسلامية فإنهم قد ساعدوا مصطفى كمال، أو إن شئت فقل أنهم لم يناهضوه، لأنهم كانوا يعلمون أنه سيعطيهم كل ما يطمعون به وذلك لأن الاستعمار لم يعد، في أيامنا هذه، استعمار أرض وسماء وسيطرة عسكرية وحكماً مباشراً بل أصبح استعمار أفكار ومبادئ وأهداف، وقد أصبحت تركيا مستقلة في ظاهرها وفيما لا يضر الغرب ولكنها مستعمرة في أفكارها ومبادئها.

«إن نصب الإمام واجب قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة والتابعين».

ابن خلدون

«يجب أن يعرف أن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين، بل لا يقام الدين إلا بها».

ابن تيمية

«إن الإمامة فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإسلام».

البغدادي

«مذهب أهل الحق من الإسلاميين أن إقامة الإمام واتباعه فرض على المسلمين».

الآمدي

«أن إقامة الدين وتنفيذ أحكام الشرع في جميع شؤون الحياة الدنيا والأخرى فرض على المسلمين بالدليل القطعي الثبوت القطعي الدلالة ولا يمكن أن يتم ذلك إلا بحاكم ذي سلطان. والقاعدة الشرعية: «إن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب» فكان نصب الخليفة فرضاً».

النبهاني

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة