نظام الخلافة نظام متميز

 

نظام الخلافة نظام متميز

هذا البحث ـ بحث الخلافة ـ بحث سياسي، فهو بحث في أعلى منصب من مناصب الحكم، وبالطبع هو بحث في أفكار الحكم. ومن الخطأ الفاحش أن يجعل القارئ غير صدق هذه الأفكار ومطابقتها للواقع مقياساً له لقياس صحتها إن كان قارئها غير مسلم، وغير كتاب الله وسنة رسوله إن كان قارئها مسلماً. وذلك لأن الفكر لا يتخذ لمقياس صحته فكر آخر، إلا إذا كان فرعاً. وإنما يتخذ مقياسه مطابقته للواقع، أو مطابقته لأصله الذي ثبت لديه مطابقته للواقع. ولذلك فإننا ننذر القارئ بضرورة قراءة هذه الأفكار بدقة ووعي على الواقع الذي تعبر عنه، فإنه وهو يلمس أزمة الحكم في العالم الإسلامي [ الشرقيين الأدنى والأوسط وبعض أجزاء الشرق الأقصى ] ويلمس أزمة الحكم في كثير من أجزاء العالم، حريّ به أن يتعرف أفكار الحكم هذه، ليدرك إدراك تدبر أنه وقع على علاج أزمات الحكم في العالم، وعلى العلاج الصحيح الذي لا علاج سواه لحكم البشر ورعاية شؤونهم. لا شك أنه ـ أي القارئ ـ إذا تدبر هذه الأفكار، حاصراً مقياسه في موضوع انطباقها على الواقع، أو انطباق الدليل الشرعي عليها، فإنه سيوقن أنه وقع على العلاج الصادق لحكم الناس.

والذي يخشى منه جعل الديمقراطية مقياساً لصحة هذه الأفكار، أو التأثر بمفاهيمها أثناء القراءة. لأن الديمقراطية شاعت في العالم حتى عم اسمها كمثل أعلى عند جميع الدول والشعوب والأمم، وتبنتها الدول الشرقية بعد تبني جميع الدول الغربية لها مع الاختلاف في مدلولها عندهم. وتأثر بها المسلمون في جملتهم، لا فرق بين من يعتقد أن الخلافة يقيمها المسلمون، ومن يعتقد أن الخليفة قد عينه الله ورسوله، فإنهم جميعاً يقربون آراءهم للناس باسم الديمقراطية، أو ببعض أفكارها. ومن أجل ذلك نكرر إنذار القارئ بأن لا يتخذ في قراءته لهذه الأفكار، أي أفكار غيرها مقياساً، ولا سيما اسم الديمقراطية أو أفكارها. فمثلاً سبق لبعض من بحثوا في الحكم أن شاهدوا أشكالاً من الحكم في البلاد التي يعرفونها، وقرأوا تاريخياً عن أشكال من الحكم. وبالفروض المنطقية كتبوا عن أشكال الحكم، فقالوا: أن الحكم إذا فوض إلى جميع الشعب أو إلى أكبر قسم منه فإنه يطلق على شكل هذا الحكم اسم (الديمقراطية) . وإذا حصر الحكم في يد عدد قليل فإنه يطلق على هذا الشكل من الحكم اسم (الاريستوقراطية) . أما إذا فوض الحكم إلى يد حاكم منفرد يستمد الآخرون كلهم سلطانهم منه فإنه يطلق على هذا الشكل من الحكم اسم (الملكية) . وهم يريدون بالحكم السلطان والتشريع. وعلى هذا الأساس بني تفرع جميع أشكال الحكم. وتفرع عن ذلك أنواع الدول وأنواع الاتحادات بين الدول كما تفرع عنه أنواع الحكومات والانتخابات وحق التصويت، إلى غير ذلك.

فهذه الأفكار هي غير أفكار الحكم بالإسلام كلياً وجزئياً. والمغايرة بينهما كبيرة جداً، لأن نظام الحكم في الإسلام هو نظام خلافة، وهو طراز متميز كل التميز عن أي طراز حكم. فالشريعة التي تطبق في إيجاد الحكم، وفي رعاية شؤون الرعية، وفي العلاقات الخارجية، هي من عند الله تعالى. فليست هي من الشعب، ولا من عدد قليل منه، أو من أي فرد. ولكل فرد ممن يعتنقون الإسلام الحق في فهم هذه الشريعة الفهم الذي يصل إليه من معرفته اللغة العربية والنصوص الشرعية، وله مطلق الحق في حدود اللغة العربية والنصوص الشرعية أن يفهم ما يوصله إليه عقله، ويكون رأيه شريعة في حقه وحق كل من يقبل فهمه ويأخذه، وله أن يحكم به الناس إذا كان حاكماً أو قاضياً. إلا أنه إذا تبنى الخليفة ـ أي رئيس الدولة الإسلامية ـ أي رأي، كان الرأي الذي تبناه الخليفة هو وحده القانون، ووجب على جميع الرعية حينئذ ترك العمل بآرائهم لا ترك آرائهم. فيجب عليهم شرعاً أن يعملوا بالقانون أي بالرأي الذي تبناه الخليفة، وأن يخضعوا له وحده، ولكنهم لا يمنعون من تعليم آرائهم والدعوة إلى الإسلام بها. ويطلق للناس التفكير في الإسلام على الأساس الذي قام عليه وهو العقيدة الإسلامية، فلهم أن يفكروا في التشريع وغيره كما يشاءون، كما لهم أن يفكروا في غير ذلك، على أن يكون ذلك كله منبثقاً عن العقيدة من حيث التشريع، ومبنياً على العقيدة من حيث غير التشريع.

هذا من الناحية التشريعية والفكرية. أما ناحية الحكم فهي غير التشريع، إذ أنها تعني السلطان لا نظام الحكم، لأن نظام الحكم من التشريع، فهو أحكام شرعية. والسلطان قد جعله الشرع للمسلمين جميعاً، أي للأمة، لكل فرد من أفراد الأمة، ذكراً كان أو أنثى. فكل مسلم يملك حق السلطان، ويملك مباشرة هذا الحق كلما اقتضت مباشرته. وبهذا السلطان الذي تملكه الأمة تقيم عليها رجلاً واحداً لينفذ شرع الله، فتبايعه على الكتاب والسنة بيعة رضا واختيار منه ومنها. ويكون من ذلك بينه وبين الأمة عقد خلافة لا عقد إجارة. لأنه عقد لتنفيذ الشرع، لا عقد لخدمتها ولمنفعتها، وإن كان تنفيذ الشرع هو لخدمتها ولمصلحتها لأنه رحمة لها وللعالمين. إلا أن الذي يجب أن يلاحظ في العمل، والذي يجري عليه عقد الخلافة هو تنفيذ الشرع لا منفعة الأمة، فإذا تعارضت منفعتها العاجلة مع الشرع كان الشرع وحده الواجب التنفيذ، ولذلك إذا طلبت ترك حكم شرعي أجبرها الخليفة عليه، وإذا تركت الشرع وجب عليه قتالها حتى ترجع، فهو قد نصب لتنفيذ الشرع ليس غير. وأيضاً فإنه لا حق للأمة بعزل الخليفة كما تشاء، وإنما لها حق عزله في حالات معينة، وينعزل من نفسه ويخرج عن الخلافة في حالات معينة، ويجب قتاله في حالة واحدة هي إذا طبق غير الإسلام. فأمره ليس بيد الأمة وإن كانت هي التي نصبته، وإنما أمره بيد الشرع.

إلا أن السلطان الذي هو حق الأمة لا ينتهي بنصب الخليفة، بل يبقى السلطان لها دائماً، ويكون مظهره في حال وجود الخليفة بمحاسبته على أعماله في تطبيق الشرع، وفي رعاية شؤونها، بالأسلوب الذي تراه، في حدود أحكام الشرع. ويجب عليه أن يخضع لمحاسبتها، وأن يبين لها الحال التي تشكو منها وتحاسبه عليها. حتى لو شهرت السلاح عليه لا يحل له أن يقاتلها حتى يبين لها الشبة التي لديها، ووجه الحق الذي يراه.

هذا هو الحكم في الإسلام، وعلى هذا الأساس يقوم نظام الحكم. وهو لا يتفرع عنه أنواع للدول، بل هو نفسه شكل واحد. فهو نظام وحدة، لا نظام اتحاد. ويوجب إعلان القتال فوراً لحفظ نظام الوحدة، والقضاء على نظام الاتحاد. ولا توجد فيه أنواع للحكومات، بل لا توجد فيه حكومات. فالدولة والحكومة فيه شيء واحد، هو الخليفة والمعاونون. أما ما يتفرع عن ذلك من طريقة نصب الخليفة، ومن ضرورة ضمان الرضا والاختيار لكل مسلم في انتخاب الخليفة وبيعته، والتمكين للأمة فرداً فرداً من هذا الرضا والاختيار، فذلك قد جاءت به أحكام شرعية خاصة فيه، وعامة في كل عقد من العقود، ومنها عقد الخلافة. وهو وإن تشابه مع النظام الديمقراطي من حيث حرية الانتخابات، وحرية التصويت، وحرية القول، ولكنه لا يصح أن يلاحظ هذا الشبه، لأن ذلك في النظام الديمقراطي ناتج عن الحريات، وهنا ناتج عن شروط عقد الخلافة، وشروط كل عقد من العقود. وهو ـ أي الرضا والاختيار ـ إذا لم يتحقق في عقد الخلافة بطل العقد، ولا يكون الخليفة حينئذ خليفة شرعاً.

والفرق بين ضمان الحرية في الانتخابات وبين ضمان تحقق الرضا والاختيار في العقد هو أن الحرية حكم للناس، فإذا لم تتحقق لا تؤثر في صحة العقد، ولكن ضمان الرضا والاختيار هو حكم العقد، وليس حكم الناس. فإذا لم يتحقق فإن العقد يكون باطلاً ولا ينعقد. وهكذا جميع أفكار الإسلام هي مغايرة لأفكار الديمقراطية، وهي في نفس الوقت مغايرة للأرستقراطية والملكية، وبديهياً هي مغايرة للإمبراطورية. فإذا بحثت فيجب أن تبحث باعتبارها نظام حكم متميز عن أي نظام، وباعتبار انطباقها على واقع الحكم، ولكن لا أي حكم، بل على واقع حكم معين هو الحكم الذي يحكم به الإنسان حكماً واقعياً للبشر، على أعظم مستوى من القيم الرفيعة. أو باعتبار الأدلة الشرعية التي استنبطت منها هذه الأفكار في الحكم.

على هذا الأساس نطلب إلى القارئ أن يقرأ هذا البحث السياسي باعتباره بحثاً في نظام حكم متميز عن غيره كل التميز، غير متخذ أي مقياس لصحة أفكاره سوى انطباقها على واقع أسمى نظام من أنظمة الحكم التي يحكم بها البشر، أو انطباقها على الأساس الذي انبثقت عنه وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

تطبيق دستور الأمة الإسلامية


الخلافة ميراث النبوة


قناة الخلافة