كلمة الدكتور عثمان بخاش (أبو عبيدة)
مدير المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
في مؤتمر الخلافة السنوي – لبنان
30 رجب الفرد 1438هـ – 2017/04/27م
العنف الأعمى يخالف الطريقة النبوية في إقامة دولة الخلافة
بعد أن هدم الكفار دولة الخلافة، وبسطوا سلطانهم على بلاد المسلمين، وقاموا بتعطيل أحكام الدين، وفرضوا القوانين الوضعية والدساتير البشرية، كان من الطبيعي أن يتنادى المسلمون المخلصون للعمل على استئناف الحياة الإسلامية، فاختلفت المناهج والسبل فيما بينهم رغم أنهم أرادوا إعلاء كلمة الله وتطبيق شرعه.
فمنهم من رأى التغيير بالتدرج من داخل النظام الوضعي القائم، من خلال المشاركة في الانتخابات النيابية وعقد التحالفات السياسية المرحلية مع أحزاب غير إسلامية، ومنهم من انصرف لتصحيح العقيدة ومحاربة البدعة ونشر العلم الشرعي، ومنهم من ارتأى الجهاد هو السبيل لهدم النظم الطاغوتية وإقامة دولة الإسلام مكانها. وفي حديثي سأركز على هذا الرأي الأخير أي المنادي بأن الجهاد هو السبيل لإقامة دولة الإسلام.
ولن أتوقف كثيراً عند تفاصيل مسيرة الحركات الجهادية في مصر وما انتهت إليه (سنة 1997) من “مراجعات” انتهت فيها إلى التراجع عن نهجها السابق، بل وانقلب بعض قياداتهم إلى المناداة بحلول وسط مع النظام الوضعي القائم في مصر!
واقع الأمر أن هذا التعدد في المناهج في التغيير المنشود يعكس التعدد في فهم طبيعة الإسلام والنظام السياسي فيه.
نحن هنا لسنا بصدد تفصيل أحكام الجهاد فيما يعرف بجهاد الدفع وجهاد الطلب وقتال البغاة وغير ذلك من تفاصيل. وإنما نقصر حديثنا على تبيان النهج الشرعي في كيفية إقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة. ولا بد من التذكير بداية بأن الدولة هي كيان تنفيذي تقوم برعاية شؤون المجتمع والأمة بتطبيق الأحكام الشرعية المستمدة من الشريعة الإسلامية القائمة على العقيدة الإسلامية.
والعقيدة الإسلامية تقوم على شهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن الرسالة الإسلامية هي خاتمة الرسالات السماوية، فهي مهيمنة على ما سبقها من شرائع سماوية، وهي توجب على أتباع الرسل السابقين من يهود ونصارى أن ينضموا إلى ركب التوحيد، ولن يُقبل منهم في الآخرة غير ذلك.
فقوة الإسلام ضرورية لوجوده وانتشاره واطمئنان أهله على عقيدتهم، واطمئنان من يريدون اعتناقه على أنفسهم. وإقامة هذا النظام الصالح وحمايته. فلا بد للإسلام من نظام ولا بد للإسلام من قوة، ولا بد للإسلام من جهاد. فهذه طبيعته التي لا يقوم بدونها إسلام يعيش ويقود. وقد جاهد الإسلام ليقيم هذا النظام الرباني في الأرض ويقرره ويحميه. وكان من حقه أن يجاهد ليحطم النظم الباغية التي تقوم على عبودية البشر للبشر، والتي يدّعي فيها العبيد مقام الألوهية ويزاولون فيها وظيفة الألوهية – بغير حق – ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾.
وما يزال هذا الجهاد لإقامة هذا النظام الرفيع مفروضاً على المسلمين: ﴿حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ للهِ﴾. لم يحمل الإسلام السيف إذن ليُكرِه الناس على اعتناقه عقيدة، إنما جاهد ليقيم نظاماً آمناً يأمن في ظله أصحاب العقائد جميعا، ويعيشون في إطاره خاضعين له وإن لم يعتنقوا عقيدته. ﴿لَا إِكْرَاهَ فِيْ الدِّينِ﴾.
فمن حق الإسلام، بل هذه مهمته، أن يُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده وتحرير الناس أجمعين… وعبادة الله وحده لا تتحقق – في التصور الإسلامي وفي الواقع العملي – إلا في ظل النظام الإسلامي، فهو وحده النظام الذي يشرع الله فيه للعباد كلهم، حاكمهم ومحكومهم، أسودهم وأبيضهم، قاصيهم ودانيهم، فقيرهم وغنيهم، تشريعاً واحداً يخضع له الجميع على السواء… أما في سائر الأنظمة، فيعبد الناس العباد، لأنهم يتلقون التشريع لحياتهم من العباد. ومن ثم يتحتم على الإسلام أن يزيل هذه الأنظمة بوصفها عقبات وقيوداً تمنع الناس من التعرف إلى رسالة الإسلام؛ وهذا معنى أن يكون الدين كله لله، فلا تكون هناك دينونة ولا طاعة لعبد من العباد لذاته، كما هو الشأن في الأنظمة الوضعية.
فالمسألة هنا أن الجهاد شرع لغاية معينة محددة، وليس هو غاية بحد ذاته.
والناظر في تاريخ التشريع الإسلامي يجد أن الرسول ﷺ لم يؤذَن له بالقتال وهو في مكة، أي قبل التمكين وإقامة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وإنما شرع الجهاد بعد الهجرة وبعد أن وُجد للمسلمين كيان ذو سلطان وذو شوكة. فالإسلام شرع الجهاد لتحطيم الكيانات المادية التي تحول دون أن يعيش الناس في ظلال الشريعة الإسلامية بعيداً عن قيود القمع والكبت والنظم الوضعية التي تستعبد الناس بغير وجه حق، إذ تضع الإنسان محل الرب خالق السماوات والأرضين، فتحل وتحرم وتشرع ما يخدم أهواء واضعيها وما تتفتق عنه عقولهم القاصرة المتناقضة.
ونجد من دراستنا للسيرة النبوية المطهرة أن الرسول ﷺ لم يلجأ للقتال لإقامة الدولة الإسلامية، ورغم كل أساليب كفار قريش في الصد عن سبيل الله والبطش بالمسلمين وإيذاء النبي ﷺ وصحبه الأبرار، حتى وصل الأمر أنه أذن لبعضهم بالهجرة إلى أرض الحبشة فراراً بدينهم، ولم يزد على أن قال لآل ياسر: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة»؛ وهكذا فالناظر في هديه ﷺ في حمله للدعوة في مكة المكرمة يجد أنه لم يلق بالاً لإصرار قريش على الصد عن سبيل الله وما أنزلته من صنوف العذاب والكيد به وبالمسلمين، بل مضى ثابتاً مؤيداً بالوحي الرباني لا يتزحزح عنه قيد أنملة، حتى أثمرت الدعوة التي انتشرت في الآفاق فاحتضنها أهل يثرب ونصروا دين الله فقامت الدولة الإسلامية الأولى في المدينة المنورة.
بل وحتى في بيعة العقبة الثانية نجد أن العباس بن عبادة بن نضلة يقول للرسول: والذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلن على أهل منى غدًا بأسيافنا، فكان جوابه ﷺ: «لم نؤمر بذلك، ولكن ارجعوا إلى رحالكم».
أما من نادى بالجهاد لإقامة الدولة الإسلامية فنجدهم يتناقضون فيما بينهم، ويتناقضون مع الأحكام الشرعية. فتعريف الجهاد في الشريعة أنه بذل الوسع في قتال الكفار لإعلاء كلمة الله. وهذا لا يشمل قتال المسلمين. فنجد التنظيمات الجهادية تلجأ إلى استصدار فتاوى لتضفي المشروعية على استحلال دماء المسلمين أو غير المسلمين، أو استباحة ضرب الممتلكات الخاصة كما حصل في مصر مثلا، أو نجد بعضهم يخترع تنظيرات بالعودة إلى فتوى التترس لابن تيمية رحمه الله لاستباحة استهداف موظفي الدولة، ثم بعد طول معاناة ومكابدة يعترفون بأن المنهج الذي ساروا عليه كان خاطئاً فيتراجعون عنه بعد أن سالت الدماء وانتهكت الحرمات. وقد أثبتت الوقائع كيف أن أجهزة المخابرات اخترقت كثيراً من هذه التنظيمات سواء في الجزائر أم في مصر أم غيرها، فيقوم عملاء المخابرات بارتكاب الموبقات تحت زعم العمل الجهادي، ما أدى إلى نفور كثير من الناس من الدعوة إلى تطبيق الشريعة حين وجدوا أن السبيل إلى تطبيقها يمر عبر أنهار من الدماء والأشلاء وقتل الأبرياء.
ثم يصل الأمر ببعضهم إلى الحكم بردة المسلمين لتبرير قتلهم، ثم التفنن في أساليب القتل الوحشي بشكل لم يُعرف لا عن رسول الله ﷺ ولا عن صحابته الكرام رضوان الله عليهم.
فنحن نجد رسول الله ﷺ يمنّ على أهل مكة بعد أن مكّنه الله من رقابهم بالفتح، فأطلق سراحهم، ونجد وصية الخليفة أبى بكر الصديق لجنود الإسلام قبل فتح بلاد الشام بقوله: (لا تخونوا ولا تَغُلُّوا، ولا تَغدِروا ولا تُمَثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيرًا، ولا شيخًا كبيرًا، ولا امرأة، ولا تَعقِروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مُثمِرة، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرة ولا بعيرًا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرَّغوا أنفسَهم في الصوامع، فدَعُوهم وما فرَّغوا أنفسهم له).
فما بال هؤلاء القوم لا يتوانون عن تكفير المسلمين بالجملة باعتبارهم مرتدين، فيستبيحوا دماءهم وأموالهم وأعراضهم؟ لا بل وصل الأمر بهم أن تناحروا فيما بينهم، فشهروا السلاح على “إخوة المنهج” بعد أن استباحوا دماءهم. فهل مثل هؤلاء يحمل الإسلام رسالة رحمة وعدل للعالمين؟! وهل بمثل هذه الممارسات الهوجاء اقتنع الناس في البلاد التي فتحتها جيوش المسلمين بعدل الإسلام ورحمته فدخلوا في دين الله أفواجا؟!
بينما نحن نجد في الحديث الصحيح:
«عن أنس أن غلاما من اليهود كان مرض فأتاه النبي ﷺ يعوده فقعد عند رأسه فقال له أسلم فنظر إلى أبيه وهو عند رأسه فقال له أبوه أطع أبا القاسم فأسلم فقام النبي ﷺ وهو يقول الحمد لله الذي أنقذه بي من النار». فالرسول ﷺ سُرّ أيما سرور بإنقاذ ذاك الغلام من النار. فأين هدي الرسول من هؤلاء القوم؟
يشهد تاريخ المسلمين أن دولة الخلافة صنعت تاريخاً مشرقاً امتلأت صفحاته بالإنجازات في شتى الميادين، في القيادة والرعاية، وفي العلم والمدنية، فكانت أرض الإسلام أرض القادة والعلماء، أرض العدل والخير، ينعم بعدل الإسلام ورحمته في ظل الخلافة، المسلمون وغير المسلمين، في زمن كانت تعيش فيه أوروبا في عصر الظلمات، يقتل أبناء الملة الواحدة بعضهم بعضا، ولا يجد من يهرب منهم ملجأ ينعم فيه بالأمن والأمان والرعاية والإحسان غير أرض الخلافة الإسلامية، بين المسلمين وتحت حكم الإسلام! فحين قامت الكنيسة بعقد محاكم التفتيش في الأندلس لم يجد اليهود ملاذاً خيراً من بلاد المسلمين فهاجروا ليقيموا بين ظهراني المسلمين.
خلاصة الأمر أن العنف الأعمى الأهوج لا يقوم على فهم سليم لا لرسالة الإسلام ولا لأحكامه الشرعية التفصيلية، بل هو يخالف هدي الرسول الأكرم ﷺ في الطريقة لإقامة الدولة الإسلامية التي يجب أن تكون على منهاج النبوة. فلا بد من إقامة الحكم على الفكرة الإسلامية، وهذا يعني إفهام الأمة أو الفئة الأقوى في الشعب الفكرة المراد إنهاض الأمة عليها وجعلها تبني حياتها عليها وتتجه في معترك الحياة على أساس الفكرة، وحينئذ يقوم الحكم عن طريق الأمة وكسب أهل القوة (أهل النصرة) القادرين على إقامة الدولة وحمايتها مما قد تتعرض له من أخطار وتهديدات على هذه الفكرة، وبذلك تعود أمة الإسلام خير أمة أخرجت للناس وتتسنم دور الشهادة على الناس حين تحمل الإسلام رسالة عدل ورحمة وتسير جيوش المسلمين لإخراج الناس من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام.
وحين التدقيق في منهج النبي وتطبيقه في واقعنا اليوم نجد أن طبيعة الدول القائمة اليوم تستند إلى قوى عسكرية مادية هائلة، فلا سبيل إلى التغلب عليها عن طريق إنشاء جماعات مسلحة مهما أوتيت من صدق عزيمة وإخلاص، فحسم الصراع المادي يتطلب قوى مادية لا تتوافر للأفراد؛ وقد أثبتت الوقائع الجلية أنه لم تنجح حركة جهادية في مبتغاها، كما أثبتت سهولة اختراق أجهزة المخابرات لهذه التنظيمات وتسخيرها لمآربها. ومع سهولة توافر القوة المادية للصحابة الأبرار نجد أن الرسول ﷺ تجنب اللجوء إلى الصدام المادي وأصر على كسب قوى النصرة الحاسمة القادرة على حماية كيان الدولة الوليد.
وأختم بالقول إن كل ما ذكرته لا يعني بوجه من الوجوه سكوتنا عن الحملة الإجرامية التي يقودها حلف الكفار شرقاً وغرباً الذين تكالبوا على أمة الإسلام فاستباحوا بلادنا وأجواءنا وبحارنا معطين لأنفسهم ذريعة محاربة (الإرهاب)، والذي لا يعنون به إلا محاربة الإسلام والمسلمين، يساعدهم في ذلك حكام المسلمين الذين لا يقلّون إجراماً عنهم. فالحاكم الذي يفترض به أن يكون راعياً مسؤولاً عن رعيته إذا به ذئبٌ مفترسٌ لا يستحي من الله ولا من عباد الله حين يتحالف جهاراً نهاراً مع قوى الكفر ضد أمته، حتى وصل الأمر بحكام المغرب والجزائر أن يهينوا معاملة اللاجئين الفارين من جحيم الحملة الصليبية في سوريا، هذا دون الحديث عما يقوم به حكام الأردن وإيران وتركيا وسواهم من المكر ضد أهلنا في الشام.