في ذكرى هدم الخلافة
طوبى لمن جدد ذكراها العطرة فينا
قبض الله في السنوات الأخيرة عددا من رجالات الرعيل الأول من شباب حزب التحرير، وفي كل مرة أقرأ فيها نعي المتوفى أشعر بغصة على رجال عاشوا بيننا ورحلوا في صمت دون أن تعرفهم الأمة وتصلي عليهم الحشود وينادى لصلاة الغائب عليهم في أصقاع الأرض. ننعاهم وننعى لأنفسنا سوء حالنا وتضليل الرأي العام في بلاد المسلمين وإشغاله بسفاسف الأمور.
نعم أنعاهم، رحمهم الله، وأدعو لهم ولمن خلفهم وسار على دربهم بظهر الغيب ولو أن مثلي لا تعرف عن هذه الهامات (ولا نزكّي على الله أحدا) سوى أقل القليل، ولا تعرف عنهم سوى ما نقل عنهم من تضحية وثبات على حمل الدعوة حتى شاخوا وهم الشباب في همتهم. قلت إني لا أعرفهم بإنجازاتهم وصولاتهم وجولاتهم ولم يكونوا ممن يعمل ليُعرف أو ممن يصدع بعمله ولكن يكفيني أني أعرفهم بالفكر الذي حملوه في زمن صعب، أعرفهم بالدعوة إلى الخلافة الراشدة على منهاج النبوة وأنهم أطلقوا نداءً حاراً للأمة لتنفض عنها ما علق بها وتتمسك بالإسلام عقيدة وشريعة وأن تتبنى الخلافة كقضية مصيرية تهون دونها المهج، أعرفهم ويعرفهم العالم باقتران اسمهم باسم الخلافة.
إن الخلافة التي عملوا لها هي فرض ربنا وبشرى نبينا، هي الحكم الراشد الذي يطبق شرع الله ويحمي بيضة المسلمين ويعيد للأمة هيبتها وينشر الإسلام للعالم. هذه الخلافة ستعيد للأمة مفهوم الحاكمية لله الواحد القهار فلا يطبق المسلمون أحكاما تنافي شرع خالقهم ولا يستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير. والخلافة ليست دويلة كرتونية من مخلفات الكافر المستعمر، بل هي كيان مستقل قولا وفعلا أمانُه بأمان المسلمين يكون السلطان في أيدي المسلمين يختارون منهم من يطبق الإسلام كنظام للدولة ويحق لهذا الحاكم الذي تختاره الأمة أن يتبنى من الأحكام الشرعية.
ها نحن نعيش الذكرى السادسة والتسعين لهدم الدولة الإسلامية في عام 1924م وبلاد المسلمين مستباحة أرضا وجوا ومستهدفة سياسيا وثقافيا واجتماعيا والأمم تتكالب علينا كما تتكالب الأكلة على قصعتها. يقول الإمام النووي في شرح صحيح مسلم عند شرحه لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم: «الإمام جنة يقاتل من ورائه ويتقى به»: (قوله صلى الله عليه وسلم: الإمام جنة، أي كالستر لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويمنع الناس بعضهم من بعض ويحمي بيضة الإسلام، ويتقيه الناس ويخافون سطوته. ومعنى: يقاتل من ورائه، أي يقاتلُ معه الكفار والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقاً). وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر، ما أحوجنا اليوم في ذكرى هدم الخلافة لهذا الإمام الجنّة.
لقد أيقنت هذه الشخصيات الفذة أن الخلافة فرض فتلبسوا بالعمل لإقامة هذا الفرض وأدركوا أن تحقيق هذا الهدف يستوجب العمل في إطار كتلة فتبنوا أفكارا من الثقافة الإسلامية تعينهم على الوصول لهذا الهدف وعملوا مع حزب إسلامي. ولا شك أن العمل الفردي أسهل على النفس من العمل في إطار جماعة لما يقتضيه العمل الجماعي من مجاهدة للنفس وتطويع للهوى وإنكار للذات وطاعة واعية، وعلى قدر هذه المشقة يكون الأجر بإذن الله. بارك الله في من كرس نفسه لنصرة الإسلام وخدمة الأمة وحافظ على العهد مع الله، طال به المسير وزاده التقوى يستعين على وعثاء السفر وكآبة المشهد باليقين بنصر الله وأن الله لا يخلف وعده. اللهم لا تفتنا بعدهم واجعلنا من شهود هذا النصر الرباني وأقر أعين العاملين لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة.
نعم هم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه (نحسبهم كذلك والله حسيبهم)؛ لم تثنهم الصعاب ولم يرهبهم بطش الطغاة وتفنن الزبانية في التنكيل، ولا ضيق الحال والبعد عن الأهل والخلان، بل كان لسان حالهم في المحن «عجبا لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له»، وقد فتح الله لنا في محنتهم باباً للخير فعبروا بالدعوة للخلافة البحار والمحيطات وبلّغوا عن رسول الله وعن صحابته الغر الميامين وعن المخلصين من علماء الأمة وشرحوا للمسلمين أينما وجدوا أن الإسلام عقيدة وشريعة والدين أس والسلطان حارس وأن شرع الله معطل في غياب دولة تطبق أحكامه وتقيم الحدود وما أدراك ما تطبيق حدود الله «حَدٌّ يُعْمَلُ بِهِ فِي الْأَرْضِ، خَيْرٌ لِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ أَنْ يُمْطَرُوا أَرْبَعِينَ صَبَاحًا». وأن هذا المبدأ العظيم هو طوق النجاة للبشرية جمعاء. نعم لقد جعل الله في وصول دعاة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لبلاد المشرق والمغرب بلسماً لأجيال من المسلمين فحفظ الله بهم هوية المسلمين في الغرب وربطتهم الدعوة بأبناء المسلمين في بلاد بعيدة بالأمة الإسلامية وقضاياها المصيرية وكان لهم سهم كبير في إفشال عملية صهر المسلمين في المجتمعات الغربية ودعوات الاندماج التي لم تهدف لشيء غير إدراج الإسلام كهوية ثقافية لا تؤثر على حياة المسلم في الغرب.
هنيئا لنا بهذه الزمرة الطيبة التي نشرت الخير أينما حلت فتلاشت المسافات بين مسلمي طشقند ونواكشوط والقدس وقندهار وبين مسلمي قرى تنزانيا وجزر إندونيسيا وإخوانهم المقيمين في عواصم الغرب، تفصلنا المسافات واللغات ويجمعنا فكر واحد وغاية حددها الشرع وأخوة في الله. نعم لا زلنا غرباء وأيتاماً بدون تطبيق شرع الله ولكن هذه الدعوة بصدقها ونقائها ووضوح معالمها عززت الثقافة الإسلامية فينا فردت غربتنا عن ديننا وربطتنا بأمتنا العظيمة نألم لمصابها ونعمل لنصرتها ونعتز بإسلامنا ونتيه على العالم بديننا العظيم. فالحمد لله على نعمة الإسلام وكفى بها من نعمة.
حُق لدعاة الخلافة وبخاصة السابقون منهم أن نذكرهم وندعو لهم فقد عملوا لنصرة هذا الدين ورفضوا أن تنحني الجباه إلا لخالقها. نفضوا الأتربة عن الجذور فأينعت الأغصان وأتى من بعدهم من ألهبته فكرة الإسلام العظيم بدولته العزيزة القوية المهابة وبات الشباب المسلم بفضل الله ينظر لما هو أبعد من الصخب الإعلامي والحروب النفسية والغوغاء من حوله ويرى نصر الله قادما لا محالة. ومع طول الطريق واشتداد المحن تركز يقين من عمل للتغيير على بصيرة مقتدياً بهدي الحبيب المصطفى واستذكر من سيرته العطرة ما يحفزه على التقرب إلى الله وحشد الهمة. ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾.
طبتم أحياءً وأمواتاً يا دعاة الخلافة والله معكم ولن يتركم أعمالكم فقد انحزتم لشرع الله وسعيتم لنصرة أمةٍ بشرها الله بالسناء والرفعة والتمكين في الأرض. انحزتم للحق في سنوات خداعات ترون فيها غيركم لا يفرق بين الحق والباطل، يهادن تارة ويتلوّن أخرى فيكون ممن عمل عمل الآخرة للدنيا ولم يكن له في الآخرة من نصيب! والعياذ بالله.
طوبى لكم يا أحباب رسول الله وربح البيع بإذن الله فقد بلغت هذه الدعوة أصقاع الأرض ووصلتنا نقية إسلامية صرفة لا يبتغى بها عرض الدنيا الفانية بل يراد بها وجه الله القدير وجنات عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين. بدأت هذه الدعوة في عام 1953م وكلما مرت السنون ازداد حملتها إصراراً عليها وتعنّت أعداؤها في محاربتها والتنكيل بمن يحملها. يسجنونهم وينصبون لهم الأخدود ويخطفونهم ويروّعون أسرهم تارة ويبهتون حملة الدعوة تارة أخرى ثم يقولون إن دعاة الخلافة حفنة من الحالمين! ولكن الله يفضح من ينكر هذه الدعوة ويسخر منها ويدعي أن لا أثر لها، بينما يأمر إعلامه المأجور بالتعتيم على أعمال المخلصين من أبناء الأمة ويجند أقلام المرتزقة لمحاربتهم. وكيف يحاربون فكرة آن أوانها… أيحجبون الشمس بغربال؟!
وختاماً نقول: عذرا أيها الكرام فلم نُوَفِّكم حقكم ولا نملك لكم سوى الذكرى العطرة والدعاء الخالص بظهر الغيب. نسأل الله العلي القدير أن يجزي الرعيل الأول من حملة الدعوة عنا وعن المسلمين خير الجزاء وأن يرحمهم ويكرم نزلهم وأن يحشرهم مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا.
﴿إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ﴾
كتبته للمكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
هدى (أم يحيى بنت محمد)