كيف خطط الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية؟ – الجزء الثاني
كيف خطط الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية؟ – الجزء الثاني
تحدثنا في الجزء الأول عن تخريب ما هو قائم في الدولة العثمانية والحؤول دون عودة الروح إليه، وكيف أن بقاء الدولة العثمانية مع ضعفها لم يكن الأولوية الأولى للغرب وختامًا تحدثنا عن محاولة نزع الخلافة الإسلامية من السلطنة العثمانية.
الحرب بين التغريب والغرب
أوروبا لم تكن سعيدة بالتغريب العثماني المستقل وفضلت مصالحها الآنية على رعاية تلاميذها مما أدى إلى الحرب بين التغريب والغرب.
هذا الزحف التدريجي اتخذ صورة عنيفة مع انفجار الحرب الكبرى الأولى سنة 1914، مع أن وصول مدرسة التغريب المتمثلة في حزب الاتحاد والترقي إلى الحكم سنة 1909 بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد، بشر بانسجام بين الغرب والمعارضة العثمانية السابقة التي رعاها الغربيون في بلادهم والبلاد التي تحت حكمهم، وقد حاول الحكام الجدد مد يد السلام إلى القوى الغربية وقدموا لها بلادهم على طبق من ذهب، ولكن أوروبا كانت أكثر اهتماماً بمصالحها منها برعاية التغريب الديموقراطي في الدولة العثمانية وأثبتت طمعها بأرض العثمانيين الدستوريين الديمقراطيين كطمعها بأرض الاستبداد الحميدي، مما دمر إمكانات التطور الديمقراطي في الدولة العثمانية كما يقول المؤرخان شو .
وفي ذلك يقول مانسفيلد:
“على الرغم من نظر بريطانيا وفرنسا بعين العطف والاستحسان لثورة الأتراك القوميين الشباب، فإنهما لم تكونا على استعداد لتقديم أية ضمانات إقليمية لموقع تركيا المتبقي في أوروبة في ضمن الولايات البلقانية ضمن نطاق الإمبراطورية التركية” .
ويقول كواترت:
“وقد أدرك الساسة العثمانيون أن اتخاذ الدولة العثمانية موقفاً محايداً في هذه الحرب لن يكون في مصلحتها وذلك لأن الطرف المنتصر سيعمد لا محالة إلى تجزئة الدولة العثمانية” .
ولأن الحلفاء كانوا يطمعون في الأراضي العثمانية فضلاً عن احتلالهم الفعلي لأجزاء كبرى منها؛ قرر الساسة العثمانيون دخول الحرب إلى جانب ألمانيا حين خطت الدولة العثمانية بدخولها الحرب خطوة مصيرية هدفت إلى تحرير نفسها من كل القيود التي فرضتها حالة الضعف عليها كسوء استخدام الامتيازات الأجنبية والديون، والعودة إلى مكانتها السابقة بين الكبار، واستعادة كل ما سُلب منها من أقطار وحماية نفسها من مزيد من الغزو .
ورغم الانتصارات التي حققتها جيوش الخلافة في هذه الحرب على جبهات إسطنبول والعراق وفلسطين والحجاز والقوقاز والبلقان؛ كانت النتيجة النهائية في غير صالحها، ويلاحظ المؤرخون أن الحرب الكبرى أصبحت نقطة تحول في السياسة الغربية تجاه الدولة العثمانية، وفي ذلك تقول موسوعة التاريخ والحضارة إن الحلفاء اغتنموا ظروف الحرب لتقسيم السلطنة ووضع نهاية للمسألة الشرقية وتم وضع المشاريع التقسيمية، وكان لبريطانيا الدور البارز فيها وكانت محور السياسات والاتفاقات السرية المتناقضة أحياناً، وإنه منذ دخول السلطنة العثمانية الحرب؛ بدأت المشاورات السرية لتقسيمها ، وهو ما يؤكده المؤرخ يوجين روجان بقوله:
إنه لم تكد الإمبراطورية العثمانية تدخل الحرب إلى جانب ألمانيا حتى بدأت قوات الحلفاء التخطيط لتقسيمها بعد الحرب .
الخوف من الخلافة العربية
وكانت بريطانيا تراسل الشريف حسين “والفرنسيون يحذرون من قيام دولة عربية كبرى، خوفاً على مصالحهم في شمال إفريقيا-أي تونس والجزائر والمغرب-كما يخافون على مستقبل مصالحهم في شرق المتوسط، وكذلك كان الإنكليز يخافون من قيام دولة عربية كبرى ولو تظاهروا بالموافقة على قيام هذه الدولة” كما يقول الدكتور وهيب أبي فاضل.
ولهذا لم يعترف الحلفاء بهذه الخلافة العربية بعد قيامها في أعقاب إلغاء الخلافة العثمانية رغم كونهم من شجعوا الدعاية لها سابقاً لطعن شرعية العثمانيين بها وحاولوا زمناً أن يستغلوا إحياء المنصب لصالحهم إلا أن جميع المحاولات باءت بالفشل، وهو ما يؤكد حرص الغرب على إبقاء منطقتنا ضعيفة تحت هيمنته دون قوة ذاتية بغض النظر عمن يحكمها.
ولهذا عارضت الدول الكبرى قيام الخلافة العربية رغم تعهداتها لحلفائها العرب واتفقت مع مصطفى كمال على إنهاء الخلافة العثمانية رغم العداوة الظاهرة بين الطرفين الكمالي والأوروبي، وإن هذا الإصرار على مقاومة إحياء الخلافة حتى في الحجاز لا يمكن أن يفسر بمجرد ضعفها أمام الأطماع الروسية لأن الدول التي قامت على الأنقاض العثمانية لم تكن أكثر قوة منها، كما أن روسيا نفسها أصبحت من معسكر الحلفاء ضد دول الوسط وصارت الدولة العثمانية عائقاً في وجه وصول الدعم الغربي إليها في الحرب الكبرى الأولى ، ولهذا توجب البحث عن السبب في إلغاء الخلافة في مكان آخر ستفصح عنه الوثائق كما سيأتي.
وفي هذا الموضوع تقول موسوعة السياسة إن هذه الحرب كانت فصل الختام في حياة الإمبراطورية العثمانية، فبعد أن مكثت حاجزاً، حقيقياً أو شكلياً، في وجه أطماع أوروبا الاستعمارية عدة قرون، جاءت الفرصة عندما تحالفت مع ألمانيا والنمسا ضد الحلفاء، فقرروا الانتقال من مرحلة المحافظة على ضعفها ووراثتها بالتدريج إلى مرحلة اقتسام بقايا أملاكها والإجهاز عليها مرة واحدة، وكانت اتفاقية سايكس-بيكو سنة 1916 إطاراً لهذا المخطط الجديد، الذي توج بانتزاع كل أملاك الدولة العثمانية في آسيا بموجب معاهدة سيفر، وذلك عندما انتصر الحلفاء سنة 1918، ثم قام كمال أتاتورك (1298-1357 هجرية ، 1880-1938 م) بإنقاذ الوطن الأصلي للأتراك، وأراد انتزاع عداء أوروبا وإزالة مخاوفها، فأدار ظهر دولته التركية الحديثة لماضي العثمانيين الإسلامي… وأعلن إلغاء الخلافة رسمياً ونهائياً في 3 آذار-مارس 1924 م.
وفي سبيل استرضاء أوروبا قدم لها أتاتورك ما رغبت به في معاهدة سيفر التي وصفت بالمذلة ومع ذلك تم تطبيقها على كل الأراضي العثمانية بما في ذلك المصادقة على وعد بلفور في فلسطين مقابل استثناء تركيا وحدها ، وقد أفصح ضابط المخابرات التابعة للجيش البريطاني لورنس العرب من ميدان المعارك التي انهمك فيها ضد الدولة العثمانية عن الأهداف الحقيقية لبلاده في هذه الحرب.
الصمود العثماني الأخير وعلاقته بإنهاء الخلافة
ولكن بقاء الكيان العثماني الموحد حمل في طياته خطر عودة الروح إلى هذا المجال الهائل، فبريطانيا لم تغفل يوماً عن خطر السيادة الدينية للخليفة العثماني على ملايين المسلمين الذين يحكمهم الاستعمار البريطاني، ولكنها أجلت مواجهة هذا الخطر لتواجه خطر سقوط الدولة العثمانية وما سيعقبه من فوضى دموية بين الذئاب الأوروبية في المنافسة على اقتسام التركة.
وبعدما تغيرت الظروف باندلاع الحرب الكبرى واللجوء إلى القوة العسكرية لحل الخلافات الأوروبية بين الأعداء والاتفاقيات والمساومات السرية مع القوة العسكريةلحل الخلافات بين الحلفاء أولاً ، وانضمام روسيا إلى الحلفاء ثانياً ثم قيام الثورة البلشفية التي أسقطت الحكم القيصري وتدخل الغرب عسكرياً لإسقاطها ثالثاً؛ لم يعد الخطر الروسي هو المحرك لفكرة التخلي عن بقاء الدولة العثمانية، واستجد مكانه الخطر الألماني الذي لاحظ لورنس العرب وغيره أنه نقل فاعلية الخطر العثماني إلى مستوى أكبر مما سبق كما سيأتي في رسائله السرية، ولكن العثمانيين لم يكونوا مجرد أدوات بأيدي الألمان وكان لهم جدولهم ومصالحهم الخاصة.
وقد أفصحت نتائج الحرب عن إدراك الحلفاء ذلك إذ لم ينل الخطر الألماني من التصدي والمواجهة ما نالته الدولة العثمانية، وعن مكانة العثمانيين في هذه الحرب تقول الدكتورة تهاني عبد الرحمن:
” ولم تكن الدولة العثمانية في ذلك الوقت تقع في مصاف الدول الصغرى، رغم كل ما فقدته في فترات ضعفها واضمحلالها، من ولايات تابعة، بل كانت تُعد دولة كبرى، ومن ثم حرصت ألمانيا على جرها للصراع الدائر فوق أرض القارة الأوروبية”
ورغم تردد دول الوسط في ضم العثمانيين في البداية وخشيتها من تحولهم إلى عبء عليها فقد أثبت الجيش العثماني فعالية لم يتوقعها أحد ، وفي ذلك يقول المؤرخ بيتر مانسفيلد:
“عندما اندلعت الحرب، ورغم عدم شك معارضي تركيا ببسالة وإقدام وشجاعة الجنود الأتراك في الحروب، فإنهم فوجئوا بأدائهم المتطور وازدياد معارفهم في فنون القتال كما أن جاهزيتهم العالية في خوض الحروب الحديثة فاقت التوقعات”
وستفصح الوثائق الغربية عن حقيقة النوايا تجاه الخطر الإسلامي، وبعد إلغاء الخلافة العثمانية نفسها ومحاولة إحياء الخلافة العربية سنجد استمرار المعارضة الغربية لهذا المشروع الذي رعته دول أوروبا بأنفسها في البداية.
ويظل النقاش بعد ذلك على ما سمي شروط كيرزون الأربعة الخاصة باشتراط إلغاء الخلافة في مؤتمر لوزان سنة 1923 ومحاولة إثباتها مقابل نفيها مما لا طائل منه، لأن مصطفى كمال تشرب الأهداف الغربية وتبناها-كما فعل غيره من دعاة النهوض عن طريق استرضاء الغرب-ونفذها من تلقاء نفسه ولا حاجة لإثبات أنه تلقى أمرًا بذلك في عرض مسرحي أو لم يتلق، فما هو مثبت أنه تبني وجهة نظر العدو وهذا أسوأ من تنفيذ أوامره بالإكراه.
الصلات الموضوعية التي ربطت بين الحكم الكمالي والغرب الأوروبي
لا يغيب عن ملاحظة المؤرخين الصلات الموضوعية التي ربطت بين الحكم الكمالي والغرب الأوروبي: ذلك أن النظام الدولي الجديد الذي أنشأته الدول الكبرى في منطقة الشرق العثماني بعد الحرب الكبرى قام على أساس إنهاء الدولة العثمانية وتقطيع أوصال البلاد العربية، وقد تعاون الكماليون مع الغرب في النقطتين معًا: بإلغاء الخلافة وبالتنازل عن الأملاك العربية للدولة العثمانية وهو أمر كان ذا أهمية قصوى للحلفاء المستعدين للانقضاض على أملاكها كي يرتبوا تقسيمها فيما بينهم بشكل قانوني يمنع التنازع فيما بينهم، ولهذا قال وزير الخارجية البريطاني اللورد كيرزون في برقية إلى اللورد اللنبي في مارس 1920:إن نظام الانتداب يقتضي أن تعترف الدولة التي كانت صاحبة السيادة على إقليم بتنازلها عنه، فلم يكن من الغريب بعد ذلك أن تؤيد الدول الكبرى النظام الكمالي الجديد كما يقول كواترت.
كيف خطط الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية؟ – الجزء الأول
كيف خطط الغرب للقضاء على الخلافة الإسلامية؟ – الجزء الثالث