البيعة لخليفة المسلمين – ح4
البيعة لخليفة المسلمين
ح4
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف المرسلين, سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, ومن تبعه وسار على دربه, واهتدى بهديه, واستن بسنته, ودعا بدعوته واقتفى أثره إلى يوم الدين, واجعلنا معهم واحشرنا في زمرتهم, برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا سهل إلا َّ ما جعلته سهلا , وأنت إذا شئت جعلت الحزن سهلا . اللهم لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.
ربِّ اشرح لي صدري, ويسِّر لي أمري, واحلل عقدة من لساني, يفقهوا قولي.
أحبتنا الكرام: أحييكم بتحية الإسلام, فالسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته وبعد:
كنا قد تحدثنا في الحلقة السابقة أنه بعد وَفـَاةِ النـَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أظلمَتِ الدُنيـَا فِي عُـيُون الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنهُمْ خاصة مع تزاحم الفروض عليهم ومَعَ ذلكَ أحسَنـُوا التـَّصَرُّفَ, وأول ما انشغلوا به هو تـَنصيبِ خـَليفـَةٍ لِـرَسُول ِ اللهِ يَخـْـلـُـفـُهُ عَـليـهِ الصَّــلاة ُ وَالسَّــلامُ فِي رئاسَــةِ الدَّولـَـــةِ الإسلاميَّــةِ.
انشـَغـَلـُوا بمُبـَايَعَةِ الخـَليفـَةِ لأنـَّه الفرْضُ الأهَمُّ فِي إجمَاعِهمْ بَيـنَ تـِلكَ الفـُرُوض ِ كـُـلــِّهَا .
وفي هذه الحلقة سنبين كيف انتقلت الخلافة إلى أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وأرضاه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
فـَعَـلى إثر ِ وَفـَاةِ الرَّسُول ِ صلى الله عليه وسلم اجتـَمَعَ نـَفـَرٌ كـَبيرٌ مِنَ الأنصَار ِ فِي سَـقـِيفـَةِ بـَنـِي سَاعِدَة َ لـِيُبـَايـِعُوا سَعدَ بنَ عُبـَادَة َ.
عَـلمَ أبُو بَكر ٍ الصديق بالأمْر ِ, فـَذهَبَ إليهمْ وَمَعَهُ عُمَرُ بنُ الخـَطـَّابِ وَأبُو عُـبيدَة َ عَامِـرُ بنُ الجَرَّاح ِ رضي الله عنهم أجمعين.
لـَمْ يُسَارع ِ الصِّديقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لـِيَحتـَجـِزَ الخِلافـَة َ لِنفسِهِ, وَإنـَّمَا سَارَع َ لـِيَـكـُفَّ الفِتـنـَة َ وَلـِيَـكبَحَ جـِمَاحَ الطـَّائِفيـَّة حَيثُ وَقـَفَ مَنْ يـَقـُولُ: يَا لـََلأنصَار ِ! وَمَنْ يـَقـُولُ: يَا لـَـلمُهَاجـِرينَ!
لـقـَدْ سَـلــَـكَ الصِّديـقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ مَعَ المُسلمينَ الطـَّريقَ الأمثـلَ لاختيـَار ِالخـَـليفـَةِ الذي يَستطيعُ أنْ يَملأ الفـَرَاغ َ الذي كانَ يَملؤهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم.
وَاجَهَ أبُو بَكر ٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ الجَمعَ المُحتـَشِدَ فِي أنـَاة. كـَانـَتْ كـَلِمَاتُ القـَوم ِ تـَتطـَايَرُ كالرَّصَاص ِالطـَّائِش ِ. كانَ نـَاسٌ مِنَ الأنصَار ِ يُحَرِّضُونَ الأنصَارَ عَـلى التـَّـشـَبـُّثِ بالخِلافـَةِ بأسلـُوبٍ جَادٍّ وَلاهِبٍ , وَكانَ هـُناكَ مُهَاجرُونَ يَرفـَعُونَ أصوَاتـَهُمُ الزَّاجـِرَة َ ضِدَّ رَغـبَةِ ذلكَ النـَّـفـَر ِ مِـنَ الأنصَار ِ. لـَقـَدْ فـَقـَدَ النـَّاسُ أكثــَرَ صَوَابهمْ بمَوتِ رَسُول ِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فلمَّا أدَارُوا خـَوَاطِرَهُمْ حَولَ مَوضُوع ِ الخِلافـَةِ وَهُمْ فِي جَوِّ الكـَارثــَةِ لا يَزالـُونَ اضَّطرَبَتْ عَـليهمُ الأمُورُ وَاتـَّسَعَ نِطـَاقُ البـَـلبـَـلـَةِ وَالاهتيَاج ِ, فـَعَـلـَتِ الأصَوَاتُ وَاختـَـلـَط َ الكـَلامُ.
صَحـِـيحٌ أنَّ الصِّـدِّيــقَ سَيُـؤثـِـرُ المُهَََـاجـِـريــنَ بالخِلافـَةِ, وَلكنْ ليسَ لأنـَّهُمْ مُهَاجرُونَ أو قـُرَشِـيـُّونَ بَـلْ لأنَّ الهجْرَة َ أعْطـَتـْهُمْ قـَصَبَ السَّبـق ِ فِي الإسلام ِ, فالهجْرَة ُ كانـَتْ نـِهَايَة ً لِمَرحَـلـَةِ العُسْرَةِ التي سُـلــِّط َ عَـليهمْ فِيهَا كـُـلُّ بَأس ِ قـُرَيش ٍ ليُـفـتـَنـُوا عَنْ دِينهمْ فمَا ازدَادُوا إلا َّ إيمَانا ً وَثبـَاتا ً, وَهَـذا هُوَ المِيزَانُ الذي يَزنُ الصِّديقُ بـِهِ النـَّاسَ. وَقـَدِ استـَـنـبـَطـَهُ مِـنْ كِتـَابِ اللهِ إذ يـَقـُولُ اللهُ تعَالى:
{وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } التوبة 100
ثـُمَّ سَيُؤثـِرُ المُهَاجرينَ بالخِلافـَةِ, أيضا ً لأنَّ النـَّـفـَرَ الذيــنَ طـَـلــَبُوا الخِــلافـَـة َ مِـنَ الأنصَــار ِ قــَـدْ حَرصُوا عَـلى أمر ٍ جَرَتْ سُنـَّة ُ الرَّسُول ِ صلى الله عليه وسلم ألا َّ يُمَكـِّنَ مِنهُ مَنْ يَطلـُـبُـهُ أو مَنْ يَحرصُ عَـليهِ، وَإنْ كانَ أحَبَّ النـَّاس ِ إليهِ وَهُوَ الولايَة.
وَإنَّ أبَا بَكر ٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لـَيذكـُرُ ذلكَ اليَومَ الذي ذهَبَ فِيهِ العَـبَّاسُ عَمُّ النـَّبيِّ يَسألـُهُ أنْ يُوَلـِّـيَهُ ولايَة ً, فأجَابَهُ صلى الله عليه وسلم قائلا ً: «إنـَّا وَاللهِ لا نـُوَلـِّي هَذا الأمْرَ أحَدا ً يَسألـُهُ أو أحَدا ً يَحرصُ عَليهِ». ذلكَ لأنَّ مَسؤوليَّة َ الحُـكمِ غـُرْمٌ لا غُـنـْـمٌ, وَتضحـِيَة ٌ لا تـَزكيَة ٌ, وَتكلـِيفٌ لا تـَشريفٌ, فإذا حَرصَ عَـليهَا أحَـدٌ فمَعنى ذلكَ أنـَّهُ لا يُـقـَـدِّرُ المَسؤوليـَّة َ التي تـَنتـَظِرُهُ عِندَهَا.
كانَ خـَطيبُ الأنصَار ِ قائما ً يـَتـَكـَـلـَّمُ, فشَهـِدَ أنْ لا إلهَ إلا َّ اللهُ, وَأثنـَى عَـليهِ بمَا هُوَ أهـلـُهُ, ثـُمَّ قـَـالَ:
{أمَّا بَعدُ: فـَنـَحْنُ أنصَارُ اللهِ وَكتيبة ُ الإسلام ِ, وَأنتـُمْ مَعشَرَ المُهَاجرينَ رَهـْط ٌ قـَدِمُوا عَـلينـَا, فإذا هُمْ يُريدُونَ أنْ يَستأثـِرُوا بالأمر ِ عَلينـَا}!
هـَمَّ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لـِيَـتكـَـلـَّمَ فِي الحَشدِ الثــَّـائر ِ, وَلكنَّ أبَا بَكر ٍ أوْمَـأ إليهِ بـِيَـدَيهِ وَاستأذنـَهُ فِي أنْ يَـبدَأ هُـوَ الحَديثَ،
فقالَ أبُو بَـكر ٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:{يَا مَعشَرَ الأنصَار ِ, إنـَّـكـُمْ لا تـَذكـُرُونَ فضْلا ً إلا َّ وَأنتـُمْ لـَهُ أهـلٌ, فأنتـُمْ أنصَارُ اللهِ وَرَسُولِهِ, وَكـَتيبَة ُ الإسلام ِ, وَلـَنْ يُعرَفَ هَذا الأمْرُ إلا َّ لهذا الحَيِّ مِنْ قـُرَيش ٍ, هُمْ أوسَط ُ العَرَبِ نـَسَبا ً وَدَارا ً}.
هَكذا بَدَأ الصِّديقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قـَولـَهُ, ثـُمَّ رَاحَ الحَديثُ يَنسَابُ مِنْ قـَلبـِهِ, وَمَضَى يُدلِي برَأيهِ فيمَنْ يُرَشِّحُ لِلخلافـَةِ: قالَ أبُو بـَكر: {قـَدْ رَضيتُ لـَكـُمْ أحَدَ هَذين ِالرَّجُـلين ِ: عُمَرَ بنَ الخطـَّابِ، الرَّجُـلَ الذي أعَزَّ اللهُ بـِهِ الإسلامَ, وَأبي عُـبيدَة َ عَامِـرَ بنَ الجَرَّاح ِالذي وَصَفـَهُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بأنـَّهُ أمِينُ هَذِهِ الأمَّةِ}.
وَاقـترَبَ مِنهُمَا أبُو بَـكر ٍ وَتـَوَسـَّطـَهُمَا وَرَفـَعَ ذراعَيهمَا بكلتي يَدَيهِ وَقالَ لِلنـَّاس ِ:{لـَقـدْ رَضيتُ أحَـدَ هَذين ِ الرَّجُـلين ِ: عُمَرَ وَأبي عُبيدَة َ}.
وَارتعَدَتْ يَدُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كأنـَّمَا سَقـَطـَتْ عَـليهَا جَمْرَة ٌ مُـلتـَهـِبَة ٌ, وَغـَضَّ أبُو عُبيدَة َ عَينـََيهِ البَاكـِيـَتـَين ِ فِي حَيـَاءٍ شـَديدٍ، وَصَاحَ عُمَرُ بأعلـَى صَوتِهِ:{وَاللهِ لأنْ أقــَـدَّمَ فيُضَربَ عُـنـُقـِي ــ فِي غـَير ِ إثم ٍ ـ أحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أؤمَّرَ عَـلى قـَوم ٍ فـِيهمْ أبُو بَكر ٍ}.
فتحَدَّثَ رَجُـلٌ مِنَ الأنصَار ِ فقالَ قـَولا ً حَسِبَهُ فـَتحا ً جَديدا ً، وَحَلا ً حَاسِما ً لِلمُشكلـَةِ, قالَ: {منـَّا أميرٌ ومِنكـُمْ أميرٌ}! فقـالَ أبـُو بـَكر ٍالصِّـديقُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ:
{هَيهَاتَ هَيهَاتَ، لا يَجتمِعُ سَيفان ِ فِي غـِمدٍ وَاحِدٍ}! فقالَ الأنصَـاريُّ: {إذا ً لنـُعـِيدَنـَّهَا جَزعَة ً}! فـرَدَّ عَليـهِ عُمـَـرُ:{إذا ً نقتـُـلـُـكَ بـِسَيفـِكَ}.
ثـُمَّ تكلــَّمَ أبـُو عُبـَيدَة َ فقالَ: {يَا مَعشـَرَ الأنصَار ِ: كـُنتـُمْ أوَّلَ مَنْ آوَى وَنـَصَرَ، فـَلا تكـُونـُوا أوَّلَ مَنْ نـَكـَثَ وَغـَدَرَ}.
فهَدَأتْ سَوْرَة ُ الغـَضَبِ عِندَ الأنصَار ِ. وَهـُنـَا قالَ أبُو بَكر ٍ لِعُمَرَ: {ابسُط ْ يَدَكَ نـُبـَايـِعُ لـَـكَ}.
وَلكِـنَّ عُـمَـرَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ خـَـلــَصَ مِنهَـا نـَجـِـيـَّا ً، إذ قــَالَ: {بَـل إيَّـاكَ نـُبـَايـِعُ، فـَأنـتَ أفضـَـل مِنـِّي}.
قـَالَ أبـُو بَـكر ٍ: {أنتَ أقوَى مِنـِّي يـَا عُمَرُ}.
قـَالَ عُمَرُ: {إنَّ قـُـوَّتِـي لـَـكَ مَعَ فـَـضلِـكَ،لا يـَنبَغـِي لأحـَدٍ بَعدَ رَسُول ِ اللهِ أنْ يَكـُونَ فـَوقـَـكَ يَا أبـَا بـَـكر ٍ، أنتَ صَاحِبُ الغـَار مَعَ رَسُول ِاللهِ صلى الله عليه وسلم وَثــَانِيَ اثنين ِ وَأمَّـرَكَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حـِينَ اشتـَكـَى فـَصَـلــَّيتَ بالنـَّاس ِ، فأنتَ أحَـقُّ النـَّاس ِ بهَذا الأمْر ِ}.
فكانَ جَلالُ هَذا المَشهَدِ أبلـَغَ مِـنْ كـُـلِّ مَقال ٍ. فمَا كادَ عُمَرُ يُـلقـِي كـَـلِمـَـتـَهُ هَذِهِ وَيـَتـَقـَدَّمُ بَاسِطا ً يَمـِينـَهُ مُبايـِعا ً أبـَا بـَـكر ٍ حَتـَّى ازدَحَمَ الأنصَارُ، وَوَثــَبَ الجَمْعُ مِـنْ عِلـْيـَةِ الصَّحَابـَةِ يَبتـَدِرُونَ البَيعَة َ، وَكأنـَّمَا دَعَاهُمْ مِـنَ السَّمَاء ِ دَاع ٍٍ, فـَكانـَتْ بَيعَة ُ الانعـِقـَادِ لأبي بـَكر ٍ بالخِلافـَةِ, فـَصَارَ بهذِهِ البَيعَةِ خـَليفـَة ً لِلمُسلمِينَ.
ثـُمَّ كانَ الغـَدُ، فجَـلــَسَ أبُو بـَكر ٍعَـلى المِنبَر ِ، وَتـَكـَـلــَّمَ عُمَرُ بَينَ يَديهِ يـَقـُولُ لِلنـَّاس ِ:
{إنَّ اللهَ قـَدْ جَمَعَ أمرَكـُمْ عَـلى خـَيركـُمْ. صَاحِبِ رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم وَثانِيَ اثنين ِ إذ هُمَا فِي الغـَار ِ، وَأولـَى النـَّاس ِ بأمُوركـُمْ، فـَقـُومُوا فـَبَـايـِعـُوا}.
فكانتِ البَيعَة ُ العَامَّة ُ أي بَيعَة ُ الطـَّاعَةِ، وَغـَرَبَتْ شـَمْسُ ذلكَ اليَوم ِ، وَغـَرَبَتْ مَعَهَا كـُـلُّ الخِلافـَاتِ .
إخوة الإيمان: نكتفي بهذا القدر في هذه الحلقة على أن نتابع معكم في الحلقة
القادمة إن شاء الله بقية الحديث عن مبايعة أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه وأرضاه
بالخلافةِ حتى نهاية عهده بها، وإلى ذلك الحين أستودعكم الله، أستودع الله دينكم وإيمانكم وخواتيم أعمالكم,
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.