هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – من معالم مرحلة التفاعل
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة الثانية والعشرون- من معالم مرحلة التفاعل)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
ومن معالم هذه المرحلة الهامة، مرحلة التفاعل وأساليبها:
أ- تثقيف الناس جماعيًا
بأفكار الإسلام وأحكامه، من خلال دروس المساجد، والندوات والصحف والكتب والنشرات، وذلك لإيجاد الوعي العام عند الناس على أحكام الإسلام وعلى الخلافة (أي إعادة الحكم بما أنزل الله).
وفي هذه المرحلة يقوم الحزب بإفهام الناس أفكاره من خلال كتبه ونشراته وخطب شبابه ومناقشاتهم. [1]
ومن تتبع أعمال الرسول ﷺ في مكة قبل الهجرة، أي قبل إقامة الدولة، يتبين أنه ﷺ كان يعلم المسلمين القرآن ويثقفهم ويحفظهم إياه في حلقات اثنين أو ثلاثة أو أكثر، وكان يرسل المسلمين القدامى من يعلم المسلمين الجدد، كما حصل مع خباب بن الأرث حين كان يعلم فاطمة أخت عمر وزوجها سعيد. وكان ﷺ يعلم المسلمين القرآن جماعات، ويتلوه على الجماهير في الأمكنة العامة كما حصل حين كان يجتمع والمسلمين في دار الأرقم ويتلو عليهم القرآن ويعلمهم إياه، وكما حصل منه حين كان يذهب إلى الكعبة ويتلو القرآن على الجماهير ويدعوهم إلى الإسلام، وكانت قريش تحضر من يقوم أمام الجماهير ليرد على الرسول ﷺ كما حصل حين جاء النضر بن الحارث فناقش الرسول ﷺ أمام الناس فأفحمه الرسولُ ﷺ، وكما حصل حين أتى ابن الزيعري يجلس مكان ما كان الرسول ﷺ جالساً لينقض ما قاله. فهذان العملان قد ثبت قيام الرسول ﷺ فيهما فصار اتباعه واجباً، وهما في واقعهما ثقافة مركزة في تعليمه المسلمين القرآن وجعلهم يحفظونه، وثقافة جماعية في تثقيف المسلمين جميعاً وفي حديثه ﷺ للجماهير في الكعبة، والثقافة الجماعية والثقافة المركزة للمسلمين كان يقوم بهما الرسول ﷺ من أول بعثته، ولكن التحدث إلى الناس في الكعبة قام به بعد أن أظهر الكتلة[2].
وعلى الحزب القيام بمهمة الاتصال بالجماهير اتصالاً أوثق، وأن يكون هذا الإتصال متنوعاً في دروس المساجد ومناقشات المحاضرين والمدرسين والمعلمين وغيرهم، وغشيان المجتمعات أنى وُجِدت، وغير ذلك، وأن يتكرر هذا الإتصال ويتعدد، حتى تتوطد الصلة بين الحزب وبين الجماهير، وأن يطلع الحزب أوسع اطلاع على حالات الناس، محيطاً بأفكارهم ومشاعرهم[3]، لتغييرها، وللقوامة عليها، ولتبني مصالحهم.
العناية الفائقة في تثبيت مفاهيم الحزب عن الإسلام وعن السياسة هي حجر الزاوية. ولذلك كانت الثقافة المركزة في الحلقات تقتضي أن تصحبها الثقافة الجماعية، لانتزاع سلطان الأفكار السائدة في المجتمع، ثم قلعها من جذورها وإحلال الأفكار الإسلامية محلها. وهذا يوجب على الحزب أن يجعل النشاط منصباً ـ مع الناحية السياسية ـ على جعل شباب الحزب الفاهمين الواعين متغلغلين في كافة الأوساط وفي جميع النواحي، متصلين بالناس دائماً وحريصين على هذا الاتصال[4]
بالتثقيف الجماعي يعمل الحزب على تهيئة الأمة لعملية بناء واسعة، وذلك لإيجاد رأي عام على فكرتها وأهدافها والإيمان بقيمها، وبالتالي القيام بعملية صهرية للأمة في بوتقة الحزب. أي تصبح الأمة بمجموعها هي الحزب[5]، وأعضاء الحزب ليسوا سوى لسان الأمة المعبر عن أفكارها ومشاعرها وأهدافها،وأن يجعل ثقتها المطلقة بالحزب، وأن يركز طاعتها الواعية له، وأن تكون قيادتها له، والمبدأ الذي يحمل دعوته، وهو الإسلام، كما فعل ﷺ حين جعل الإسلام على كل لسان، وبالتالي تم له بناء الأمة[6]. وتفصيل ذلك: أن مراد الحزب أن تتبنى الفئة الأقوى في المجتمع فكر الحزب وتتطلع لإقامة كيان على أفكاره، (فتعطيه النصرة، بصفتها قائدة للكيان المجتمعي، تماما كفعل سعد بن معاذ رضي الله عنه) وتحمل باقي المجتمع على تلك الأفكار، فتكون تلك الأفكار هي أفكار الكيان المجتمعي، فتنصهر الفئات كلها في كيان الأمة، فتقوم الدولة، تماما كما فعل الرسول الكريم ﷺ حين صهرالمجتمع المدني كله في أمة خاضعة لحكم الإسلام حتى أهل الذمة ومن لم يسلم بعد!
ب- الصراع الفكري،
ويتجلى في صراع أفكار الكفر وأنظمته، كما يتجلى في صراع الأفكار الخاطئة والعقائد الفاسدة والمفاهيم المغلوطة،والعلاقات المناقضة والمخالفة لما عند الكتلة من أحكام وآراء وأفكار،والتصدي للعلاقات الفاسدة والعادات السيئة، ببيان فسادها، وإظهار خطئها، وبيان حكم الإسلام فيها، وإبراز الأفكار الإسلامية بديلا لها، لتخليص الناس منها ومن آثارها.
لهذا كان من أهم وأبرز المواضيع في فترة ما قبل الدولة بعد موضوع العقيدة هو موضوع المخاصمات كما سماه شاه ولي الله الدهلوي في كتابه الفوز الكبير في أصول التفسير ولهذا نجد الآيات والسور وأحداث السيرة قد تضافرت لمحو ما علق في أذهان الناس من عقائد الشرك وأفكار الكفر مبينة فسادها وكاشفة بطلانها،وفي الوقت الذي كان يبين ذلك ويوضحه كان يدحض ما يخالفه من آراء وأفكار ومعتقدات من حيث أنه لا يمكن للإنسان أن يعتقد عقيدتين متناقضتين ولا يمكن إزالة عقيدة من عقل إنسان إلا بإثبات بطلانها فكان القرآن يقذف بالحق على الباطل فيدفعه فإذا هو زاهق[7].، فالصراع الفكري لازم لتغيير واقع المسلمين لزوم الماء للإنسان!
وأما حكمه: فإن القيام بالكفاح، وهو مهاجمة ما عليه الحكام والناس بالأسلوب اللاذع وبشدة وقسوة، قام به الرسول ﷺ وهناك آيات وأحاديث كثيرة تدل عليه، من قوله تعالى: ﴿إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ، لَوْ كَانَ هَؤُلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ ،﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ﴾، ﴿إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا﴾ وكون الرسول تحمل الكفاح ولم يتركه، وكان الكفار يريدون أن لا يسب آلهتهم فلا يتعرضون له قال تعالى ﴿ودوا لو تدهن فيدهنون﴾ فإن هذا قرينة على أن هذا الكفاح لإقامة دين الإسلام فرض. ويؤيد ذلك أن قريشاً حين ذهبت لأبي طالب فطلبت منه أن يكف الرسول ﷺ عنها، إنما طلبت أن يكف الرسول ﷺ عن سب آلهتها، فقد قالت له: [يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سب آلهتنا وعاب ديننا وسفه أحلامنا وضلل آباءنا فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه]، وقالت له مرة أخرى: [وإنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا وسفه أحلامنا وعيب آلهتنا]. وقد كان جواب الرسول ﷺ قولته المشهورة: «والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته»، والأمر هو الدعوة بطريق الكفاح، من شتم آباء الكفار، وسب آلهتهم، وتسفيه أحلامهم، فهو قرينة على أن هذا الفعل من الرسول ﷺ فرض، وهو دليل على أن الكفاح فرض. ومثلاً كون الرسول ﷺ لم يقم بالكفاح إلا بعد أن خرج في كتلته من المرحلة السرية إلى المرحلة العلنية، أي إلا في مرحلة التفاعل، دليل على أن الكفاح إنما يكون في المرحلة الثانية، وليس الدليل كونه لم يقم بالمرحلة الأولى، بل هو الدليل أن الاقتداء هو أن يكون الفعل الذي يقتدى به هو مثل ما فعله الرسول ﷺ تمام المماثلة. لأن التأسي هو أن تفعل مثل فعله ﷺ على وجهه من أجل فعله. وكلمة على وجهه شرط في التأسي، والوجه الذي فعله الرسول ﷺ هو أنه لم يبدأ في سب آلهتهم إلا في المرحلة الثانية، واقتصر في هذه المرحلة على مهاجمة الكفار وكفرهم بالقول، أي على الكفاح، فلم يقم بالقتال. وكذلك كان يرى الناس يقيمون علاقاتهم حسب أحكام الكفر، وحتى المسلمون كانت علاقاتهم مع الكفار حسب ما كانت عليه في الجاهلية، ولم يطبق الأحكام في العلاقات على المسلمين ولا على غيرهم، فهذا الوجه الذي قام به الرسول ﷺ هو الذي يكون الاقتداء بحسبه[8]. ولهذا يقتدى بالرسول ﷺ في موضوع الكفاح، فلا يقام به إلا في مرحلة التفاعل، ليس لأن الإسلام لم يقم به قبلها، بل لأن الرسول ﷺ إنما قام به فيها، والاقتداء يكون على وجه الفعل. وكذلك لا يقام في مرحلة التفاعل بالقتال، ولا يقام بها في التطبيق، ليس لأن الرسول ﷺ لم يقاتل ولم يطبق، بل لأن فعل الرسول ﷺ في هذه المرحلة الذي طلب فيها الاقتداء به إنما يقام به على الوجه الذي قام به الرسول ﷺ حتى يصح أن يكون اقتداء. فالاقتداء له ثلاثة شروط لا يتم إلا بها، وهي أن تفعل مثل فعله، على وجهه، من أجل فعله. فعدم فعل الرسول ﷺ للكفاح في مرحلة الثقافة لا يدل على حرمة القيام به، ولكن القيام بالكفاح اقتداء بالرسول ﷺ إنما يكون على الوجه الذي قام به، وقد قام به في حال معينة لا في غيرها، أي على وجه فعله.
وهكذا جميع أفعال الرسول ﷺ التي قام بها في حمل الدعوة، وجميع أفعاله ﷺ التي قام بها لإقامة الدولة، يجب الاقتداء به فيها[9].
وحيث أن حجر الزاوية في معالجة الأفكار والمشاعر هو تغيير المفاهيم، كان لا بد من معرفة مدى الرجع الذي يحصل حين إجراء تغيير المفاهيم. أي هل أحدث تغيير الحزب في مفاهيم الناس المغلوطة رد فعل لديهم وتأثيرا عليهم أم لا؟ فإن كان أحدث رد فعل لديهم وتأثيراً عليهم دل ذلك على أن الأفكار التي أعطاها الحزب قد أحدثت مفاهيم عندهم، ودل على أن ما حصل عندهم من أخذ الفكر هو تغيير مفاهيم حقيقة. وأما إن كان لم يحدث رد فعل لديهم مع فهمهم لأفكاره كان ما حصل عندهم هو أخذ معلومات فقط ولم تتغير بها مفاهيم.
معرفة الحزب لأفكار المجتمع ومشاعره ضرورية عند مخاطبة المجتمع، حتى يوجه العناية للأفكار، وحتى يعرف الأفكار التي يجب أن تؤدى في الوقت المناسب. إلا أنه لا بد أن يعلم أن العناية بالأفكار هي جزء من العمل الفكري للحزب، لأن الحزب يجب أن يسعى أولاً لتغيير طريقة التفكير عند الناس، وثانياً لتغيير القاعدة الفكرية التي يبنون عليها أفكارهم، وثالثاً لتغيير الأفكار الموجودة لديهم، ورابعاً لربط جميع الأفكار التي تطرأ عليهم في الحياة بقاعدتهم الفكرية. وهذا يسهل عليه أن يغير الأفكار، ويسهل عليه أن يضمن أن الناس أنفسهم صاروا يغيرون أفكارهم، ويربطونها بقاعدتهم الفكرية. وبذلك يضمن انتقال الأمة الإسلامية ويتحقق الدور الانقلابي.[10]
وطريقة الصراع الفكري تكون بإنزال الأحكام والأفكار على وقائعها، وبيان الفساد دائما برسم الخط المستقيم بجانب الخط الأعوج، ولكن لا طعوناً شخصية، واستفزازات فردية، بل مناقشات فكرية تقوم دائما على وضع الخط المستقيم بجانب الخط الأعوج.
“والصراع الذي يحصل مع كونه صراعاً فكرياً فهو صراع مفاهيم ومقاييس وقناعات، وليس صراع أفكار مجردة، ولذلك يتناول العلاقات العامة، والمصالح العامة، لأنه يريد أن يحطم الصفة الكيانية الفاسدة للأمة، بتحطيم المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يتكون عليها الكيان، لا تحطيم الأمة، ولا أي فرد منها، إذ أنه يسعى لأخذ الأمة، ورفع شأنها، واستبدال كيانها الحالي بإعطائها كياناً أفضل منه، يصبح كيانها المتميز بالرفعة والسمو. ويريد أن يحطم الصفة الكيانية للدولة بتحطيم المفاهيم والمقاييس والقناعات التي يتكون عليها، لا تحطيم السلطان. إذ أنه يسعى لأخذه واستبدال كيانه الحالي بإعطائه كياناً جديداً على أساس المفاهيم والمقاييس والقناعات الجديدة. ولهذا فصراع الحزب ككيان فكري يكون للكيانين التنفيذي والمجتمعي. فالعمل مسلط على الكيانين لا على غيرهما، وتسليطه إنما يكون بتسليط كيان على كيان. وبما أن كيان الدولة هو الذي يملك السلطان، وهو الذي يتولى إدارة كيان الأمة، فإن مظهر الصراع يكون واضحاً أنه لكيان الدولة فحسب، وإن كان هو في حقيقته مسلطاً على الكيانين”[11].
[1] نشرة جواب سؤال 23من ذي الحجة 1381هـ – 26/5/1962م.، وانظر: الباحث عن الخلافة لزياد أحمد سلامة.
[2]مجموعة النشرات التكتلية، جواب أسئلة.
[3]نشرة التحريك السياسي. صدرت في عام 1955م
[4]نقطة الانطلاق لحزب التحرير ص 4.
[5]غني عن القول هنا أن المقصود ليس أن تتكتل الأمة كلها في جسم الحزب، بل أن يحملها أفكاره ويبني فيها وعيا عاما على تلك الأفكار فتنقاد للأفكار، فتجعل طلب الخلافة وتحكيم الشريعة مطلبا لها، وتنقاد للفكر الإسلامي وترفض أفكار الكفر والطاغوت، وذلك من خلال الفئة الأقوى في المجتمع التي تحمل باقي الفئات على رأيها بعد أن تنصهر هي في فكر الحزب ودعوته وتعطيه نصرتها.
[6]مجموعة النشرات التكتلية
[7]نهج القرآن في الدعوة لحافظ صالح
[8]الفرق بين حال المسلمين في المرحلة الأولى في مكة وبين حالنا الآن، أن أحكام الإسلام لم تكن قد اكتمل نزولها، فلم يكن المسلمون آنذاك مطالبين بأكثر من التمايز العقدي مع الآخرين، وأما نحن الآن وفي مرحلة (الصراع الفكري وقبل قيام الدولة المنشودة) فالأحكام الشرعية مكتملة لا مجال لتجاوزها، لذا فالمسلمون الان مطالبون ـ على المستوى الفردي ـ بتطبيق أحكام الإسلام في هذا المجال، وأما الأحكام التي تحتاج إلى وجود دولة وقيامها كإقامة الحدود، فتترك دون تطبيق، ولا يجوز للأفراد القيام بمسؤولية الدولة في حال غيابها، وأما الأحكام التي تطبقها الدول القائمة في العالم الإسلامي الآن، فيطبق المسلمون ويلتزمون بالأحكام المنبثقة من الإسلام كقوانين الأحكام الشخصية، وأما ما تعارض مع أحكام الإسلام فلا يقومون بتنفيذه.
[9]مجموعة النشرات التكتلية، أجوبة أسئلة.
[10]نقطة الإنطلاق لحزب التحرير ص 7
[11]دخول المجتمع.