هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – أدلة ثبوت طلب النصرة
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة السابعة والعشرون – القسم الأول – أدلة ثبوت طلب النصرة)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
أدلة ثبوت طلب النصرة:
زعم أقوام[1] أنه ليس ثمة من دليل شرعي على وجوب طلب النصرة، وأن الرسول ﷺ إنما كان يطلب الحماية والمنعة لا أكثر. وهم لا يميزون بين الجوار، وبين المنعة، فكونه ﷺ دخل مكة في جوار المطعم بن عدي ليحميه، وكونه ﷺ كان في منعة من قومه بني هاشم، حتى إذا هلك أبو طالب ناله الأذى من قريش، إلا أن المنعة التي كان يقصدها من القبائل تفوق حمايته الشخصية، إلى منعة حماية وحرب دونه، واستعداد لدم وهدم، كما في نصوص البيعة مثلا، وبالتالي فهي منعة لا تقوم إلا بأعمال دولة، رعاية لكيان قد يتعرض لقتال فيحتاج لمنعة ونصرة، وهذا ما ستجده جليا بعد قليل إن شاء الله تعالى.
جاء في كتاب “منهج حزب التحرير في التغيير” لذلك قام الحزب بإضافة طلب النصرة إلى الأعمال التي يقوم بها. وأخذ يطلبها من القادرين عليها. وقد طلبها لغرضين اثنين:
الأول: لغرض طلب الحماية حتى يستطيع أن يسير في حمل الدعوة وهو آمن.
الثاني: الإيصال إلى الحكم لإقامة الخلافة وإعادة الحكم بما أنزل الله في الحياة والدولة والمجتمع.[2]
1. مع ما جاء في بعض كتب السير والتراجم أن رسول الله ﷺ كان يطلب الحماية من القتل من القبائل التي قصدها كما أورد الذهبي في سير أعلام النبلاء عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، قال: «كان رسول الله ﷺ في تلك السنين يعرض نفسه على قبائل العرب في كل موسم، ويكلم كل شريف قوم، لا يسألهم مع ذلك إلا أن يئووه ويمنعوه، ويقول: لا أكره أحدا منكم على شيء، من رضي منكم بالذي أدعوه إليه فذاك، ومن كره لم أكرهه، إنما أريد أن تحرزوني مما يراد بي من الفتك (القتل)؛ حتى أبلِّغ رسالات ربي، وحتى يقضي الله لي ولمن صحبني بما شاء. فلم يقبله أحد ويقولون: قومه أعلم به، أترون أن رجلا يصلحنا وقد أفسد قومه، ولفظوه، فكان ذلك مما ذخر الله للأنصار»[3]. إلا أن هناك عبارات في حواراته ﷺ مع القبائل التي قصدها وطلب منها (الحماية والنصرة والمنعة) تدل على أن الأمر أكثر من حمايته ﷺ من القتل، وتمكينه من تبليغ الرسالة بأمان، بل فيها ما يشير إلى طلب أن تكون له هذه القبيلة قاعدة انطلاق وجيشاً مقاتلاً ومواجهات مع الآخرين، بل وفيها شيء من (السلطة؛ أي الدولة، ولمن الحكم من بعده؟)، ومن ذلك:
أ- ما قاله بيحرة (وقيل بحيرة) بن فراس من بني عامر بن صعصعة: أرأيت إن نحن بايعناك على أمرك ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك؟ فقال له النبي ﷺ: «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء»، فقال: أفنهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا؟ لا حاجة لنا بأمرك[4]. فبنو عامر هؤلاء يفاوضون الرسول ﷺ على الزعامة والسلطة بقولهم “أيكون لنا الأمر من بعدك؟” وفي الجواب الكريم دلالة أيضاً على أمر السلطة والزعامة عندما قال لهم بأنه لا يعدهم بذلك «الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء» ” فكلا الفريقين كان واضحاً له ما يريد ويقصد الطرف الآخر.
ب- جاء في تاريخ ابن كثير:، قال: (قال عبد الله بن الأجلح: وحدثني أبي عن أشياخ قومه أن كندة قالت له: إن ظفرت تجعل لنا الملك من بعدك؟ فقال رسول الله ﷺ: «إن الملك لله يجعله حيث يشاء»، فقالوا لا حاجة لنا فيما جئتنا به)![5].
ت- كذلك ما حدث مع بكر بن وائل، فكما جاء في ابن كثير: «فأتى بكر بن وائل فقال ممن القوم؟ قالوا من بكر بن وائل. فقال من أي بكر بن وائل؟ قالوا من بني قيس بن ثعلبة. قال كيف العدد؟ قالوا كثير مثل الثرى. قال فكيف المنعة؟ قالوا لا منعة جاورنا فارس فنحن لا نمتنع منهم ولا نجير عليهم. قال: “فتجعلون لله عليكم إن هو أبقاكم حتى تنزلوا منازلهم، وتستنكحوا نساءهم، وتستعبدوا أبناءهم أن تسبحوا الله ثلاثا وثلاثين، وتحمدوه ثلاثا وثلاثين، وتكبروه أربعا وثلاثين ” قالوا ومن أنت؟ قال أنا رسول الله. ثم انطلق»[6]فالرسول ﷺ يحدثهم عن حرب الفرس وما سيحدث لهم من فتوحات لديارهم، وهل كان ذلك سيتحقق بدون جيش نظامي يقابل جيش الفرس المنظم، والجيش النظامي يعني الدولة والسلطة والقوة والنظام[7].
الشاهد هنا تجلية مفهوم النصرة، بأنَّ جزءاً لا يتجزأ منها: إقامة سلطان يحارب الفرس والعرب، لا العرب وحدهم، فإن لم يكن متضمنا لنصرة الدين وإحاطته من جميع جوانبه، فلا تقبل، وقد أراد أبو بكر رضي الله عنه أن يتأكد من وجود المنعة الحقيقية، فسأل عن العدد والمنعة والحرب بينهم وبين أعدائهم، ففهم من سؤاله مسألة وجود معاهدات قد تخل بتحقيق مفهوم إقامة دولة لها كيان قابل للاتساع، فجاوبوه بأن بينهم وبين الفرس مثل ذلك العهد، فكان هذا السبب مؤذناً بعدم قبول الرسول ﷺ منهم، مما يؤكد أن السؤال إنما كان لأجل هذا، خصوصاً وأن الرسولﷺ بين لهم أنهم إن نصروه على الفرس مع العرب، فإن الله سيورثهم أرض الفرس وأموالهم. وهذا ولا شك يتعدى مجرد طلبه الحماية الشخصية، أو أن يبلغ دعوته، ففي ذلك دلالة على سلطان ودولة وجيش ونصرة ومنعة تجابه إحدى أعظم ممالك الأرض وتنتصر عليها!
ث- ما قاله الرسول ﷺ للأنصار عند بيعة العقبة الثانية إذ قالوا للرسول ﷺ: يا رسول الله، على ما نبايعك؟ قال: «تبايعوني على السمع والطاعة في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا تأخذكم لومة لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمت عليكم، وتمنعوني مما تمنعون عنه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة »[8]
فالثلاثة والسبعون رجلاً والمرأتان الذين جاؤوا لبيعة العقبة الثانية والذين أحضرهم مصعب بن عمير لبيعة الحرب بعد أن استعدوا للنصرة ولذلك لم يقل لهم الرسول ﷺ ما كان يقول لمن يطلب منهم النصرة من ثقيف والقبائل (الإسلام ثم النصرة) وإنما طلب منهم البيعة، فهم قد جاءوا لبيعة الحرب واستعدادهم للنصرة كان قبل ذلك أي قبل حضورهم للرسول ﷺ [9].
تأمَّلْ قوله ﷺ مشترطاً في البيعة: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم»، وتأمَّلْ قول البراء بن معرور: (نعم، والذي بعثك بالحق، لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا! فبايعنا! يا رسول الله! فنحن أهل الحروب، وأهل الحلقة، ورثناها كابرا عن كابر!) قال: فاعترض القول والبراء يكلم رسول الله ﷺ أبو الهيثم بن التيهان حليف بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها (يعني العهود) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟! قال فتبسم رسول الله ﷺ ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم ،أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم، وأسالم من سالمتم!».
ج- ورد في البداية والنهاية لابن كثير: وقد روى الحافظ أبو نعيم من طريق عبد الله بن الأجلح ويحيى بن سعيد الأموي كلاهما عن محمد بن السائب الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن العباس قال: قال لي رسول الله ﷺ: «لا أرى لي عندك ولا عند أخيك منعة فهل أنت مخرجي إلى السوق غدا حتى نقر في منازل قبائل الناس».
مما يدل على أن المنعة التي يطلبها الرسول ﷺ تتعدى منعه شخصيا من أن يصاب بأذى، إلى منعةٍ تمكنه من إقامة دولة، فقد كان أبو طالب والعباس يمنعان الرسول ﷺ من أن تصيبه قريش بأذى، فبين هنا أن هذه المنعة لا تكفي، وهذا ما تصدقه الروايات الأخرى التي تبين السؤال عن العدد والمنعة والحرب فإن وجدت تحققت المنعة التي تمكن من إقامة الدولة.
ح- ورد في سيرة ابن هشام: [سَعْيُ الرّسُولِ ﷺ إلَى ثَقِيفٍ يَطْلُبُ النّصْرَةَ ]:
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: «وَلَمّا هَلَكَ أَبُو طَالِبٍ نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللّهِ ﷺ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَنَالُ مِنْهُ فِي حَيَاةِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ فَخَرَجَ رَسُولُ اللّهِ ﷺ إلَى الطّائِفِ، يَلْتَمِسُ النّصْرَةَ مِنْ ثَقِيفٍ، وَالْمَنَعَةَ بِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ وَرَجَاءَ أَنْ يَقْبَلُوا مِنْهُ مَا جَاءَهُمْ بِهِ مِنْ اللّهِ عَزّ وَجَلّ فَخَرَجَ إلَيْهِمْ وَحْدَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ زِيَادٍ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ لَمّا انْتَهَى رَسُولُ اللّهِ ﷺ إلَى الطّائِفِ، عَمَدَ إلَى نَفَرٍ مِنْ ثَقِيفٍ، هُمْ يَوْمَئِذٍ سَادَةُ ثَقِيفٍ وَأَشْرَافُهُمْ وَهُمْ إخْوَةٌ ثَلَاثَةٌ عَبْدُ يَالَيْل بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَمَسْعُودُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، وَحَبِيبُ بْنُ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْدَةَ بْنِ غِيرَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ ثَقِيفٍ، وَعِنْدَ أَحَدِهِمْ امْرَأَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ مِنْ بَنِي جُمَحٍ فَجَلَسَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللّهِ ﷺ فَدَعَاهُمْ إلَى اللّهِ وَكَلّمَهُمْ بِمَا جَاءَهُمْ لَهُ مِنْ نُصْرَتِهِ عَلَى الإسلام وَالْقِيَامِ مَعَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ مِنْ قَوْمِهِ».
وقال ابن كثير: قال ابن إسحاق: «فلما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله ﷺ من الأذى مالم تكن نالته منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله ﷺ إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة و المنعة بهم من قومه و رجا أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله تعالى»[10]
فهنا يتلمس النصرة، والمنعة، لا المنعة وحدها. ففي الروايتين نجد ذكر: المنعة بهم من قومه، والقيام معه على من خالفه من قومه، فتعدّا مسألة المنعة إلى النصرة والقيام على من خالفه من قومه[11].
[1]جواد النتشة في كتابه “الطريق إلى الدولة الإسلامية عند حزب التحرير” وأبو بصير الطرطوسي، مقال بعنوان: “الطريق إلى استئناف حياة إسلامية وقيام خلافة راشدة على ضوء الكتاب والسُّنَّة” وغيرهما الكثير!! وسنناقش آراءهما هنا إن شاء الله.
[2]منهج حزب التجرير في التغيير، ص49
[3]محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي: سير أعلام النبلاء، مؤسسة الرسالة، 1422هـ = 2001م، ج26 ص 231 (حسب الطبعة المنشورة على الإنترنت).وابن كثير: البداية والنهاية 3/140
[4]سيرة ابن هشام، ج2 ص 39 – 40، دار الصحابة للتراث بطنطا، 1995
[5]ابن كثير في البداية والنهاية: 3/140
[6]ابن كثير في البداية والنهاية 3/140
[7]كما أشرنا سابقا في حديث خباب بن الأرت: «ألا تدعو لنا»، يدل هذا هنا على السلطان من باب دلالة الإقتضاء، فراجعه.
[8]الحاكم النيسابوري: المستدرك على الصحيحين، 1418هـ = 1998م، ج3 الحديث4310 وجاء في المستدرك:هذا حديث صحيح الإسناد جامع لبيعة العقبة ولم يخرجاه”.
[9]الباحث عن الخلافة، زياد أحمد سلامة.
[10]سيرة ابن كثير
[11]هذا إسناد صحيح مرسل، يزيد بن زياد ثقة، ومحمد بن كعب القرظي، تابعي ثقة، إمام في المغازي. المنعة؛ وطلب النصرة، محمد المسعري.