هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟ – أدلة وجوب طلب النصرة
هل حدد الرسول ﷺ طريقةً لإقامة الدولة الإسلامية؟
للكاتب والمفكر ثائر سلامة – أبو مالك
(الحلقة الثامنة والعشرون – القسم الثاني – أدلة وجوب طلب النصرة)
للرجوع لصفحة الفهرس اضغط هنـا
وجوب طلب النصرة:
- كذلك فقد رفض الرسول ﷺ الطرق الأخرى التي قد تؤدي في نهاية المطاف إلى قيام الدولة، فقد رفض المُلك والجاه والمال وغير ذلك كما في السيرة النبوية، فهذا أبو الوليد عتبة بن ربيعة وكان سيداً في قومه في مكة يقترح على قومه أن يذهب إلى سيدنا محمد ﷺ ويعرض عليه تسوية ما؛ فذهب إلى الرسول ﷺ وعرض عليه بعض العروض؛ ولنستمع إلى ابن هشام وهو يقص الحادثة؛ قال (ابن هشام): “قال ابن إسحاق: «وحدثني يزيد بن زياد عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، قَالَ حُدّثْت أَنّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ الله ﷺ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ؛ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ: أَلا أَقُومُ إلَى مُحَمّدٍ فَأُكَلّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أُمُورًا لَعَلّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيّهَا شَاءَ وَيَكُفّ عَنّا؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ الله ﷺ يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ قُم إليه فَكَلّمْهُ. فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ الله ﷺ، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِن السّطَّةِ (الشرف) فِي الْعَشِيرَةِ وَالْمَكَانِ فِي النّسَبِ، وَإِنّك قَد أتَيْت قَوْمَك بِأَمْرِ عَظِيمٍ؛ فَرّقْت بِهِ جَمَاعَتَهُمْ وَسَفّهْت بِهِ أَحْلامَهُمْ وَعِبْت بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ وَكَفّرْت بِهِ مَنْ مَضَى مِن آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنّي أَعْرِضْ عَلَيْك أُمُورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلّك تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ الله ﷺ: قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؛ أَسْمَعْ. قَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إنْ كُنْت إنّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأمْرِ مَالا جَمَعْنَا لَك مِن أمْوَالِنَا حَتّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوّدْنَاك عَلَيْنَا، حَتّى لا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَك، وَإِنْ كُنْت تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلّكْنَاك عَلَيْنَا؛ وَإِنْ كَانَ هَذَا الّذِي يَأْتِيك رِئْيًا تَرَاهُ لا تَسْتَطِيعُ رَدّهُ عَنْ نَفْسِك، طَلَبْنَا لَك الطّبّ، {وكانوا يسمون التابع من الجن رئيا} وَبَذَلْنَا فِيهِ أموالنا حتى نبرئك منه فإنه ربما غَلَبَ التّابِعُ عَلَى الرّجُلِ حَتّى يُدَاوَى مِنْهُ أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ. حَتّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ وَرَسُولُ الله ﷺ يَسْتَمِعُ مِنْهُ قَالَ: أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَاسْمَعْ مِنّي؛ قَالَ: أَفْعَلُ. فَقَالَ: بِسْمِ الله الرّحْمَنِ الرّحِيمِ ﴿حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ كِتَابٌ فُصّلَت آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنّةٍ مِمّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ﴾ ثُمّ مَضَى رَسُولُ الله ﷺ فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ. فَلَمّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ ثُمّ انْتَهَى رَسُولُ الله ﷺ إلَى السّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمّ قَالَ قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ فَأَنْت وَذَاكَ»[1]. وورد أن الرسول ﷺ قد قال لهم أيضاً:” «ما بي ما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليَّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي، ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به، فهو حظكم من الدنيا والآخرة، وإن تردوا عليَّ؛ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم».”[2]
- اعتبار إقامة الخلافة الإسلامية من أحكام الطريقة، ولتوضيح ذلك قيل بأن “المبدأ هو فكرة وطريقة، وطريقته وفكرته من نفس الجنس، وهما من عند الله سبحانه وتعالى، فلا يجوز مثلاً أن تحمل فكرة الإسلام إلى العالم الخارجي عن طريق الاستعمار والتبشير كما في الرأسمالية، أو عن طريق الإضرابات والفوضى وإيجاد التناقضات كما في الاشتراكية الماركسية، بل تحمل فكرة الإسلام إلى العالم الخارجي عن طريق الجهاد فقط”[3] فلما كانت الفكرة من جنس الطريقة فهذا يعني أن معالجة أي مشكلة يجب أن تكون وفق أحكام الشريعة الإسلامية، فإذا كانت الفكرة هي العقيدة الإسلامية وهي مجموع أفكار وأحكام الإسلام؛ فإن الطريقة هي “الأحكام التي تبين كيفية تنفيذ الفكرة، أي كيفية تنفيذ العقيدة وكيفية تنفيذ الأحكام الشرعية من مثل أحكام الجهاد وأحكام الغنائم وأحكام الفيء وأحكام المرتد…إلخ.[4] والتقيد بالطريقة فرض وعدم التقيد بها إثم[5] وإقامة الدولة الإسلامية هي الطريقة لتطبيق الفكرة (العقيدة الإسلامية) وإقامة الدولة تكون حسب الطريقة التي كون بها الرسول ﷺ الدولة الإسلامية، وهي أعمال منها “طلب النصرة”.
- السؤال الذي يرد إلى الذهن: لماذا كان الرسول ﷺ دائم الاتصال بالقبائل وأصحاب القوة ويطلب منهم “النصرة والحماية والمنعة” ثم يعود إلى بيته دون أن تحاول قريش التعرض له بشكل يمنعه عن الاستمرار في دعوته، ولم يبلغ الحنق من قريش على الرسول ﷺ والتآمر على حياته إلا بعد أن [أخذ النصرة] من الأنصار وأراد الهجرة إلى المدينة؟ ألا يدل ذلك على أن [المنعة والنصرة] التي كان يطلبها الرسول ﷺ هي أكثر من مجرد الحماية، فهي إذاً طلبٌ للحماية وأمر آخر، أليس هو [التمكن من السلطة]؟ أي اتخاذ طلب النصرة طريقة لتأسيس الدولة؟
- وحين دراسة نصوص السيرة التي ذكرت طلب الرسول ﷺ النصرة من تطبيق دلالات الألفاظ[6] عليها، لنجد أنها تفيد طلب النصرة على إقامة الدولة بدلالة فحوى الخطاب، وبدلالة إشارة اللفظ، وبدلالة المطابقة أي لفظ النصرة مطابق لمفهوم النصرة كما جلته الأحاديث ووضحته. وهذا ما أشرنا إليه سابقا في النقطة “ذ” أعلاه حين ذكرنا قصة طلب النصرة من بني شيبان، وفي النقطة “8” أعلاه، من كون الرسول ﷺ يطلب المنعة ويعود لبيته دون أن يتعرض لأذى من قريش، مما يدل على أنه يطلبها لا لمجرد الحماية الشخصية، بل فوق ذلك لتكون منعة تنصر الدين وتحارب من دونه.
طلب النصرة ليس نظير الانقلاب العسكري:
إنه من الخطأ بحال القول بأن طلب النصرة هو الانقلاب العسكري، والربط بين الأمرين وإن كان موجودا إلا أن فيه لبس لا بد من توضيحه.
فطلب النصرة هو حكم شرعي يقوم بموجبه طالب النصرة بطلب النصرة من أجل أن يمكن ليقيم شرع الله تعالى في كيان سياسي تنفيذي هو الدولة، وهذا الحكم لا يتحقق إلا إذا حقق مناط تطبيقه، فالرسول ﷺ قال للعباس «لا أجد فيك ولا في أخيك منعة » وطلب النصرة بعدها من القبائل وهذا يبين لنا كيف يحقق مناط الحكم، ومن تتبع سيرته ﷺ في طلبه للنصرة نجده قد طلبها ممن يستطيع أن يمكنه، والحديث الذي يذكر طلبه النصرة من بني شيبان، وسؤاله إياهم كيف المنعة فيكم مثال رائع يوضح ذلك تمام التوضيح فلا حاجة للتكرار فيه. وهنا إن تحققت النصرة ممن طلبت منه ينتقل إلى النقطة التالية وهي كيفية تسليم الحكم لطالب النصرة.
أما الانقلاب فإنه ليس حكما شرعيا، ولذلك فإن القول أنه بعينه طلب النصرة يعني أنه حكم شرعي وبالتالي هو من الطريقة فلا بد من أخذ الحكم بالانقلاب، وهذا غير صحيح، إذ أن الانقلاب أسلوب من أساليب أخذ الحكم يقوم به أهل النصرة (وفق ما يرونه باعتبارهم القادرين على إعطاء الحكم)، فقد يقول أهل النصرة لطالبها نعطيك الحكم بانقلاب، وقد يقولون له لا حاجة لانقلاب بل نعلنك خليفة ويظل الحاكم الأصلي في قصره ولن يستطيع أن يفعل شيئا، أو كما يقال (يسحب البساط من تحت قدميه) فالانقلاب وسيلة يقررها أهل النصرة (من بيدهم إعطاء الحكم) وهم أهل القوة والتأثير في البلد، وقد أعطى الأنصار الرسول ﷺ النصرة دون أن يقوموا بانقلاب لأنهم كانوا الحكام الفعليين في يثرب. على أن الوسيلة تخضع لقاعدة عدم مخالفة الشرع.
وطلب النصرة ليس مرحلة من مراحل العمل بل هو عمل من أعمال المرحلة، فالمراحل الثلاث هي التثقيف والتفاعل واستلام الحكم، وطلب النصرة حكم من أحكام الطريقة لتسلم ا لحكم عن طريق الأمة سواء أكان عن طريقها مباشرة أم عن طريق الفئة القوية المؤثرة فيها.
[1] ابن هشام: السيرة النبوية: حققها وضبطها مصطفى السقا وإبراهيم الإبياري وعبد الحفيظ شلبي، مطبعة مصطفى البابي الحلبي بمصر 1355هـ = 1936م، ج1، ص 313وانظر كذلك الحافظ ابن كثير: البداية والنهاية، منشورات مكتبة المعارف، بيروت، ج3، ص
50
[2] سيرة ابن هشام 1/316 (أنصح بالعودة إلى كتاب الشهيد سيد قطب ـ معالم في الطريق ـ وقراءة تحليله الرائع حول رفض الرسول ﷺ العروض القرشية، ورفضه ﷺ استخدام أسلوب “الخطوة خُطوة” لتحقيق الهدف، أي رفض الحلول الوسطى، معالم في الطريق، ص 23ـ 31 فصل “طبيعة المنهج القرآني”
[3] انظر:عبد الرحمن الجذامي: من أحكام الطريقة، شوال 1413هـ ص
3
[4] نشرة بعنوان “أجوبة أسئلة” بتاريخ 26جمادى الآخرة 1383هـ = 14/9/1963م (ملف النشرات الفكرية ص 131).
[5] نشرة بعنوان “أجوبة أسئلة” بتاريخ 26جمادى الآخرة 1383هـ = 14/9/1963م (ملف النشرات الفكرية ص 132).وانظر: محمد الشويكي: الطريق إلى دولة الخلافة، ط2، بيت المقدس، ص 40وما بعدها.
[6] كيف تدل الألفاظ على الحكم، باب: دلالات الألفاظ أنظر كتاب الأستاذ فتحي سليم: الاستدلال بالظني في العقيدة.