الاستخلاف والتمكين
إذا سألنا ما الغاية أو الحكمة التي خلقنا من أجلها الله؟ يكون الجواب من الناس عامة هو قول الله تعالى ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾. نعم صحيح ولكن الكثير من الناس فهموا من هذه الآية أن مهمة البشر هي الصلاة والصيام والحج والزكاة وغيرها من الأعمال الصالحة المعروفة بين الناس، وغفل هؤلاء الناس عن قصة النبي ﷺ عندما كان يقرأ قول الله تعالى ﴿اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾، وكان عدي بن حاتم يسمع وكان نصرانياً قبل إسلامه، فقال قلت: يا رسول الله، إنا لسنا نعبدُهم! فقال: «أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟» قال: قلت: بلى! قال: «فتلك عبادتهم»! وغفلوا عن قول الله للملائكة: ﴿إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾، فمهمة البشر هي أن يكونوا خلفاء الله في الأرض في تطبيق أحكامه من عبادات ومعاملات بين الناس، هذه هي المهمة الحقيقية للبشر.
ولكن الناظر لحال المسلمين اليوم يجد أن المسلمين ليسوا خلفاء الله في الأرض في تطبيق أحكامه، بل وأكثر من ذلك، فهم مستضعفون يتسلط عليهم الكفار عن طريق حكام خونة باعوا الدين والأرض والعرض، فماذا يجب أن يفعل المسلمون حتى يرجع لهم سلطانهم المغتصب وعزّهم المسلوب؟؟
يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾، فكما أنّ الله هو الرزاق وهو المحيِ وهو المميت، فإنّ الله سبحانه يُخبرنا بأنه هو الذي يعطي الملك وينزعه من البشر كيفما يشاء، فمثلما أننا مؤمنون بأنه هو الرزاق وهو المحيي والمميت يجب علينا أن نؤمن بأن الله هو الذي ينزع ويعطي الملك للبشر مثلما يعطي الرزق.
فهذا فرعون جمع جيشه وتبع بني إسرائيل الذين آمنوا بموسى عليه السلام ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ﴾ أي إن موسى عليه السلام طلب العون من الله سبحانه وتعالى، ولم يطلبه من أحد غيره، مع أن موسى وقومه كانوا مستضعفين ولا يملكون قوة لمجابهة جيش فرعون، مع ذلك لم يطلب موسى العون والمدد إلا من الله.
وبعدها قال تعالى: ﴿وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾.
فما المطلوب مني ومن المسلمين عمله حتى ينزع الله ملك الطواغيت في هذه الأيام ويُعطينا إياه؟ أي ما المطلوب من المسلمين حتى يكونوا مُستخلفين في الأرض وهي المهمة التي خلق الله البشر لينفذوها؟ يقول الله سبحانه في كتابه العزيز: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾. أي أن أهم عمل يقوم به الناس باتباع كتاب الله هو القيام بالقسط بين الناس، وذلك لا يتم إلا عن طريق مشروع سياسي يُدير الدولة التي تؤمِّن للناس القسط والعدل أو في حالتنا هذه في الشام، فالمطلوب أن تتبنى الجماعات المقاتلة مشروعاً سياسيا يُؤمِّن للناس القسط بعد أن يتوحدوا. ولكن إذا لم تُؤمِّن هذه الجماعات القسط وفق شرع الله سبحانه وتعالى، فإن الله لن ينزع الملك من الطاغوت ولن يعطينا إياه ولن نكون خلفاءه في الأرض، ففي زمن عمر بن الخطاب كان الفاروق يُحب أخاه زيداً، وكان زيدٌ هذا قد قُتل في حروب الردّة، وذات نهار بسوق المدينة يلتقي الفاروق وجهاً لوجه بقاتل زيد وكان قد أسلم وصار فرداً في رعيته، يخاطبه الفاروق غاضباً: (والله إنّي لا أحبك حتى تحب الأرض الدم المسفوح)!! فيسأله الأعرابي متوجساً: (وهل سيُنقص ذاك من حقوقي يا أمير المؤمنين؟)، ويُطمئنه أمير المؤمنين (لا)، فيغادره الأعرابي بمنتهى اللامبالاة قائلاً: (إنما تأسى على الحب النساء). أي مالي أنا وحبّك إذ ليس بيني وبينك غير الحقوق والواجبات.
وفي زمن عمر أيضاً كان رضي الله عنه وهو المعروف بشدته وقوة بأسه كان يُعد موائد الطعام للناس في المدينة ذات يوم فرأى رجلاً يأكل بشماله فجاءه من خلفه، وقال: يا عبد الله كل بيمينك، فأجابه الرجل: يا عبد الله إنها مشغولة، فكرّر الفاروق القول مرّتين فأجابه الرجل بنفس الإجابة، فقال له عمر: وما شغلها؟، فأجابه الرجل: أُصيبت يوم مؤتة فعجزت عن الحركة، فجلس إليه عمر وبكى وهو يسأله: من يوضئك؟ ومن يغسل لك ثيابك؟ ومن يغسل لك رأسك؟ ومن..، ومن..، ومن..؟ ومع كل سؤال ينهمر دمعه… ثم أمر له بخادم وراحلة وطعام وهو يرجوه العفو عنه لأنّه آلمه بملاحظته على أمر لم يكن يعرف أنه لا حيلة له فيه. هكذا يكون القسط فإن لم نُحقّق القسط بين الناس لن يستخلفنا الله، ولن ينزع الملك من يد الطواغيت ولن يعطيه لنا.
وإذا استعرضنا القرآن الكريم سنجد أنه يحتوي على الكثير من قصص اليهود وكأن الله يقول للصحابة أنه بسبب أفعال اليهود ومعاصيهم وظلمهم لأنفسهم وغياب العدل والقسط عندهم نزعتُ الملك منهم وأعطيته للمسلمين، وإذا فعلتم فعالهم فسأنزعه منكم، وهذا ما حدث.
وأخيراً أقول ما قاله الله تعالى في كتابه: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾.
فما هي الأعمال الصالحة التي يجب علينا فعلها حتى نُستخلف في الأرض؟
الأعمال هي امتلاك مشروع سياسي إسلامي فيه حلّ لمشاكل الأمة وتخليص لمعاناتها وجمعها عليه ومن ثم طلب النصرة من أهل القوة كما فعل النبي ﷺ لنُخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن ثم يتحقق فينا قول الله ﴿وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ﴾، فهذا هو العمل المطلوب من الأمة من أجل الاستخلاف.
كتبه لإذاعة المكتب الإعلامي المركزي لحزب التحرير
أحمد إدلبي